التأثير الذي تركته النيوليبرالية على النظام السياسي والاقتصادي في الغرب لم يقتصر على تعميق التفاوت الاجتماعي ارتباطاً بتغيير آلية التراكم، بل تعدّاه إلى نمط التمثيل نفسه، حيث لم تعد المؤسّسات المنتخبة وفقاً لآلية التصويت الليبرالية تحظى بالغطاء نفسه الذي كانت تحوزه قبل تفكيك دولة الرعاية في كلٍّ من الولايات المتحدة وبريطانيا.
«مستقبل أوروبا» (سبيروس ديرفينيوتيس)

حتى في الدول التي لم يصل إليها المدّ النيوليبرالي إلا متأخراً (كفرنسا وألمانيا) وبقي فيها حضور واسع للشبكة التدخّلية الخاصة بالدولة، بدأت آثار النيوليبرالية بالظهور، نظراً إلى صعوبة الفصل بينها وبين التحالف السياسي الاقتصادي الذي تقوده الولايات المتحدة مع بريطانيا. مؤسّسات العولمة التي أُنشئت لاحقاً («منظمة التجارة العالمية» تحديداً) والتي كانت مسؤولة عن تعميم سياسات التفاوت الاجتماعي داخل الغرب نفسه اعتمدت على هذا التحالف لإضعاف الدول التي كانت لا تزال تحتفظ بتشريعات تحمي الفئات المهمَّشة والضعيفة من تبعات التفاوت الحاصل. حتى عام 1995، تاريخ إنشاء «منظّمة التجارة العالمية» كانت ثمة ممانعة من هذه الدول للانخراط على نطاق واسع في سياسات العولمة، وهو ما كان يتطلّب المزيد من إضعاف أكثرية البنى داخلها التي تعارض هذه السياسات لمصلحة أقلّية أوليغارشية تدعم سياسات التحالف الأميركي البريطاني ولا ترى مانعاً في تبنّي النيوليبرالية الاقتصادية كوجهة رئيسية للمرحلة.

مظلّة التقليد السياسي
التبنّي التدريجي لاحقاً لسياسات «منظمة التجارة» لم يجعل هذه الأقلّية في موقع مقرِّر، فظلّ دعمها للنيوليبرالية مقتصراً على معارضة النموذج الحمائي، والذي كان يوفّر المظلة الفعلية لعمل أكثرية القوى السياسية والاجتماعية هناك. هذا جعل هامش المعارضة لهذه السياسات يتوسّع أكثر فأكثر، وخصوصاً حين بدأ الحراك المناهض للعولمة بتطوير آليات عمل تتناسب مع طابع هذه الأخيرة العابر للدول. الأحزاب التي تنتمي إلى التقليد السياسي في كلٍّ من فرنسا وألمانيا وحتى في بريطانيا (ثنائية اليمين واليسار التقليديين) لم تكن تعي بدايةً أهمية التحوُّل الحاصل، فضلاً عن إدراك تبعاته المباشرة على مشروعية التمثيل السياسي لها. ولكنها اضطرت إلى مجاراته حين بدأت الأطر سواء المناهضة للعولمة أو الداعمة لها بإفراز قوى لا تنافسها فحسب، بل تحمل أيضاً تصوُّرات مختلفة عن الواقع السياسي والاقتصادي في بلدانها. نشوء القوى المدافعة عن البيئة هو أحد هذه الإفرازات، حيث لم يكن ثمّة وعي كافٍ قبل ذلك بهذه المسألة، وهي أتت ليس للردّ على الخطورة التي يمثّلها تصاعد النشاط الصناعي الملوِّث للبيئة في هذه الدول فقط، بل أيضاً لإضفاء شرعية جديدة على التقليد السياسي المعارض لصعود النيوليبرالية كوجهة وحيدة للعولمة. النظام السياسي في أوروبا استوعب هذه المسألة جيداً وسمح لهذه القوى، بعد توسيع أطرها التمثيلية وتحوِّلها إلى أحزاب سياسية بالانضمام إلى التقليد الذي تمثّله ثنائية اليمين واليسار، وهو ما ساعد على مجابهة إفرازات أخرى للعولمة لم يكن ممكناً في تلك الفترة السماح لها بمجرّد الحضور رمزياً في المشهد.

«وظيفية» صعود اليمين المتطرّف
صعود أحزاب «الخضر» إلى واجهة المشهد السياسي هناك أتى بالتزامن مع بروز نزعة يمينية راديكالية لدى قطاعات من الطبقة العاملة الأوروبية تتمحور حول سياسات الهوية. النيوليبرالية التي لم تجد من يتبنّاها داخل الأحزاب الرئيسية في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا حتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي، استفادت كثيراً من هذا الصعود المفاجئ لليمين المتطرف، حيث يمكن بسهولة تحويل السخط الشعبي على سياسات الهجرة إلى ذريعة للنيل من الأحزاب الكبرى التي عارضت بوضوح تبنّي النيوليبرالية كوجهة جديدة للمرحلة. تشجيع الهجرة، وخصوصاً إلى فرنسا كان من ضمن السياسات التي تبنّتها الدولة هناك بعد انتهاء احتلالها للجزائر، وهي لم تكن فقط تعبيراً عن اعتذارها عن المرحلة الاستعمارية، بل أتت أيضاً في سياق توسيع إطار دولة الرعاية ليشمل الأيدي العاملة التي قَدِمت من المستعمرات الفرنسية السابقة للمساهمة في إعادة بناء ما دمّرته الحرب في فرنسا. هذا النوع من التراكم الرأسمالي والذي يُعدّ امتداداً للتنازلات التي قُدِّمت هناك (وفي ألمانيا لاحقاً) لقاءَ الاستمرار في مواجهة الاشتراكية لم يعد ممكناً استمراره مع التحوّلات المصاحبة للعولمة.
أحزاب الاستابلشمنت الأوروبي ساندت في معظمها مسعى ألمانيا والترويكا الأوروبية لمنع اليونان من تشكيل نموذج يُحتذى به في مناهضة سياسات التقشّف

فالسياسات التي أتت بها هذه الأخيرة عبر مؤسّساتها الكبرى تشجّع على تنقُّل الرساميل أكثر من اليد العاملة والأفراد، ولا تحبّذ في حال حصول انتقال للقوى العاملة من الجنوب إلى الشمال مساواتها بمواطني هذه الدول، أو حتى توفير ظروف عمل لائقة لها. الانتقال هنا لم يأتِ بموجب اتفاق مسبق على ضمان الحقوق كاملة بما في ذلك الجنسية لقاءَ استغلال قوّة العمل، بل حصل في سياق التراجع عن كلّ التنازلات التي قدّمتها دولة الرعاية الكولونيالية، ولمصلحة نموذج يقوم على أنقاضها إذا صحّ التعبير. بهذا المعنى، تتقاطع العولمة مع اليمين المتطرف الذي يعارض شكلياً بعض سياساتها في رفض النموذج الرأسمالي الذي يتيح للمهاجرين فرصاً متساوية - مع سكان البلاد - في الحصول على العمل والحقوق، لدى انتقالهم من الجنوب إلى الشمال. اليمين المتطرّف ليس مسؤولاً بالطبع عن صعود هذه السياسات، ولكنه يستفيد منها في سياق بروزه على حساب التقليد السياسي لدولة الرعاية الكولونيالية، وفي المقابل، تجد العولمة النيوليبرالية في هذا الصعود فرصةً للمساومة مع الأحزاب الكبرى على خلفية التلويح لها - إن لم تذعن لسياساتها - بالاستبعاد من ثمار التراكم الجديد.

انقسام الطبقة العاملة الأوروبية
لم تكن هذه المرحلة التي استمرّت حتى أوائل الألفية الثالثة تعبيراً مباشراً عن صعود الصراع الطبقي في هذه الدول، لأنّ مستويات التفاوت الاجتماعي كانت لا تزال عند حدود معينة، بخلاف ما كان عليه الحال في الولايات المتحدة عشية أزمة عام 2008. الكوابح التي وُضعت أوروبياً أمام صعود النيوليبرالية بالشكل الذي حصل في أميركا وبريطانيا عطّلت مفاعيلها جزئياً، ولكن الضرر كان قد وقع على خلفية التغيّرات التي تسبّبت بها العولمة، وأهمُّها حدوث الانقسام داخل شرائح واسعة من الطبقة العاملة الأوروبية (وخصوصاً في فرنسا وألمانيا) حول مسائل تتعلّق بالهجرة والهوية وفقدان الوظائف و... إلخ. الفرصة التي مثّلها صعود أحزاب «الخضر» على خلفية معارضتها للعولمة لم تستمرّ طويلاً، لأنّ هذه الأحزاب حتى وهي تناهض الآثار السلبية للنيوليبرالية كانت تتبنّى وجهة نظر التقليد السياسي الأوروبي الذي كان قد انتهى عملياً منذ أواسط التسعينيات من القرن الماضي. بهذا المعنى كانت فاعلية أحزاب «الخضر» أكبر حينما كانت جزءاً من حركة مناهضة العولمة على مستوى العالم، على اعتبار أنّ المسائل المطروحة حينها كانت تعالج بالفعل التحديات الجديدة التي أتى بها نمط التراكم الخاصّ بالعولمة. أزمة انقسام الطبقة العاملة - في أجزاء واسعة من أوروبا- مثلاً لا يمكن التعامل معها بأدوات دولة الرعاية، وهو ما كان ليمثّل مشكلة أكبر لولا الانشقاقات التي حصلت في اليسار لاحقاً، وأدّت إلى صعود اتجاهات راديكالية داخله تنادي بأولوية الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، بدلاً من الاستمرار في تعميق الانقسام داخلها على خلفية الموقف من اليمين المتطرف. تبنّي المقاربة الثقافوية للأزمة والتي هي امتداد لمرحلة سابقة هو الذي حال لفترة دون تلمّس المشكلات الفعلية التي دفعت بأجزاء كبيرة من الطبقة العاملة الأوروبية إلى تأييد هذا النوع من اليمين تحديداً في رحلة صعوده على أنقاض دولة الرعاية.

بروز ثنائية شمال- جنوب
مع بروز مسألة سياسات التقشّف لاحقاً وانتهائها إلى حلول نيوليبرالية على حساب معظم دول الجنوب الأوروبي تبيّن أنّ معارضة التقليد السياسي للنيوليبرالية في دول الشمال تحصل بالتوازي مع فرضه، هو بالتحديد، أشكالاً أكثر حدّة منها في دول الجنوب. أحزاب الاستابلشمنت الأوروبي ساندت في معظمها مسعى ألمانيا ومعها الترويكا الأوروبية لمنع اليونان من تشكيل نموذج يُحتذى به في مناهضة سياسات التقشّف، وفضّلت أن يكون ثمن استمرار دولة الرعاية لديها حتى بعد تجاوز العولمة لها إغراق دولة فقيرة مثل اليونان بالديون. الانهيار الذي حصل للطبقات الوسطى والعاملة هناك لم يكن فقط بسبب أزمة الديون، بل أيضاً لكون سياسات المديونية هي العامل الأكثر حفاظاً على نموذج دولة الرعاية في دول الشمال. فبدون النهب المنظّم الذي حصل بموجب سياسات التقشّف النيوليبرالية في اليونان لم يكن ممكناً استمرار الأحزاب الحاكمة في ألمانيا وفرنسا بتمويل نمط حياة الفئات التي تعارض تطبيق النيوليبرالية في بلدانها. أحزاب اليسار الأوروبي - بما في ذلك «الخضر» - بوقوفها على الحياد في هذه المعركة عبّرت عن سوء فهم واضح لجذر المسألة الطبقية في أوروبا، والتي تتمثّل في المشكلات المستمرّة التي يخلقها تجاوز نمط التراكم الخاصّ بالعولمة لنموذج دولة الرعاية. القبول بمعارضة جزئية للنيوليبرالية في الدول الغنية لقاءَ التغاضي عنها تماماً، بل وحتى تبنّيها في الدول الفقيرة لا يساعد على إيجاد نمط مستقرّ لمجابهة آثار العولمة. وإذا كان ثمّة مجابهة بالفعل فستؤدي بسبب طابعها الجزئي والثقافوي إلى انقسام واسع في الأوساط الأكثر تضرُّراً من العولمة، والتي لم يجرِ الالتفات لمعاناتها إلا حين انتقلت الأزمة جغرافياً من دولة إلى أخرى، وبدأت في إحداث شروخ عمودية في بنية الجغرافيا السياسية الأوروبية.

خاتمة
الالتفاف غير المسبوق أوروبياً حول ألمانيا في أزمة الديون كان بسبب هذا التهديد الذي شكلّته معارضة اليونان للقيادة التي تمثّلها برلين بالنيابة عن كلّ دول الشمال الأوروبي الغنية. وهو تهديد لا يزال قائماً على الرغم من انتهاء شكل معارضته السابق، حيث بدأت تلوح، بعد النجاح في فرض سياسات التقشٌّف بشكل كامل على معظم دول الجنوب، ملامح أزمة جديدة بالنسبة لنمط التراكم الذي تقوده ألمانيا. هذه المرّة ستكون المهمة أصعب، كون التهديد يأتي من داخل دول الشمال، ومن ألمانيا نفسها، بعد انفجار أزمة الهجرة وعجز الائتلاف الحكومي الممثّل للاستابلمشنت بقيادة ميركل عن احتوائها. قُرْب انتهاء هذا الشكل من القيادة حتى بعد النجاح في سحق معارضة اليونان هو نتاج عجز ليس فقط عن فهم أزمة الترسمل في أوروبا بعد تبنّي السياسات النيوليبرالية بشكل متفاوت وانتقائي، بل أيضاً عن إدراك الطبيعة المتحوّلة والمركّبة للطبقة العاملة هناك، والتي لم يعد ممكناً استيعابها بالطريقة القديمة الخاصّة بدولة الرعاية.
* كاتب سوري