أعلن الجنرال شارل ديغول في عام ١٩٥٨ عن مشروع سياسي جديد لاحتواء الثورة الجزائرية للتحرر الوطني من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي المندلعة آنذاك، أطلق عليه تسمية «سلام الشجعان». وقد باءت محاولاته الدؤوبة للتفاوض والمساومة مع الثوار بالفشل، حيث أصرّ الثوار على التحرير الكامل وغير المنقوص، وهو ما أذعن له ديغول، وفرنسا معه، في عام ١٩٦٢. وقد قامت الولايات المتحدة بإعادة توظيف هذه اللغة الاستعمارية لـ «السلام»، والتي تم تعديلها إلى «عملية السلام» في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عند التعاطي مع الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين وعدوان إسرائيل على جيرانها العرب. وهكذا أضحى الاستعمار الإسرائيلي للأراضي العربية «صراعًا» أو «نزاعًا» (وإن كان أحد لم يصف البتة المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي بأنها «صراع»)، وأضحت نضالات التحرر من الاستعمار «إرهابًا»، و«السلام» أصبح يعني الخضوع الفلسطيني والعربي الكامل لإسرائيل. وبالفعل، خضعت الأنظمة العربية، ومن بعدها القيادة الفلسطينية، واستبدلت مشروع التحرر الوطني من الاستعمار ــ الاستيطاني الإسرائيلي بالمصطلحات الاستعمارية: «السلام» و«الصراع».في خطاب ألقاه في أيلول/سبتمبر ١٩٩٢ أمام وفد من السوريين من سكان الجولان المحتل والمستعمَر، أعلن فيه الرئيس السوري حافظ الأسد: «نحن نريد سلام الشجعان. سلام الفرسان. سلامًا حقيقيًا» مع إسرائيل، مشترطًا أن يكون هذا السلام خال من «ألعاب ومطبات وكمائن»، وأن تعود من خلاله جميع الأراضي السورية المسلوبة إلى السيادة السورية. وكان الأسد قد اقترض مصطلح «سلام الشجعان» من ديغول، لكن توظيفه للمصطلح عدّل من وجهته من سلام على المستعمِرين (بكسر الميم) أن يتبنوه كي ينهوا الاستعمار الاستيطاني إلى سلام يتبناه المستعمَرون (بفتح الميم) لإنهاء الاستعمار الاستيطاني. لكن المفارقة هنا هي أن المستعمَرين (بفتح الميم) عادة ما يظهرون شجاعتهم في نضالهم التحرري، وليس بقبولهم عرض سلام يلتزم المستعمِر من خلاله بإنهاء استعماره، حيث لا يتطلب الأخير شجاعة، بل ليس أكثر من احتفال المستعمَرين. أما ما طرحه ديغول فقد كان: أن على المستعمِرين (بكسر الميم) أن يتحلوا بالشجاعة للتخلي عن المستعمرات التي سلبوها من أهلها في وجه المقاومة وحرب التحرير التي شنّها عليهم السكان الأصليون.
منذ استسلام «منظمة التحرير الفلسطينية» في أوسلو عام ١٩٩٣ وتخليها عن حقوق الشعب الفلسطيني ونضاله منذ قرن كامل ضد الاستعمار الصهيوني، قام كوادر المنظمة، الذين تمّ نقلهم إلى كيان استعماري جديد سُمّيَ «السلطة الفلسطينية»، بالدفاع عن استسلامها التاريخي وطرحه على أنه حماية وصَون للنضال الفلسطيني. أصرّ ياسر عرفات على أن استسلامه هذا سيقود إلى فلسطين حرة، وإن كانت أصغر بكثير من فلسطين الأصلية. وتخيّل عرفات نفسه بأنه بمثابة الجنرال ديغول عندما تحدث في خطاب قبوله جائزة نوبل للسلام في عام ١٩٩٤ عن «سلام الشجعان». وقد شاركه جائزة نوبل كل من يتسحاق رابين (الذي قام شخصيًا بطرد فلسطينيي مدينة اللد عام ١٩٤٨) وشمعون بيريز (المهندس الرئيس لاقتناء إسرائيل للأسلحة النووية، والذي ارتكب مجزرة قانا في ما بعد)، اللذان أصرّا على الاستمرار في استعمار الأراضي الفلسطينية في ظل «السلام».
من السخف أن يقوم قائد المستعمَرين (بفتح الميم) بوصف تنازله عن حقوق شعبه للمستعمِر على أنه «سلام الشجعان». صحيح أن عرفات كان قد طالب الإسرائيليين أيضًا بتبنّي المصطلح الديغولي، لكن بالنسبة إليه فقد كان على المستعمِر والمستعمَر أن يتبنياه. ففي الجزائر، أظهر الثوار شجاعتهم في مقاومة المستعمِر والنضال من أجل التحرير. أما «الشجاعة» التي أظهرها عرفات وكوادر سلطته فكانت «شجاعة» التنازل عن الوطن وإخضاع الشعب الفلسطيني لاستعمار إسرائيلي مقيم. أما الإسرائيليون، فعندما تحدثوا عن «سلام الشجعان»، فمن تلفّظ به كان رئيس وزرائهم إيهود باراك، ولكن فقط في سياق الحديث عن «سلام» مع سوريا، وليس مع الفلسطينيين.
وبينما طبعت «شجاعة» عرفات الاستسلامية نفسها على العقد الأول بعد أوسلو، فقد انتهج خلفاؤه على عرش السلطة سياسة من استسلامات لا تنضب في العقدين التاليين. فلم يتواصل الاستيطان الصهيوني بوتيرة متعاظمة تحت حكم السلطة فحسب، بينما يعيش كوادر السلطة في رفاهية في المنطقة الخضراء المسماة «رام الله»، بل إن قمع السلطة، تحت حكم عرفات ومحمود عباس، لأي مقاومة ضد الاستعمار الصهيوني الذي استمر من دون توقف، تحوّل في عهد عباس إلى التزام «مقدّس» يتكلم عنه بفخر. وبينما قام عباس والسلطة وجيش الاحتلال الإسرائيلي بإرهاب وترويع الضفة الغربية لإنهاء المقاومة فيها، فإنهم لا ينفكون يتعاملون بوحشية في قمع صمود غزة في وجه السادية والجشع الإسرائيليين.
يعلّمنا التاريخ أن الطريقة الوحيدة التي نجحت في القضاء على الاستعمار الاستيطاني في القرن الماضي، لم تكن إلا حروب التحرير الوطني، والتي حظيت في بعض الأحيان بتأييد ودعم حركات تضامن عالمية. ففي كينيا وروديسيا والجزائر كانت حروب التحرير هي الأداة التي قضت على حكم المستعمرين الأوروبيين العنصريين، مستفيدة من التضامن العالمي، لا سيما في حالة الجزائر. أما في جنوب أفريقيا، وهي الحالة الأقرب إلى حالة فلسطين، فقد تبع مرحلة حرب التحرير مرحلة التضامن العالمي اللذين نجحا معًا في القضاء على نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) السياسي، لكنهما لم يتمكنا من تقويض الفصل العنصري الاقتصادي والامتيازات الاقتصادية للمستعمِرين البيض التي كانت بمثابة شرط من شروط المساومة. أما في حالة الفلسطينيين، فقد تعهدت السلطة الفلسطينية بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني، كجزء من استسلامها للاستعمار الإسرائيلي، لقاء زيادة، وليس تقليص، الاستيطان الصهيوني، إضافة إلى امتيازات اقتصادية مُنحت لكوادر السلطة ورجال الأعمال الفلسطينيين الذين يدّعون أن الأرباح التي يجنونها هي بمثابة «انتصار» على الإسرائيليين وليست ثمن تنازلهم عن حقوق شعبهم.
تطلب الأمر أكثر من عقد من الزمن بعد استسلام أوسلو كي يتمكن الفلسطينيون من إعادة بناء التضامن الدولي مع مقاومتهم للاستعمار وللسلطة الفلسطينية المتعاونة معه، بينما واصلت السلطة حربها على المقاومة وعلى التضامن الدولي الذي تمثل بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، المعروفة بـ«بي دي اس». لكن المقاومة الفلسطينية مستمرة كما هي الحال مع حركة التضامن. وبينما لم يظهر الإسرائيليون أي شجاعة سوى بالاستيلاء على مزيد من أراضي الفلسطينيين وقتلهم العزّل منهم صغارًا وكبارًا، يُصرّ موظفو السلطة على أن شجاعتهم تتمظهر من خلال مقاومتهم لصفقة القرن التي ينادي بها دونالد ترامب، والتي تسعى لتقويض السلطة والتخلص منها بالكامل، لا سيما أن السلطة، رغم كل جهودها وجهود إسرائيل، لم تنجح في القضاء على المقاومة ولا على التضامن الدولي.
المقاومة الوحيدة التي عبّرت عنها السلطة منذ ولادتها هي مقاومتها لمشروع ترامب لتقويضها والتخلص منها. وقد أظهر بعض كوادرها شجاعة غير معهودة للحفاظ على امتيازاتهم، لا سيما على تويتر. لكن ما ترفض السلطة وموظفوها فهمه هو أن الموقف الوحيد الشجاع الذي بإمكانهم تبنّيه اليوم، والذي يطالبهم به معظم الفلسطينيين، هو حلّ أنفسهم، كي يستمر الشعب الفلسطيني ومناصروه حول العالم في مقاومة المستعمِر بشجاعة حقيقية يُحتذى بها.

جوزيف مسعد أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، صدر له حديثًا كتاب «الإسلام في الليبرالية» عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب «آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن» عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩)