تقف تركيا على مفترق طرق لا تتخلّى عن الغرب الأوروبي لكنها تخرج عن طوعه ولا تعادي الولايات المتحدة، لكنها تتجرأ على مخالفتها وتتمرد عليها إعلانا لاستقلالية القرار التركي، بعد أن اتّهمتها بالعبث بأمنها الداخلي والاقتصادي... تقترب من موسكو لما فيه مصالحها بعد نزال خسرته في عام 2015 واثقة بالقيادة الروسية من دون تنازلات سياسية كبيرة وبحذر الواثق لحاجة روسيا إليها في غير مكان، لكنها باتت مستعدّة من أجل مصالحها لقدر من التضحية بمشاريع حاكتها بهدوء مع الغرب الأميركي تطال بؤر صراع قادها إسلاميون في آسيا الوسطى والصين.
التموضع التركي
اختارت تركيا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1946 التحالف مع الغرب في الحرب الباردة، انضمت إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) وأرسلت عام 1952 قوات عسكرية للمشاركة في الحرب الكورية، تابعت الحكومات التركية المتعاقبة تعاونها الوثيق مع الولايات المتحدة وأوروبا. ونظرت إلى الشرق الأوسط والسياسة العالمية من منظور مصالح الأمن القومي الخاصة بها مما جعل هذا التعاون ممكناً، حتى مع إسرائيل، التي اعتبرتها تركيا حليفاً ديمقراطياً. وكانت تشعر بالغضب لاعتبارها دولة وظيفية تعمل لصالح واشنطن، لكنّها تحملت هذا في مقابل حمايتها من الاتحاد السوفياتي.
لكن منذ نهاية الحرب الباردة، وانقلاب موازين القوى في الشرق الأوسط مع تشظّي الكيانات السياسية في البلقان وتكشّف جمهوريات إسلامية – تركية شقيقة في القوقاز وآسيا الوسطى بدأت في البحث عن دور لها مع تورغوت أوزال الذي طرح فكرة العثمانية الجديدة، وهي قيام تركيا بدور حيوي وفاعل في محيطها الممتد من بحر الادرياتيك إلى سور الصين مروراً بالشرق الأوسط، والتي شكلت في وقت مضى جزءاً من الدولة العثمانية مضافاً إليها الجمهوريات الإسلامية في القوقاز وآسيا الوسطى.
تركيا موجودة في بيئة جغرافية - سياسية وسط ثلاث دوائر هي أوروبا وروسيا وجورجيا وأرمينيا وتحسب عليها إسرائيل، الجمهوريات التركية التي ظهرت عقب تفكّك الاتحاد السوفياتي، والحزام الإسلامي ويشمل المشرق العربي وإيران وباكستان. سعت تركيا في مطلع الستينات لتكون عضواً أوروبياً لكن لم يتم قبولها، رأت في منتصف التسعينات أن دول أوروبا الشرقية انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي الواحدة تلو الأخرى، إلا أنها لم تيأس من محاولات الانضمام، وما زال قسم من الأتراك يراهن ويأمل بذلك. ورغم ابتعادها عن العالم العربي إلا أن تركيا لطالما اعتبرت نفسها ضمنياً الدولة الوحيدة المؤهّلة لقيادة العالم الإسلامي والتركي.

المتغيّرات لا تبعد تركيا عن الولايات المتحدة
متغيّرات عدة تراكمت، عزّزتها الأحداث في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، بدأت في عام 2003 منذ اجتياج العراق حيث قادت واشنطن مفاوضات مطولة مع تركيا من أجل السماح للقوات الأميركية بغزو العراق من الأراضي التركية، إلا أن مجلس الأمن القومي رفض هذا الطلب وحصلت المذكرة الحكومية التركية التي عرضت على البرلمان للتصويت على تأييد 264 نائباً ومعارضة 250 آخرين فيما أحجم 19 عن التصويت. وكان يفترض الحصول على 267 صوتاً لاعتماد المذكرة، قرابة 100 عضو ينتمي إلى «حزب العدالة والتنمية» الحاكم وقفوا في مواجهة رئيس الوزراء عبد الله غول وزعيم «حزب العدالة والتنمية» رجب طيب أردوغان والحكومة الأميركية ليقولوا: «لا للحرب»...
• رأت أنقرة في انتشار «حزب العمّال» الكردستاني في شرقي الأناضول وقيامه بعمليات إرهابية بعد حرب الخليج الأولى بعد تسلل بعض عناصر الحزب إلى الأراضي التركية، خطراً عليها، وخشيت أن تتمخض العملية العسكرية عن تقسيم الأراضي العراقية وظهور دولة كردية في شمال العراق. وهو ما حصل تقريباً وشكّل قضية أمنية خطيرة بالنسبة لها، حيث خشيت من سريان النزعة العرقية إلى أكراد شرقي الأناضول، فيؤدي ذلك إلى انفصال المنطقة الشرقية عن البلد.
• حاول «حزب العدالة والتنمية» تعزيز مكانة تركيا في عالم يقوده الغرب من خلال استخدام القوة الناعمة لقيادة الشرق الأوسط، لكنه نظر إلى مصالح تركيا من منظور مختلف، حيث وصف كبار المسؤولين الأتراك الهجوم الأميركي عام 2004 في الفلوجة بالعراق بأنه «إبادة جماعية» ما أثار تساؤلات الغرب.
• في عام 2004، استأنف «حزب العمال الكردستاني» الهجمات على تركيا من قواعده في شمال العراق، ولكن حتى عام 2008، لم يُسمح لتركيا بالقيام بأيّ عمليات برية ضد تلك القواعد. كل هذه الاحتكاكات أثارت انعدام الثقة في العلاقة المضطربة بالفعل بين جيشي حلفاء الناتو.
• وفي أوائل شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2009، قامت تركيا باستثناء إسرائيل، بالتدريب السنوي للقوات الجوية التركية «نسر الأناضول» الذي لطالما أجرته وحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة وإسرائيل منذ منتصف التسعينات. كانت المرة الأولى التي أطلق فيها «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا خطابه المعادي.
• تدهور علاقاتها مع إسرائيل في أعقاب أزمة دافوس في يناير/ كانون الثاني 2009 وفي أعقاب غارة مرمرة مافي في مايو/أيار 2010، إلا أن علاقاتها التجارية استمرت بينها وبين إسرائيل كما بقيت العقود التي تقوم الأخيرة بموجبها بتحديث الآليات العسكرية التركية.
• فاجأت تركيا حليفتها الولايات المتحدة عندما صوتت ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في عام 2010 لفرض عقوبات على إيران إلى جانب دعمها المستمر لحماس. ازداد المشكّكون الغربيون، بحكّام تركيا القادمون من ماضٍ إسلامي سياسي، واعتبروهم على خلاف مع القيم الأساسية للمجتمع الدولي الغربي وأنهم يسعون إلى خلق بيئة إقليمية جديدة في منطقة الشرق الأوسط الكبرى.

متغيّرات أم تحولات؟
بقيت أهداف تركيا، على الرغم من بعض التناقضات، متوافقة مع توقعات واشنطن، لكن مع تنامي طموحاتها مع «الربيع العربي» في أواخر عام 2010، رأت أنه يمكن للإسلاميين «المعتدلين» الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات. بدأت تظهر الخلافات العميقة بعد فشل «الربيع العربي»، الأمر الذي أدّى إلى اختلافات تكاد تكون استراتيجية بين واشنطن وأنقرة، كما عززت هذه الخلافات شكوك رجب طيب أردوغان حيال الغرب وأهمّ تلك الشكوك:
• تزامن تظاهرات حديقة غزي التركية ضد الحكومة عام 2013 مع الانقلاب في مصر وإسقاط الرئيس محمد مرسي، رفضت واشنطن إدانة الانقلاب العسكري في مصر، وتصاعدت الانتقادات الغربية لتركيا التي عارضت الانقلاب، ما خلق شعوراً عميقاً بالحصار لدى أردوغان أحدث صدعاً إقليمياً امتدّ إلى عدد من القضايا، مثل ليبيا والقرن الأفريقي، وظهر بشكل أوضح عندما فرضت السعودية والإمارات حصاراً على قطر عام 2017، ووضعت واشنطن حركة «الإخوان المسلمين» على لائحة الإرهاب، الأمر الذي عارضه أردوغان وسارع إلى دعم الدوحة.
• نكسات «الربيع العربي» في مصر وسوريا والعراق أظهرت حدود قدرة تركيا على تشكيل مسار التطورات على أرض الواقع ورد حلفائها الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة، على الرغم من دعمهم لها في البداية بتبنّي مقاربة براغماتية، بعد أن كان قد جرى تشجيعها على المضي قدماً والتصرف كنموذج يمكّنها من فرض نفوذها ومنافسة إيران التي تمددت إلى البحر المتوسط.
ساهمت الخيبات في إحياء بعض الواقعية في السياسة الخارجية التركية


• تجلّى رد فعل تركيا بوقوفها ضد تشكيل «الناتو العربي» في الشرق الأوسط بمشاركة كلّ من مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل. اشتكى الرئيس التركي من التناقضات بين سياسته وسياسة واشنطن تجاه ثلاث ملفات: أولها محاربة داعش حيث تحدّت تركيا توقعات الولايات المتحدة بالمشاركة بنشاط أكبر في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والموقف من «وحدات الحماية الكردية» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي تعتبره جزءاً من «حزب العمال الكردستاني»، حيث بدأت واشنطن بدورها بتسليح «وحدات حماية الشعب» الكردي ضد داعش، الأمر الذي ساهم في تأكيد مخاوف الأتراك حيال الولايات المتحدة، وأخيراً الصراع على مستقبل سوريا. لعب الوضع في سوريا دوراً مدمراً في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، لكن الخيبات ساهمت في إحياء بعض الواقعية في السياسة الخارجية التركية.
• الضرر الذي ألحقه انقلاب تموز/ يوليو 2016 بالعلاقات التركية الأميركية أدى إلى فقدان واشنطن التأثير على أنقرة. ففي السنوات التي سبقت الانقلاب، حملت الضغوط الأميركية تركيا على إلغاء صفقة نظام الدفاع الجوي بقيمة 3.4 مليار دولار، وهي صفقة التعامل مع الصين. لكن حكومة الرئيس التركي أردوغان رأت أن الولايات المتحدة نفسها كانت وراء محاولة الانقلاب. اتهمت حركة غولن بالوقوف وراء الانقلاب، وأدى رفض واشنطن تسليم غولن، الذي يعيش في المنفى في ولاية بنسلفانيا، إلى زيادة تأكيد الشكوك التركية. ربطت أنقرة بين الانقلاب وقضية المحكمة الأميركية بشأن خطة خرق العقوبات الإيرانية عبر البنوك والشركات في تركيا، واعتبرت أن محاولة الانقلاب تحوّلت إلى محاولات انقلاب مختلفة الهدف وهو الضغط على تركيا اقتصادياً.
• شنّت تركيا هجوماً على منطقة عفرين التي تسيطر عليها «وحدات حماية الشعب» وأرادت القول من ذلك إنه لا يمكن تجاهل ردود فعلها وأوحت بالأمر عندما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحابه من شرق الفرات هذا العام. مال الأميركيون إلى تفسير عدد من تحركات أردوغان باعتبارها محاولات للحصول على تنازلات ملموسة من واشنطن. فيما حذرها أردوغان من الاعتقاد بأن علاقتها مع تركيا يجب أن تكون متكافئة واعتبر أن عليها أن تتفق مع حقيقة أن تركيا لديها بدائل وعليها البدء في البحث عن أصدقاء وحلفاء جدد. إلا أن الإدارة الأميركية لم تأخذ هذه القناعة على محمل الجد ولم تبذل أيّ جهد حقيقي لتبديده. اعتقدت أنقرة ولا تزال أنه لا يمكن للغرب أن يخسرها، لذلك على واشنطن أن تضبط علاقاتها معها وتعيد النظر في سياساتها العدائية.
• نظرت واشنطن إلى قرار أنقرة شراء S-400s من روسيا باعتباره ورقة مساومة للتوصل إلى صفقة أفضل لشراء صواريخ الدفاع الجوي الأميركية، لكنه أظهر رغبة أنقرة في استقلالية قرارها. فشلت الولايات المتحدة ببساطة في الضغط على تركيا لإسقاط الصفقة مع روسيا، كما أن السياسة الخارجية لترامب واستعداده للتعامل مع الجهات الفاعلة الإقليمية بطريقة المعاملات التجارية أعطت صناع القرار الأتراك دفعاً في إعادة تعريف السياسة الخارجية التركية بشكل أكثر واقعية. وقدّمت أنقرة تحركاتها باعتبارها تندرج تحت الدفاع عن مصالحها، فأرسلت سفناً حربية للتنقيب عن النفط والغاز بشرق البحر المتوسط، وعبرت روسيا عن استعدادها للتعاون معها في أنشطتها في تغير مفاجئ لموقف موسكو التي كانت قد أعربت عن القلق من أنشطة تركيا للتنقيب عن النفط والغاز في منطقة شرق المتوسط قبالة سواحل قبرص.

تركيا في زمن التحولات
لم يعد جوهر الأمر أن تنظر الدول الغربية إلى تركيا كنموذج يحتذى به بالنسبة إلى البلدان في الشرق الأوسط الكبير بسبب هويتها الإسلامية المعتدلة وتوجهها العلماني الموالي للغرب والاندماج في الاقتصاد العالمي الرأسمالي في عصر يتراجع فيه الغرب وتتقدم الرأسمالية الصينية، وفي زمن أزمة الديمقراطية الليبرالية الموجهة نحو السوق الحرة في الغرب... وبدلاً من الشعور بالرضا عن الهوية النموذجية التي عهد بها الممثلون الغربيون منذ فترة طويلة إلى تركيا، أصبحت تسعى لرسم طريقها لتحدد ما هو مفيد لنفسها.
من الواضح أن الواقعية بدأت تشكل سياسة تركيا الخارجية بشكل حاسم، حيث تتّخذ أنقرة مبادرات جريئة لضمان أمنها الإقليمي من خلال مزيج من المبادرات العسكرية الأحادية الجانب والتعاون الاستراتيجي متعدّد الأطراف مع الجهات الفاعلة غير الغربية. وأصبح الحكم على الفاعلين العالميين والإقليميين من خلال درجة التزامهم بمصالح تركيا الأمنية التقليدية وعملية التنمية الاقتصادية كلغة مشتركة جديدة في السياسة الخارجية التركية، فهي اعترضت على عزل إيران والعقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة، وقامت بالتعاون مع روسيا وإيران لإيجاد حل للحرب السورية.
كما تبنّت موقفاً حاسماً تجاه الاتحاد الأوروبي عكس الفجوة المتّسعة بين السياستين الأوروبية والتركية، حيث علّقت الأخيرة اتفاق الهجرة مع الاتحاد الأوروبي، الذي تم التوصل إليه في ربيع عام 2016 ردّاً على التدابير التي اتخذها الاتحاد الأوروبي للاحتجاج على أنشطة الحفر التركية في شرق البحر المتوسط قبالة ساحل قبرص، واعتبرتها إهانة للعلاقات التركية الأوروبية.
لا يسعى الحكام الأتراك الحاليون الآن لتحقيق هدف العضوية في الاتحاد الأوروبي، في تناقض صارخ مع الفترة ما بين 2002 و2007، كما أن الاتحاد الأوروبي ليس في وارد تقديم آفاق عضوية موثوقة لها في وقت تتزايد فيه المخاوف بشأن المستقبل.
ولّت أيام حقبة الحرب الباردة التي ربطت فيها المصالح الأمنية المشتركة تركيا بحلفائها الغربيين داخل الناتو. قد لا توجد أسباب استراتيجية أو أمنية تبرر الالتزام التركي بحلف الناتو. لا يقتصر الأمر على تركيا إذ تشكك الولايات المتحدة، بشكل متزايد بأهمية الناتو بالنسبة إلى المصالح الأمنية الأميركية في القرن الحادي والعشرين. ما يحدث هو أن تركيا، على غرار العديد من القوى الصاعدة الأخرى من المستوى المتوسط، تمر بعملية إعادة تعديل في علاقاتها الخارجية حيث يبرز نظام جديد في الصدارة وتتنافس الآن القوى الغربية التقليدية مع القوى غير الغربية في العديد من مجالات الحكم العالمي المتنوعة. من المؤكد أن التزام تركيا تجاه العالم الغربي قد شهد تراجعاً تدريجياً مع خضوع القوى الغربية نفسها لعملية البحث عن النفس في ما يتعلق بالمعايير التأسيسية للنظام الدولي الغربي.
على الرغم من خطاب أردوغان الشعبوي الصاخب تبدو السياسة الخارجية لتركيا على الصعيدين العالمي والإقليمي مليئة بمحاولات السياسة الواقعية للتخفيف من الآثار السلبية للأزمات الخارجية على الاستقرار الداخلي، بالإضافة إلى تزايد قدرة تركيا على البقاء في عصر تنافس القوى الكبرى.
* باحثة لبنانية