بعد طول ترقّب وانتظار، أصدر المجلس الدستوري الجديد في 12 أيلول 2019 قراره الأول (الرقم 4/2019) في الطعن المقدم بقانون الموازنة. وبالفعل، قرر المجلس الدستوري بعد تعليل مسهب إبطال مجموعة كبيرة من المواد ولا سيما تلك التي تمسّ استقلالية السلطة القضائية المكرسة في المادة 20 من الدستور. لكن موضوع بحثنا لا يتعلق بهذا الجانب من القرار رغم أهميته، بل بالمادة 80 من الموازنة التي تتعلق بحفظ حق الناجحين بتعيينهم في الوظائف المناسبة والتي أثارت جدلاً سياسياً واسعاً بسبب اعتبار البعض أنها «غير ميثاقية» كونها لا تحترم المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وتخلّ بالتوازن الطائفي.فقد أعلن المجلس الدستوري في موقف شديد الاستغراب أنه قرر عدم التصدّي لدستورية هذه المادة، أي أنه استنكف عمداً عن النظر فيها كون رئيس الجمهورية أرسل رسالة إلى المجلس الدستوري يطلب فيها تفسير المادة 95 من الدستور التي تتعلق بالتمثيل الطائفي في وظائف الدولة. وما يفاقم من خطورة الأمر هو اعتبار المجلس في القرار نفسه أن هذه المادة غير واضحة وغامضة، علماً بأن «الاجتهاد الدستوري اللبناني والفرنسي مجمع على القول بعدم دستورية النصوص التشريعية غير الواضجة وغير المحددة...» أي أن المجلس اعتبر صراحة أن المادة 80 من قانون الموازنة هي مخالفة للدستور، لكنه امتنع عن اتخاذ قرار بإبطالها لأن المجلس النيابي «أصبح واضعاً يده على الموضوع».
إن موقف المجلس الدستوري هذا يشكل دون أيّ مبالغة انتحاراً قانونياً مكتمل الأوصاف كونه يؤدي بكل بساطة إلى رفع يد المجلس الدستوري عن كل موضوع تقرر السلطة السياسية إحالته أمام المجلس النيابي بحجة «تفسير الدستور». إن تداعيات قرار المجلس الدستوري خطيرة جداً لأن المجلس يكون قد تنكّر لصلاحياته بتفسير الدستور في معرض رقابته على دستورية القوانين، كما جاء في قرار سابق له، إذ اعتبر صراحة أنه «يعود للمجلس أن يفسر الدستور في معرض أعمال رقابته على دستورية نص تشريعي ما لتحديد مدى انطباق هذا النص على أحكام الدستور...» (قرار رقم 4 تاريخ 29 أيلول 2001). ولا تقف نتائج هذا الموقف المستغرب على تحويل المجلس الدستوري إلى مؤسسة رديفة ومستلحقة بالقرار السياسي الذي يستطيع منع المجلس من ممارسة اختصاصه كلما قرر مجلس النواب وضع يده على مسألة ما، بل أيضاً شكّل هذا القرار اعترافاً ضمنياً بحق مجلس النواب بتفسير الدستور بغالبية عادية ونصاب عادي، ما يهدد كلياً إطاحة مبدأ سموّ الدستور، علماً بأن مجلس النواب لا يحق له تفسير الدستور في حال كان المقصود بذلك التفسير الأصلي الملزم الوحيد وفقاً لما شرحناه سابقاً («الأخبار» عدد 7 آب 2019).
منح المجلس الدستوري ضمنياً مجلس النواب صلاحيّة لا يملكها وتخلّى عن أهم واجباته


لقد منح الدستور في المادة 19 منه صلاحية مراقبة دستورية القوانين للمجلس الدستوري، ما يعني أنه منحه حكماً صلاحية تفسير الدستور في معرض رقابته تلك. وهذا يعني أن المجلس الدستوري هو الجهة المخوّلة لتقديم التفسير الأصلي للدستور وذلك خلال ممارسته لاختصاصه المحفوظ له صراحة في الدستور رقابته. وبالتالي، يكون المجلس الدستوري في قراره هذا قد استنكف عمداً عن الفصل في قضية معروضة أمامه، وقد لا تعرض مجدداً في المستقبل، ما يعني أنه تنكّر للحماية التي يجب عليه أن يوفرها للمواطنين عبر حرصه الدائم على ضرورة احترام السلطة التشريعية للضمانات التي يوفرها الدستور لهم.
وهو أيضاً أعلن انسحابه التام من كل قضية تقرر السلطة السياسية إحالتها إلى مجلس النواب، مقرّاً بأنه لا يحق له تفسير الدستور خلال رقابته لدستورية القوانين بانتظار ما يقرره مجلس النواب، وهذا ما يخالف الأسس النظرية التي وضعها العالم القانوني الكبير هانس كلسن الذي اعتبر أن القانون فور إقراره في مجلس النواب يصبح مستقلاً عن إرادة المشترع استقلالاً تاماً، ولا يمكن بالتالي العودة إلى نية المشترع من أجل إلزام المحاكم بتفسير معيّن للقانون. فتفسير الدستور في مجلس النواب يتمّ عبر نقاش عام بين النواب ينتهي بالتوافق على إعطاء النص المختلف عليه أحد المعاني الممكنة، وبالتالي يبقى دون أي قيمة قانونية ملزمة لأن الدستور لم يخوّل مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور، ولم يحدد الآلية التي يصبح فيها هذا التفسير ملزماً لسائر السلطات في الدولة.
لقد منح المجلس الدستوري ضمنياً مجلس النواب صلاحية لا يملكها، وتخلّى عن أهم واجباته، وهكذا تكون الهيئة الجديدة للمجلس الدستوري قد عرّضت استقلال هذه المؤسسة لخطر شديد، فجاء أول قرار لها مخيّباً للآمال، كونه وبكل وضوح يشكّل تسوية سياسية من أجل إرضاء مختلف أطراف السلطة الحاكمة، عبر إعلان مخالفة المادة 80 من الموازنة للدستور من جهة، لكن دون الإقدام على إبطالها من جهة أخرى. لذلك، وفي حال لم يتراجع المجلس في قرارات لاحقة له عن هذا الأمر، يكون قد وضع نفسه على سكّة نهايته.
* أستاذ الأعمال التطبيقية للقانون الدستوري في الجامعة اليسوعية