لم يكن يوم الأحد 16 شباط/ فبراير عادياً داخل مبنى المقاطعة في مدينة رام الله المحتلة. فقد أثمرت جهود محمد المدني، عضو اللجنة المركزية في حزب السلطة، والذي عين رئيساً للجنة التواصل مع المجتمع «الإسرائيلي»، في إنجاز عقد اللقاء «التاريخي» كما سمته أجهزة إعلام السلطة و«نجومها» الإعلاميين، بين رئيس السلطة ونشطاء من الحركة الطلابية داخل الجامعات والكليات في كيان العدو وعدد من السياسيين، الذين اختلفت وسائل الإعلام في تحديد عددهم _ تراوحت الأرقام ما بين 170 و300 _ مع تأكيد أكثر من مصدر، على مئتين وخمسين.
الحاضرون من مجتمع الغزاة ومراكز إعدادهم الحزبية، غلبت عليهم أيديولوجيا التطرف الديني/ العنصري، كما أن عدداً منهم خدم في جيش الغزو والاحتلال، بما يعني أنهم في وحدات الاحتياط العسكرية.
لم تكن الكلمات العبرية التي رحّب من خلالها المضيف بضيوفه هي التي فتحت عقول المستمعين للخطاب، بل إن ما نطق به «عباس» بحوالى ألفين ومئتي كلمة، كان أكثر خطورة من «الرطن» بتلك الكلمات الاستفزازية لأبناء شعبنا وأمتنا. في الأسطر التالية، وقفة مع أبرز القضايا التي تم طرحها في اللقاء.

اللاجئون والعودة

كانت وستبقى قضية اللاجئين أصحاب الأرض الأصليين الذين طردوا من بيوتهم وممتلكاتهم بالرصاص والمجازر والمؤامرات هي الأساس في قضية الصراع العربي الصهيوني. لكن «حاكم المقاطعة» له رأي آخر _ كرره على مسامع شعبه والعالم منذ عقود _ أعاد طرحه على مستمعيه الصهاينة (لن نسعى أو نعمل على أن نغرق إسرائيل بالملايين لنغير تركيبتها السكانية). الكلام واضح ولا يحتاج إلى تأويل: لا عودة لتلك الملايين المهجرة من وطنها. لم يكلف الحاكم نفسه للحديث بنفس الدرجة من الوضوح والحسم عن الطوفان الذي غمر أرضنا بالمستعمرات والمستعمرين، وبما يمارسونه من قتل للبشر وتدمير ونهب للأرض وإتلاف للمزروعات. لم ير عباس من طريق لـ«حل مشكلة اللاجئين» سوى المبادرة العربية «الخلاقة» التي صاغها الصحافي الأميركي توماس فريدمان. ومن أجل تسويق التنازلات _ كما وصفها المضيف _ تم التأكيد على ضرورة الالتزام بتنفيذ بنود المبادرة التي ستحمل في حال الموافقة عليها «السلام والأمن» للكيان العدواني، وستفتح له عواصم البلدان العربية والإسلامية في أكثر من خمسين دولة، من موريتانيا إلى أندونيسيا. تلك المبادرة التي لم يكد حبرها يجفّ، حتى طحنتها جنازير جيش الغزو والاحتلال الصهيوني على أرض الضفة الغربية بقيادة المجرم شارون في الحرب الوحشية عام 2002.

القدس

عند حديثه عن المدينة المنكوبة باحتلالي عامي 1948 و1967، قدّم أبو مازن «نموذجاً وحدوياً» للمدينة! (لا نريد إعادة تقسيم القدس، فالقدس مفتوحة. نبني هنا بلدية وهناك بلدية إسرائيلية وفوقهما جسم من أجل أن ينسق بينهما، فأين الخطأ في هذا، هذه هي بداية التعايش الحقيقي بين الشعبين). هل هي رسمة سريالية للمدينة؟ عن أي قدس يتحدث؟ لم يعد مفاجئاً الحديث عن تآكل الوجود العربي الفلسطيني فيها، ولنا بأسماء تلك العائلات المقدسية التي تطرد بشكل مستمر من بيوتها شواهد حية. أما الازدياد المنهجي لعدد المستعمرين في القسم الشرقي من المدينة وعلى أطرافها، فتفضحه الوثائق والإحصائيات. لكن «الجسم» الذي ينسق بين البلديتين/ القسمين في المدينة، كان لافتاً للنظر. فقد فوجئ به المهندسون في أكثر من معهد ومشروع لأن هذا الشكل الخيالي لـ«التعايش» قد تحوّل عند أبناء شعبنا الى مادة للتندر!
عند حديثه عن الحدود، وبالتالي عن أرض الوطن، يحاول المتحدث أخذ الحضور، والمتابعين عن بعد، إلى «العقل» من أجل محاكاته في الوصول إلى الحل... من خلال ما سماه «تبادلية معقولة بالقيم والمِثل لتسهيل بند تحديد الحدود، وكان هذا تنازلاً منا». هكذا إذاً تتم عملية التنازل عن أرض الوطن، مجدداً. لن نتوقف عند الجهة التي يمكن أن يخولها «السارق والمسروق» تحديد القيمة والمساحة، لأن كل تلك التفاصيل التي يريدون أخذ شعبنا وأمتنا لمناقشتها، لن تزيد شعبنا إلا إصراراًعلى حقه في العودة إلى وطنه، الحر والسيد. يستطرد المضيف في تبسيط فكرته: «أين هو الخطأ، في كل الدول عندما يكون هناك تبادلية بالنسبة للأراضي تراعى حقوق الطرفين، يؤخذ من هنا ويؤخذ من هناك، وليس من طرف واحد فهذا لا يجوز». لكن الحديث عن اتفاقيات بين الدول شيء، والكلام عن كيان عدواني سرق الأرض وطرد أصحابها التاريخيين واقع آخر. إذ لا يجوز الاعتراف للمحتل، السارق، القاتل، بمشروعية جريمته التي نفذها عامي 1948 و1967. إن اتفاقيات التبادل أو التنازل عن أية حبة تراب من أرض الوطن، ليست من حق أحد، أي أحد، مهما كانت صفته أو مرتبته أو موقعه.

إعادة تزوير الوعي بالنكبة

لم يسبق لحركات التحرر الوطني أن اعترفت بأن نشر الوعي بقضيتها سيكون عملية «تحريض». سخاء المضيف كان أكثر من المتوقع من ضيوفه (تقولون الفلسطينيون يحرضون ضدنا، الكتب المدرسية مليئة بالتحريض والتلفزيون وهذا كلام صحيح وموجود، وناقشناه قبل 14 عاماً واتفقنا على تشكيل لجنة ثلاثية: إسرائيلية _ فلسطينية _ أميركية، تبحث أين التحريض من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وعليهم أن يزيلوه فوراً). إن الرواية العربية الفلسطينية عن الغزو اليهودي الصهيوني الاستعماري لفلسطين، وما أنتجته من نكبات، تندرج تحت مفهوم «التحريض»، ولهذا لا بد من إعادة صياغتها _ الرواية _ بما يتلاءم مع «واقع التعايش» والقضاء على تلك «الجرثومة»، كما يقول المضيف.

مفارقات

اللافت لنظر المراقبين، كان تركيز وكالة أنباء السلطة وتوابعها في المجال الإعلامي وبعض ممن حضروا اللقاء من القيادات، على «جيل الشباب، قادة المستقبل» الذين أنصتوا «خاشعين» للأفكار المندفعة نحو عقولهم وآذانهم التي تغطي بعضها قلنسوات «التدين» المتطرف. بعض إعلامييهم، قابل «باراك وشلومو وألون واريئيليه» ليسمع منهم «الإعجاب بالشريك الفلسطيني الذي تم اكتشافه للتو»! لكن ذلك الإعلام لم يستطع أن يقدم الشابات والشباب العربي الفلسطيني «صمود أحمد سعدات وختام سعافين وديانا الزير وفجر حرب» الذين أكدوا رفضهم لمثل هذه اللقاءات بالتظاهر أمام المقاطعة، لأنها «تجمل وجه الاحتلال ولا تخدم أهداف شعبنا، وتفتح أبواباً جديدة للتطبيع معه، في الوقت الذي تتسع فيه حملة مقاطعته في بلدان عديدة». كيف يمكن لجيل، ولد ونشأ على الأرض المسروقة والمحتلة من آبائه وأجداده الغزاة القادمين من وراء البحار والحدود، ورضع الأفكار العنصرية الاستئصالية، وتربى في ظل مناهج موغلة بالكره والحقد على العربي، ومارس في المعهد والجامعة والجيش العنف نحو صاحب الأرض، أن يقارن بشعب معظم أبنائه إما مطاردين أو أسرى _ الذين لم يأت المتحدث على ذكرهم أمام مستمعيه _ أو شهداء، أو متظاهرين احتجاجاً على تلك الزيارة ومثيلاتها، بأنهم يشبهون جلادهم وقاتلهم وسارق أرضهم؟ هل هناك كلام أكثر «هراء» مما قيل. ليست الخطورة في الكلام فقط، بل في الحوارات واللقاءات التي تتم داخل الغرف في أكثر من مدينة، وعلى أرض الواقع، أيضاً. سكين التصفية بدأت تنحر عميقاً في عنق القضية، فماذا نحن فاعلون؟ سؤال ينتظر إجابة عملية وسريعة من حركات وجبهات النضال الوطني السياسية والعسكرية وقوى المجتمع المدني/ الأهلي، الملتزمة بالمقاومة وبتحرير فلسطين، كل فلسطين.
* كاتب فلسطيني