في مستهل شهر أيلول/ سبتمبر الحالي، شرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ماهية العقبة التي تواجهها إسرائيل في الوصول إلى «حلّ» مع الشعب الفلسطيني. فقد حضر نتنياهو بمعيّة وزير التربية الإسرائيلي رافي بيرتس حفلاً لبداية العام الدراسي ٢٠١٩-٢٠٢٠ في مدرسة كَميم الدينية الحكومية في مستوطنة إلكَنَه شمال الضفة الغربية، ودرّس تلاميذ الصف الأول الابتدائي درسهم الأول. وبعدها انتقل إلى مدرسة أخرى مجاورة سألته فيها طالبة عن «النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني»، فكان هذا جوابه الجاهز:إن جذر النزاع هو رفض الفلسطينيين الاعتراف بدولة إسرائيل ضمن أية حدود كانت، ورفضهم أيضاً الاعتراف بدولة اليهود ضمن أية حدود كانت. ونتيجة لذلك، يرفضون الوجود اليهودي ضمن أية حدود طراً، فضلاً عن يهودا والسامرة. إن كنت تريد أن تحلّ النزاع، فعلى الفلسطينيين أولاً أن يعترفوا بإسرائيل كدولة اليهود القومية. هذا ما يؤخر الحلّ... وهذا هو جذر النزاع. لذلك، فأنا أصرّ على ذلك، وأسعى إليه، أي أن علينا أن نطالبهم بالاعتراف بالدولة القومية للشعب اليهودي. هذا هو المكوِّن الأول - وإن لم يكن الوحيد - لأي حلّ.
بغضّ النظر عمّا إذا كان الطلاب قد فهموا الرد على السؤال، فإن تقييم نتنياهو للمسألة دقيق للغاية. فـ «جذر النزاع» هو بالفعل رفض الفلسطينيين المستعمَرين (بفتح الميم) الاعتراف بحق اليهود الأوروبيين باستعمار بلدهم، وبتهجيرهم منه، وبسرقة أراضيهم، وبإقامة مستعمرة استيطانية عليه تمنح المستوطنين اليهود امتيازات استعمارية وعرقية تنكرها على الفلسطينيين، وهم سكان البلد الأصليون. فإن قبِل الفلسطينيون بحق اليهود باستعمار أراضيهم وبطردهم خارج وطنهم، وباضطهاد مَن لم يستطيعوا طردهم، فسيكون «الحلّ» ماثلاً أمامنا.
إن أمنية المستعمِرين (بكسر الميم) بأن يقوم الشعب الأصلي الذي استُعمِر وطُرِد بتبرئتهم من خطاياهم، هي أمنية مركزية، وهي راسخة في خيال الحركة الصهيونية منذ ولادتها. ففي روايته الخيالية «الأرض القديمة-الجديدة» الصادرة عام ١٩٠٢، سعى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل إلى الحصول على تبرئة من الشعب الفلسطيني الذين أراد استعمار أراضيه، والذي سعى إلى طرده منها وإلى سرقته واستعماره. تتضمن روايته شخصية فلسطينية يتيمة، هي شخصية رشيد بيه الذي يقوم بشرح ما فعله الاستعمار اليهودي الأوروبي بالفلسطينيين لزائر أوروبي مسيحي ومستوطنين يهود أوروبيين. وبينما يفسح هرتسل لرشيد بيه أن يشرح كيف أن كان للفلسطينيين مزارع برتقال وأراضٍ زراعية أخرى قبل الاستعمار اليهودي، تزودنا الرواية بردّ مستعمر يهودي اسمه شتايْنِك على رشيد بيه بالقول: «أنا لا أنكر أنه كان لديكم مزارع برتقال قبل مجيئنا... لكن لم يكن بمستطاعكم أبداً أن تستفيدوا من قيمتها الكاملة». يوافقه رشيد بيه في تقييمه هذا، ويضيف كيف أن أرباح ملّاكي الأراضي الفلسطينيين «قد زادت باطّراد. وقد زادت عمليات تصدير البرتقال عشرة أضعاف... فقد زادت قيمة كل شيء هنا منذ هجرتكم». هنا يقفز الزائر المسيحي الأوروبي ليقاطع رشيد بيه قائلًا: «ألم يُدمَّر السكان القدامى لفلسطين نتيجة الهجرة اليهودية؟ وألم يُجبروا على ترك بلدهم؟ أعني بشكل عام. أما أن بعض الأفراد هنا وهناك قد استفادوا، فهذا لا يثبت أي شيء». يردّ رشيد بيه عليه على الفور: «ما هذا السؤال؟ لقد كان مجيئهم بركة عظيمة لنا جميعاً». لكن ردّ رشيد بيه لم يثنِ الزائر المسيحي الأوروبي، فأردف قائلاً: «ألا تعتبرون هؤلاء اليهود غزاة؟» هنا يتدخل الروائي هرتسل في سعيه، شأنه شأن كل المضطهِدين (بكسر الهاء)، لكسب التبرئة ممَّن يقوم باضطهادهم، فيجعل رشيد بيه يقول الآتي: «هل تسمّي رجلاً لم يسرق شيئاً منك، بل جلب لك أشياء أخرى، لصّاً؟ لقد قام اليهود بإثرائنا. فلماذا نغضب منهم؟ هم يعيشون معنا كأشقاء. فلماذا علينا ألا نحبهم؟».
لقد تواصلت فانتازيا الفلسطيني الذي يبرئ اليهود المستعمرين من خطاياهم حتى في أهم فيلم أنتجته هوليوود عن الغزو الصهيوني لفلسطين، أي فيلم «الخروج» أو Exodus. ففي هذا الفيلم الدعائي، لا يسمح إلا لفلسطيني واحد، لا غير، بالكلام، وهو شخصية طه المتعاون مع الصهاينة. وقد سُمح له بالحديث كي يشيد بالصهيونية وكي يشرب نخب غزو الصهاينة لبلاده وشعبه ويقول: «لِحاييم».
بقي نيل التبرئة من كل الفلسطينيين حلماً بعيد المنال


أما غولدا مائير، فهي الوحيدة التي رفضت طلب التبرئة من الشعب الفلسطيني من خلال إصرارها على أن هذا الشعب غير موجود أصلاً، ولم يكن موجوداً قطّ. فقد أعلنت للجريدة اللندنية «صنداي تايمز» في ١٥ حزيران/ يونيو ١٩٦٩: «ليست المسألة أنه كان هنالك شعب فلسطيني في فلسطين يعتبر نفسه شعباً فلسطينياً، ونحن جئنا وقمنا بطرده وأخذنا بلده منه. فهم لم يكونوا موجودين قطّ». بالنسبة إلى مائير، لم تسبب إقامة دولة إسرائيل تهجير أحد ولا سرقة أراضيه، ولم ينتج من إقامتها أي خسائر على الشعب الفلسطيني. يضمن هذا الإنكار عدم شعور الصهاينة أو اليهود الإسرائيليين بالذنب أبدا في ما يتعلق بمشروع إقامة مستعمرتهم، لكن في ذات الوقت يُقر هذا الإنكار بأنه كان على الصهاينة بالفعل أن يشعروا بالذنب لو كان هنالك بالفعل شعب فلسطيني طردوه، باستثناء أنهم، بحسب مائير، لم يقوموا بذلك.
لكن فانتازيا العثور على الفلسطيني الذي يبرئ المستعمرين الصهاينة من ذنوبهم تحقق في شخص المتعاونين الفلسطينيين مع الصهاينة قبل إقامة مستعمرتهم وبعدها. لكن رغم ذلك، بقي نيل التبرئة من كل الفلسطينيين حلماً بعيد المنال. وبما أن الشعب الفلسطيني واصل مقاومته للمشروع الصهيوني وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة هذه المقاومة منذ نهاية الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات، تواصل أيضاً البحث الصهيوني عن فلسطينيين يقبلون لعب دور رشيد بيه. وعندما استسلمت «منظمة التحرير» لقدرها الحالي، وأضحت متعاونة مع إسرائيل في قمع الشعب الفلسطيني وتقويض مقاومته، اعتقد الصهاينة أنّ حلمهم قد تحقق أخيراً. فقد جسّد ياسر عرفات شخصية رشيد بيه جزئياً عندما أعلن في ٢٠٠٢ تخليه عن حق العودة الفلسطيني في مقالة نشرها في النيويورك تايمز: «نحن نتفهم مخاوف إسرائيل الديموغرافية، ونفهم أن على حق العودة الفلسطيني الذي كفله القانون الدولي وقرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ أن يتحقق عبر طريق تأخذ هذه المخاوف في الحسبان». وقد ذهب محمود عباس أبعد من ذلك في ٢٠١٢ في تجسيده لشخصية رشيد بيه. فقد أعلن تخلّيه عن مدينة صفد حيث وُلد: «فلسطين بالنسبة إليّ هي حدود ١٩٦٧، والقدس الشرقية عاصمتها. هذا بالنسبة إليّ هو الوضع الآن وإلى الأبد... فهذه هي فلسطين بالنسبة إليّ. أنا لاجئ [من صفد] لكني أعيش في رام الله. أنا أؤمن بأن الضفة الغربية وغزة هي فلسطين، أما الأجزاء الأخرى فهذه إسرائيل». ومع ذلك، فهذا لم يكن كافياً للإسرائيليين. فقد عثروا على شخصيات فلسطينية ثانوية للعب دور رشيد بيه، من أمثال خالد أبو طعمة وبسام عيد، الذين يبتعثونهم في رحلات دعائية حول العالم يرعاها الصهاينة، ولكن دون جدوى. حتى العرب الصهاينة الذين بدأوا بالمجاهرة بصهيونيتهم منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وتزداد أعدادهم سنة بعد سنة، لم يحققوا لإسرائيل مبتغاها. فالبحث عن نسخة طبق الأصل عن شخصية رشيد بيه لديها صدقية، مستمر دون هوادة.
يذكرني ردّ نتنياهو على طالبة المدرسة بقصة تخصّ صديقة عزيزة منذ أيام الدراسة الجامعية. فمنذ عقدين من الزمن، كانت صديقتي، وهي أميركية يهودية مناوئة للصهيونية، قلقة بشأن تربية أطفالها كيهود مناوئين للصهيونية. فعندما كان عمر ابنها البكر خمس سنوات، قررت أن تصطحبه إلى الكنيس اليهودي كي يتعلم الأخلاق والطقوس اليهودية وأسلوب ترتيل التوراة. ولكن عندما بدأ الكنيس بالتحضير للاحتفال بـ «عيد استقلال إسرائيل»، أحجمت صديقتي وعائلتها عن الحضور، فسألها ابنها عن سبب إحجامهم، فشرحت له كيف أن الصهاينة سرقوا أرض الفلسطينيين في عام ١٩٤٨، وكيف أنهم يحتفلون بسرقتهم هذه في كل سنة، ثم أعطته مثال طفل يسرق دولار من طفل آخر ويحتفل بسرقته هذه. وأردفت بعد ذلك شارحة أن «عيد استقلال إسرائيل» هو «عيد سرقة الدولار»، مشددة على أنهم لا يمكن أن يحتفلوا بـ «عيد سرقة الدولار». تعلّم الطفل الدرس وكبر وأصبح يهودياً مناوئاً للصهيونية.
فإن لم يتعلم الأطفال اليهود الإسرائيليون هذا الدرس، فلن يعثر نتنياهو على «الحل» الذي يسعى إليه، وما لم تستطع إسرائيل تحويل كل فلسطيني، بل كل عربي، كنسخ لرشيد بيه، فسيبقى تحقيق الفانتازيا الصهيونية التي استمرت من هرتسل إلى نتنياهو من سابع المستحيلات.

* جوزيف مسعد أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، صدر له حديثاً كتاب «الإسلام في الليبرالية» عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب «آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن» عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).