تحاول المملكة العربية السعودية النجاة في خضم التغييرات التي تطاول البلدان العربية، ولا تنأى بنفسها، بل تخوض في وقف المد قبل أن يطاولها، والتمسك بقيادة لطالما سعت إليها في العقود الماضية، وهي قيادة ما سمي محور الاعتدال العربي الذي كان لصيقاً بسياسات الولايات المتحدة.
كذلك تسعى السعودية إلى الحفاظ على إدارة مجلس التعاون الخليجي رغم خلافاتها مع قطر وخروج عمان عن قراراتها، ليبدو هذا المجلس وكأنه قد بدأ يتزعزع منذ سقوط الحليف المصري الرئيس حسني مبارك، والانفتاح الأميركي على إيران. وها هي تحاول التمسك بمصر كضامن للنظام الأمني الخليجي وتتناقض مع تركيا حليف الأمس. بدت المنظومة المتحالفة تاريخياً مع الولايات المتحدة وكأنها على مياه عائمة في ظل محاولة الأخيرة ترتيب وضع المنطقة قبل تفرغها لوضعها الداخلي ولغير منطقة.


بين مدّ وجزر

مرت العلاقات السعودية – المصرية تاريخياً بمدّ وجزر؛ فخلال الستينيات من القرن الماضي، خاضت مصر والمملكة العربية السعودية حرباً بالوكالة في اليمن دامت ثماني سنوات. يمكن القول إن الأفكار الثورية الناصرية لم تجد لها صدى في السعودية. ولا شك في أن استقبالها للإخوان المسلمين في أزمتهم مع الحكم، ودعمها لهم في نفس تلك الفترة، أتيا نكاية بجمال عبد الناصر. لقد تنافست القاهرة والرياض منذ ذلك الوقت بصورة دورية خارج ساحة القتال حول تولي زمام القيادة في العالم العربي. شاركت مصر والمملكة العربية السعودية في تأسيس الجامعة العربية عام 1945. إلا أن مصر أدت لفترة طويلة دوراً مهماً على الساحة العربية، بحكم تاريخها وموقعها، وكذلك مساحتها الجغرافية وديموغرافيتها. كان دورها المؤثر في المنطقة يزعج العربية السعودية. لقد طردت مصر من الجامعة العربية في أعقاب توقيع أنور السادات لاتفاقية كامب دايفيد مع إسرائيل عام 1979. ثارت السعودية بسبب عدم استشارتها، وما لبثت أن أعادت علاقاتها مع السادات. أعيدت مصر إلى الجامعة العربية في عام 1989 واستأنفت دورها الإقليمي. لقد كانت الطفرة النفطية سبباً لصعود مركز السعودية في العالم العربي.
تضاءلت مكانة مصر ونفوذها على مدى العقدين الماضيين بعد حرب عاصفة الصحراء 1991، وتحول التوازن بين مصر والسعودية حول زعامة العالم العربي إلى مصلحة المملكة. عكس ذلك ضعف مبارك وأداءه الاقتصادي. لقد أدى صعود إيران دوراً في قيام تعاون بين هاتين الدولتين المواليتين للولايات المتحدة، وفي تحقيق تقارب بينهما وقيام تنسيق سياسي لمواجهة السياسة الإيرانية في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية.
في المقابل، دعمت السعودية العلاقات التجارية والاقتصادية في مصر، ما أثر في العلاقات السياسية وزادها لحمة. وفرت المملكة فرصاً للعمالة المصرية، بحيث فاق عدد العمالة المصرية مليون عامل يحوّلون الأموال إلى الداخل المصري. كذلك، كانت مصر مقصداً جذاباً للسعوديين. زاد حجم التبادل التجاري بين الدولتين، وبلغ حجم التجارة الثنائية 3.5 مليارات دولار أميركي عام 2008، وقد مثّل أكثر من ثلث تجارة مصر مع العالم العربي. والمملكة العربية السعودية هي أكبر مستثمر في مصر. حتى عام 2009، قامت باستثمار ما يقرب من 11 مليار دولار أميركي.
لقد قامت السعودية ومصر بوضع التنافس بينهما جانباً لمصلحة إقامة جبهة موحدة ضد إيران، وناقشتا فتح أسواق العمل وإدراج مصر في «الاتحاد الجمركي لدول مجلس التعاون الخليجي»، وهي خطوة من شأنها أن تسهل حرية تنقل العمالة المصرية في شبه الجزيرة العربية. كل ذلك وسط ازدياد المخاوف من انتشار الأسلحةالنووية الإقليمية.


الصراع على مصر

اعتبرت إطاحة الرئيس مبارك كارثة بالنسبة إلى السعوديين الذين حمّلوا الأميركيين، وبالتحديد الرئيس باراك اوباما مسؤولية تنحيه. لقد أُسقط الحليف الاساسي الشخصي والسياسي للسعودية في المنطقة العربية؛ فمصر، بالنسبة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ذات أهمية خاصة؛ فهي تمثل قلب النظام العربي، ولا سيما أنها قريبة من المنظومة الخليجية، وجزء أساسي، لا بل رئيسي، من أمن المنطقة العربية. فالتغيير دونه مخاطر على الأمن الخليجي، في ظل التفوق النووي الإيراني.
كان يكفي أن ينتمي الرئيس المصري الجديد إلى جماعة الإخوان المسلمين لتتوتر العلاقات المصرية الخليجية. فالإخوان المصريون هم الأقرب إلى تركيا العدالة والتنمية؛ فهما ينتميان إلى منظومة إسلامية مناوئة فكرياً لتلك السعودية، بحكم نظرة الإخوان الأممية المتعلقة بفكرة الخلافة الإسلامية.
التحالف الإخواني ــ التركي، قائم ليس فقط أيديولوجياً، بل سياسياً؛ فتركيا اعتبرت نموذجاً إسلامياً يحتذى به في المنطقة، ولا سيما بالنسبة إلى حزب النهضة التونسي والإخوان في مصر وحركة حماس في غزة، الأمر الذي أعاد إلى أذهان السعوديين تاريخاً من الصراع الدموي بين الوهابيين والعثمانيين الذين رفضوا المذهب السني الرسمي للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، وكان الأمر قد اعتبر يومها خروجاً عن السلطة وتهديداً لها. عدا عن محاولات التمرد العسكري الوهابي الذي حمل العثمانيين على إيكال أمر تمردهم إلى محمد علي باشا والي مصر. وبعد حرب ضروس استمرت قرابة عامين وسبعة أشهر استسلم خلالها عبد الله بن سعود، وقد ترتب عن حملة الجزيرة العربية القضاء على قوّة الوهابيين وإعادة نفوذ السلطان العثماني. لقد شهد تاريخ علاقة السعوديين مع تركيا في بدايات القرن العشرين صراعات جرى استكمالها مع الشريف حسين شريف مكة الذي شكل العصا البريطانية بعد وعود السير هنري مكماهون بإقامة المملكة العربية وجعله ملكاً عليها مقابل وقوفه إلى جانبهم وطرد الأتراك من المنطقة العربية باسم الحكومة العربية التي لم ترَ النور. هذا في التاريخ. أما في الحاضر، فالحكام السعوديون خشوا قيام تحالفات على قاعدة الإسلام الذي يجمع التنظيم العالمي للإخوان الذي لا مكان لهم فيه وليس على قاعدة العروبة؛ فمن شأن تمكن الإخوان في مصر أن يجعل دول الخليج محاصرة بين المثلث الإسلامي الأكبر المحيط بالخليج من كل جانب (مصر وإيران وتركيا). هذا ما جعلها تتوجس وأخواتها في مجلس التعاون الخليجي عدا قطر حليفة تركيا والداعمة للإخوان وتركيا.
عمدت هذه الدول على عدم تلبية نداء الرئيس محمد مرسي إلى المساعدة الاقتصادية لمصر، بل إلى دعم المعارضات المصرية التي وقفت في وجه الإخوان وتحالفاتهم على الصعيدين المؤثرين المالي والإعلامي. إن محاولة إيران إقامة علاقات مع الرئيس مرسي وانفتاحه عليها زاد من توجس دول مجلس التعاون، لدرجة أنه خلال عام 2012 حتى 2013 لم يقم أي مسؤول منهم بأي زيارة للقاهرة، رغم زيارات المسؤولين المصريين وطلب المساعدة المالية والاقتصادية. لا شك في أن الصراع في مصر بين الإخوان والمؤسسة العسكرية طبع مصر منذ الخمسينيات، ولا نبالغ إذا قلنا إنه الصراع الجدي الوحيد في مصر الذي يحسب له حساب في موازين القوى الداخلية المصرية. صحيح أن الليبراليين والناشطين الحقوقيين والسياسيين، كما بعض الأحزاب، خاضوا انتفاضة 25 يناير لإسقاط الرئيس مبارك وأعوانه تخلصاً من حكمه. لكنهم لا يعتبرون قوى وازنة ومرجحة في الداخل المصري. إن الأخطاء التي ارتكبتها الرئاسة المصرية الإخوانية وقلة خبرتها وغياب برنامجها في إدارة الدولة والاقتصاد والإعلام وضعف أدائها على المستويات المؤسسية، فضلاً عن الاتهامات بالتفريط بالسيادة والخيانة التي سيقت ضدها والهجوم الإعلامي المدعوم عليها، أضف إليه المعارك في سيناء ضد الجيش المصري، حمل مسؤوليتها الحكم الذي اتهم بأنه حكم المرشد. ولم يتضح لغاية اليوم من المسؤول الفعلي عن الاعتداءات هذه؛ فليس هناك سوى اتهامات متبادلة بين الجيش والإخوان.
أسهمت السعودية في الدعم اللوجستي لانتفاضة 30 يونيو وجرى إسقاط الرئيس مرسي في 3 يوليو. مع تشكيل الحكومة وتعيين رئيس مؤقت وبروز عبد الفتاح السيسي وسجن قيادات الإخوان والرئيس المخلوع مرسي وشيطنة حركة حماس، ظهر التناقض التركي – السعودي والخلاف على مصر؛ فتركيا عدّته انقلاباً، أما السعودية فدعمت الدستور واستكمال بناء سلطة تستبعد الإخوان. تناقضت مع الولايات المتحدة واعتبرتها مؤيدة وداعمة لحكم الإخوان في المنطقة. وما زالت السعودية الداعم الاقتصادي الاول لمصر، حيث عززتها أخيراً بـ 4 مليارات دولار، وهي ما زالت داعمة لكل القوى المناوئة للإخوان من صحافة إلى مثقفين وفنانين. وتقف خلف مؤسسة الجيش بعد أن هددت الولايات المتحدة بإيقاف دعمها له.
لكن السؤال الأبرز هو: هل يستوي الوضع المصري في ظل نفس التناقضات التي سادت مصر منذ الخمسينيات، فيعاد إنتاج نفس الديناميات؟ إن استمرار التشدد حيال الإخوان سيترك آثاراً سيئة على الوضع الأمني، وسيستمر الكباش بينهم وبين خصومهم. قد تشكل تركيا ملاذاً آمناً للإخوان، لكن هل يمكن إعادة إنتاج التاريخ السياسي نفسه؟ تأمل السعودية أن تعود مصر إلى سابق عهدها في التضامن الأمني والسياسي مع دول الخليج، وتراهن على تشكلها كرافعة ضد تركيا وإيران تحت مسمى العروبة. لكن الوضع الدولي والإقليمي تغير اليوم، وحتى لو وقفت مصر ضد سياسة الولايات المتحدة الداعمة لتوافق عسكري – إخواني، فهل يمكنها معاداة إيران القوية المنفتحة اليوم على العالم؟ وهل تستطيع الوقوف في وجه تركيا؟ وهل يكفي مصر الـ 90 مليون مواطن أموالٌ ومساعدات مالية سعودية؟
إن مصر اليوم بحاجة إلى مشروع سياسي واقتصادي ووفاق وطني وتعاون مع دول إقليمية ودولية. مصلحتها لا تكمن في وقوفها في محاور ستثبت التطورات فشلها، ولا سيما أن السعودية لا تستطيع في ظل التركيبة الهرمة لقياداتها ونظرتهم الذاتية للتطورات الموضوعية في الشرق الأوسط إفادة مصر. يكفي أن تساعدها على المدى المنظور، لكن دون رهانات على وقوف مصر في وجه متغيرات مهمة تطرح تبديل وجه المنطقة.

تركيا لا تستسلم في سوريا

قد تكتفي تركيا بالوقوف جانباً، لا الانسحاب بعد الضربة السعودية التي تلقتها في مصر. لكنها خسارة لن تقبلها في سوريا التي دفعت فيها أثماناً باهظة من أمنها واقتصادها واستقرارها. ولن تسمح للسعوديين بعد ضرب الجيش الحر والموالين لها من قبل «داعش» المدعومة سعودياً بطردها من سوريا أيضاً؛ فهي تستطيع وقف المساعدات اللوجستية عنها في ريف حلب وإغلاق الحدود وإعادة دعم المعتدلين، ولا سيما بعد قرار الكونغرس دعم المعارضة السورية المعتدلة.
لقد طردت الاستخبارات السعودية من بلادها بعد تعاون دام سنوات. بعدما قامت السعودية بالاستئثار عبر ضرب النصرة المدعومة قطرياً والجيش الحر المدعوم تركياً لضرب جنيف 2 وحرمان الآخرين تمثيل فصائل مقاتلة بعد هزمها، وبذلك تكون هي ممثلة داعش التي رفضت الانضمام إلى جنيف 2.
بدت محاولات السفير فورد ممثل الولايات المتحدة، وجيفري فيلتمان مساعد الأمين العام للامم المتحدة قبل جنيف وفي أثنائه بالضغط على الائتلاف والاستعانة ببعض الشخصيات القريبة منها في محاولة لإطالة أمد المفاوضات في جنيف 2 بعد تعنت سعود الفيصل الذي حاول ضرب المؤتمر بالدعوة إلى اختصار الكلمات ما دام هناك اتفاق على انتخاب حكومة انتقالية يملك هو أسماء أفرادها، فظهر وكأنه يتخطى الأميركيين والأتراك، وكأنه يملك هو وحده مفتاح الحل أو عدمه في سوريا.
توجهت تركيا إلى إيران من أجل علاقات اقتصادية، وهي تاريخية بين البلدين، لكن الزيارة في هذا التوقيت، أي بعد استبعاد إيران من مؤتمر جنيف 2، ما عكس عدم جدية في إنجاحه؛ فترى تركيا اليوم بعد الانفتاح الأميركي – الإيراني ومحاولة السعودية إقصاءها عن الملف السوري، إضافة إلى مشاكلها الداخلية وتراجع اقتصادها، أن التعاون مع إيران في السياسة والاقتصاد والنفط هو الأنجع، وستثبت الأيام المقبلة هذا المسار .
* باحثة لبنانية