في الجنوب، كما في المناطق اللبنانية كلّها، كثيرٌ من المواطنين والمواطنات والصرخات الاحتجاجيّة على الوضع الاقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعي والثقافي والبيئي. وفي غياب حركة معارضة وطنية وتشكيلات سياسية واجتماعية جامعة، يبقى هؤلاء أفراداً وصرخاتٍ ومواقفَ متفرّقةً متقطّعة. فيما البلد، بسبب سياسات المنظومة الحاكمة وفسادها ومحاصصاتها وتبعيّتها واحتكارها السلطة ومؤسسات الدولة... إلخ، مفتوحٌ على احتمالاتِ التدهورِ والانفجارِ والغضبِ والمجهول، اقتصاديّاً وماليّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً.انطلاقاً من هذا ومن ضرورة الانتقال إلى الفعل، تعالوا نوحّد الجهود والأصوات والتجمّعات. لا من أجل وحدة شكلية أو حزبيّة، إنما لضرورة الانتقال من الهامش والتشتت إلى الفعل المنظم، وإلى ملاقاة المواطنين والمواطنات والتجمعات والمواقف والصرخات الاحتجاجيّة الاعتراضية في المناطق الأخرى.
هناك ضرورة لهذا ولإيجاد صيغة تلاقٍ وجمعٍ، ديمقراطيّة، ترتقي بالعمل والجهود، وتحفظ التنوّع السياسي والاجتماعي والثقافي، وتنظّم الأفراد والآراء ليكونوا - معاً - أداة عمل ذات حساسية تجاه المواطنين وأحوالهم ومطالبهم، وتستجيب لحاجات البلد، وتترجم الاعتراض والاحتجاج ببرنامج عمل سياسي واجتماعي وثقافي.
واحدٌ من الاقتراحاتِ التي يقدّمها هذا الواقع هو تنظيم مؤتمر يشارك فيه المواطنون والمواطنات كأفراد، والحزبيون منهم لا يمثّلون أحزابهم إنما هم أفراد مثل غيرهم ومتساوون مع الآخرين، إذ إن المؤتمر ليس تحالف أحزاب أو مجموعات، إنما تعاقد حرّ بين مواطنين ومواطنات. فالمؤتمر يجمع التنوّع، أو أجزاء واسعة من سجّادته. والمؤتمر مساواة بين الجميع. والمؤتمر ينقل المواطنين والمواطنات إلى شكل من أشكال الوحدة المنظّمة. وهو لا يستبق الأمور ولا يقمع صوتاً ولا ينصّب أحداً فوق أحد، ولا يأخذ أحداً عند أحد، ولا يلتحِق بجهة أو حزب، ولا يلبس عقيدة أو خياراً سياسيّاً وفكراً مسبقاً. وإضافة إلى ذلك، المؤتمر مساحة وفرصة وآلية تحمل إمكانيّة الجمع والإنتاج.
يحتاج ذلك وإنجاحه إلى قبول تنظيم هذا اللقاء الدائم. فصحيح أن اللقاء الدائم هذا ليس حزباً، لكنّه ليس ندوة أو حلقة مفتوحة للنقاش (فحسب). ويمكن الاتفاق على آلية حوار وعمل، تجعله سلساً ومنتِجاً وهادفاً. كأن يتزامن التشاور في الشأن السياسي والعمل الاجتماعي والثقافي مع عملية الجمع والتلاقي. فتُعد بناءً على التشاور وجمع الآراء والأصوات ورقة سياسية وأخرى للعمل الاجتماعي والثقافي، وثالثة لشكل التنظيم المرتقب.
وحين يلتئم المؤتمرون (هناك ضرورة للاتفاق على موعد كتحدٍّ لتنظيم دورة العمل)، يناقشون تلك الأوراق، ثم يمنحون أنفسهم فرصة زمنية (يُتّفق عليها) لإعادة صوغ برنامجهم السياسي والاجتماعي وشكل تنظيمهم، بناء على المناقشات والآراء.
ليست العمليّة سهلة، لكنّها ليست مستحيلة. تلزمها رغبة في توحيد الجهود والانتقال إلى العمل المنتج والمنظم.
لعل هناك من يقول إنَّ الذهاب إلى صيغة عمل من لون واحد تحمل إمكانية الإنتاج وأفضل من الغرق في التوحيد وتفاصيله ومن تعريض جهد الجمع للانقسام والتلاشي.
وفي إطار مناقشة هذا الرأي، يمكن القول أولاً إن المقترح ليس تأسيس حزب، والأفضل تأسيس أحزاب وطنية، أي في المناطق اللبنانية كلّها. ثانياً، التنوّع الموجود في طيف المعارضة جنوباً يمكنه أن يلتقي حول برنامج عمل وخطاب سياسي واجتماعي وثقافي. وهذا ضروري سياسيّاً ويشكّل تحدّياً تغدو إزاءه الاختلافات ثراءً يمكن تحويله إلى طاقة للعمل والإبداع. وأجل هو ممكن. يحتاج، فحسب، إلى التفكير في جدوى ذلك، وإلى التمييز ما بين الموقف الشخصي (مع الاحترام للمواقف كلّها) والبرنامج السياسي، بل إلى التمييز ما بين الموقف الشخصي والمطلوب سياسيّاً والممكن في هذه اللحظة.
وللتذكير، المؤتمر إذا ما تحوّل إلى صيغة دائمة ليس حزباً بل حركة سياسية اجتماعية ثقافية تبحث عن تقاطعات مع تشكيلات أخرى في مناطق أخرى. ما يعني أن ليس لزاماً التطابق والتماثل والانصهار في بوتقة فكرية وسياسية واحدة. وإذا كان الحزب يحتاج إلى وحدة فكرية فإنّ المؤتمر الدائم يحتاج إلى اتفاق على برنامج عمل وصيغة تنظيم ديمقراطية يحفظان التنوع ويضمنان العمل المشترك.
ثم إن المؤتمر، الذي يستوعب إلى جانب المستقلين، حزبيين يرتضون بالعمل الديمقراطي وبقواعده وقراراته، لا يمنع أي مشارك إذا ما كان ينشط لبناء حزب أو تشكيل سياسي من مواصلة جهوده. فالمؤتمر مساحة مشتركة للحوار والإنتاج تتفق على برنامج عمل وخطاب سياسي واجتماعي وثقافي وتنظم نفسها لتنفيذ ذلك وتحقيقه. ما يعني أنه لا يطلب تنازلاً سياسيّاً أو فكريّاً من أحد، بل يوجب الاتفاق في شأن الخطاب وبرنامج العمل المشتركَين، ويوجب احترام صيغة العمل هذه والتزام قراراتها.
ولهذا، أي لحفظ التنوّع وإنجاح العمل السياسي والاجتماعي والثقافي، تغدو النسبية في نظام المؤتمر الدائم حاجة لا بدّ منها. وهذه لا تكفل التمثيل الصحيح، نسبياً، فحسب، بل تساعد في تحويل التنوّع إلى طاقة إيجابيّة، وتُبقي أبوابَ المؤتمر الدائم مفتوحة، لا سيما أمام الشابّات والشبّان، إذ لا تحوّل المؤتمر إلى حزب أو تجمّع تحتكره مجموعة أو تصبغه عقيدة.
إنّها دعوة إلى الحوار الهادف والعمل المنظّم، اللذين يحترمان الجميع وآراءهم وجهودهم. فالخروج من التشتت والهامشية هدف بذاته، يُتوّج بالإنتاج والعمل. والديمقراطية التي أفسدت معانيها الحروب وتجارب مأساوية كثيرة، ما زالت ممكنة وضروريّة. والارتقاء من الاحتجاج والاعتراض إلى المعارضة أكثر من ضرورة، في ظل الظروف الخطيرة التي وصل إليها البلد اقتصادياً ومالياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وفي ظل مراوحة حالة الاحتجاج والاعتراض في البلد.
فلنقدّم نموذجاً تفاؤليّاً لنا وللآخرين في الوطن، ولنكن الحجر الأساس الجنوبي في بيت حركة المعارضة التي باتت ضرورة لإنقاذ البلد، دولة واقتصاداً ومجتمعاً وإنساناً، من براثن من يحتكرون السلطة ويستنفدون البلد ويدعسون الدولة ويدمرون الاقتصاد ويستعبدون المواطن ويعطلون الحياة السياسية ويلهون الاعتراض والمواطنين بانقساماتهم وصراعاتهم وتحاصصهم وفضائحهم.

«اختصاصها»
إذا كان الجنوب مساحة مشتركة لا حاجة إلى تفسير أو تبرير عمل المواطنين فيها من أجل توحيد أنفسهم وتطوير أشكال عملهم، لا ضير من توضيح أننا نؤمن بأن الجغرافيا توفر مساحة لتوحيد الاحتجاج والاعتراض والانتقال إلى المعارضة المنظمة. بل إن العمل في المناطق ضروري وأساس من أساسات بناء الحركة المعارضة. ما يعني، وانطلاقاً من أنَّ الجنوب جزءٌ لا يتجزأ من لبنان، أن ليس اختصاص الحركة الاعتراضية الجنوبية معارضة «حزب الله» وحركة «أمل» الموجودَين في الجنوب، دون سواهما.
«اختصاصها»، إذا جاز القول، رفع صوت المواطن في مطالبه ومعيشته وحقوقه وتطلّعاته، والنضال من أجل بناء الدولة والاقتصاد والمجتمع، وبناء نفسها وإنتاج خطابها وبرنامج عملها، والبحث عن الالتقاء مع حالات الاعتراض الأخرى.
«اختصاصها» تجديد الحياة السياسية، في الجنوب ولبنان، بعيداً من لغة التخوين وثقافة الكراهية والتقسيم والمحاور.
«اختصاصها» توفير مساحات ديمقراطية لاطائفية صحية وإيجابيّة للشابّات والشبان للعمل من أجل مستقبلهم ومستقبل وطنهم ودولتهم واقتصادهم ومجتمعهم.
و«اختصاصها» النضال لأجل قضايا هذه المنطقة وناسها وشؤونها.
* كاتب لبناني