بات من الملاحظ بنحو مؤكد أن الانخراط السلبي للسياسة السعودية تجاه ما يعتري الدول العربية الساخنة ضمن سياق ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي» وثوراته يعكس رغبة جامحة لعقل «مقامر» و«مغامر» في تضخيم الصورة الكارثية لساحات ومواقع الثورات، خاصة تلك التي تأخذ من بلاد الشام وبلاد ما بين الرافدين موقعاً لها. تأتي رغبة المغامرين تلك في صبّ عوائد النفط على المشاهد المشتعلة وتحويل النواتج الخارجة من محصلة «الثورات» إلى نتائج أشبه بالجحيم الأسود الكارثي لدفع كل الراغبين في التغيير في بلاد شبه الجزيرة العربية الى الانكفاء والتردد خشية من الفاتورة الضخمة المطلوبة الدفع، والتي يرونها تلوح شاخصة أمام أعينهم في سورية والعراق.
لن يكلف القيادة السعودية المزيد من إشعال طبخة الثورات وإضافة المزيد من المكونات الانفجارية ـــ على ما يكلفهم ذلك من موارد مالية معتبرة ـــ الشيء الكثير مقارنة مع ما يمكن أن يكلفه اندلاع «ربيع سعودي» وما يتطلبه ذلك من هدر أموال ودماء وتسويات ضخمة لن تترك شيئاً كما كان. لذا يبدو الاندفاع السعودي باتجاه الأزمة السورية ومجريات الأحداث في العراق أنه يأخذ نسقاً متسارعاً غير مكترث للمآلات والنتائج الوخيمة بشجاعة وتهور «صولد المقامرين» في أواخر سهراتهم... «كل شيء أو لا شيء».
لعلّ القيادة الحكيمة للمملكة السعودية، والتي طالما راعت متناقضات المنطقة واحتفظت لنفسها بهامش آمن، كثيراً ما انتقدت قيام بعض المغامرين في المقاومة بما تستوجبه ظروفهم النضالية. القيادة ذاتها اليوم في أمسّ الحاجة إلى الصراخ في أذن العقل المقامر لديها والكشف عن عينيه اللتين أعماهما دخان المعارك وغبارها. فالسياسة السعودية تبدو عارية تماماً أمام كل الشعوب العربية إلا من غطاء شفاف يشبه «بشوت» أمراء الخليج مشكلٍ من شراء شرعية «ظرفية» إقليمية من مصر، ومن تراكم مالي ضخم لشراء ذمم أفراد ومؤسسات ودول متسولة. يجب الاعتراف بأنّ المملكة في تاريخها الحديث منذ نشأتها الأخيرة خاضت حروباً عديدة، إن في العلن أو بالواسطة، واستطاعت أن تحقق المكاسب في معظمها، ابتداءً بحرب اليمن مع عبدالناصر وليس آخرها حربها مع صدام حسين في الكويت 1991، وفي العراق، أيضاً، عام 2003، وبينها الحرب التي أعلنت على المد السوفياتي في أفغانستان.
إنّ إصرار المملكة على إذكاء الحرب المذهبية في المنطقة وإثارة ثقافة الكراهية والنعرات الإثنية الحاقدة لن يجعلها في مأمن من الحريق والانفجار الكبير لوقت طويل، خاصة مع بيئة اجتماعية هشّة مقسّمة على أسس قبلية وإثنية مذهبية، إذ لم يستطع الحكم منذ تأسّسه في عشرينيات القرن الماضي أن يحقق ما تقضيه المواطنة الحقة، فبقيت التناقضات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وبين الليبراليين والإسلاميين، وبين الإسلاميين أنفسهم، إضافة إلى الشعور الأقلوي المحبط للقبائل ولأتباع المذهب الشيعي كامنة تحت سطح القشرة الرائقة للمجتمع السعودي، تعتمل بكل حيوية التفاعلات الاجتماعية والتي تنذر بالانفجار عند بلوغها درجة الضغط اللازمة أو عند تفسخ الطبقة الساترة. عوملت جموع الشيعة في المنطقة الشرقية الغنية بمخزون النفط وكأنها جالية وافدة إيرانية، ولم تستطع التعايش مع خطاب ديني متعصّب استئثاري إقصائي تجاهها وتجاه كل أقلية دينية أو عرقية.
إن عدم القراءة الواعية لتطورات وسيولة التحولات السياسية الضخمة التي تجتاح المنطقة (من تغيير تحالفات وتغيّر خرائط وحدود) يجعل التهور والاندفاع الغرائزي غير المتبصر بالعواقب الذي تسير به سياسات المملكة، يفتح أمامها طريق الآلام على مصراعيه، ويهدد بحدوث انفلاش عشوائي للأمن وفقدان السيطرة على المساحات الشاسعة في شبه الجزيرة، خاصة مع حدود متطاولة قابلة للاشتعال من الشمال أو من الجنوب، إضافة إلى المخاطر التي تضمن لأميركا الحليفة التاريخية استمرار استجرار النفط من المنطقة التي قد تجعلها الفوضى من حصة الإقليم الشرقي الذي يبدو أنه قد يكون من ضمن التحالفات والتفاهمات المستجدة الجارية حالياً والتي ستقصي التحالفات التاريخية السعودية الأميركية. ولا يبدو الارتماء (غير المدروس في تحالفات سهلة مع فرنسا وبريطانيا الكهلتين والباحثتين عن أدوار ضائعة في المنطقة ضمن قافلة تحالف الخاسرين) المعتمد على رشى مالية، عبر صفقات تسليح ضخمة، أنه سيحقق الشرعية والاستمرارية والديمومة للمملكة في شرق أوسط يموج بزلازل وبراكين التغيير والتحول. إن كرة الأحقاد والكراهية التي تتعاظم في المنطقة، والمرعية بإعلام معروف الارتباط والتمويل، والمغذّى على مدار الساعة بمئات آلاف الضحايا وبمليارات الدولارات وكل أنواع الشعارات المذهبية والطائفية وثقافة التكفير والتفجير، ستتخبط في مشيتها، ولن تحافظ على مسارها الذي تفترضه العقول المقامرة. ولا بدّ لهذه الكرة من أن تمرّ في الملعب السعودي لتترك آثارها ربيعاً اصطناعياً مُرّاً في تربتها الرملية القاحلة المتعطشة لأيّ زهر ربيعي... حتى إن كان زهر شوك الصبار ذاته.
* كاتب سوري