حسناً فعلت قيادة حزب الله بإصدار بيان بشأن العدوان الإسرائيلي على أحد مواقع الحزب القريبة من الحدود اللبنانية – السورية، مساء يوم الاثنين الفائت. كان من شأن عدم اصدار البيان زيادة البلبلة التي تركتها الغارة الصهيونية بشأن الهدف الذي طاوله القصف، وموقع هذا الهدف، في الاراضي السورية أم في لبنان.
بدا الأمر، حتى لحظة اصدار البيان، كأن العدو الاسرائيلي بات في موقع من استعاد زمام المبادرة، معنوياً، على الاقل، بعدما تكررت تحرشاته واعتداءاته على لبنان في اكثر من موقع، وعلى مرأى ومسمع من قوات الامم المتحدة. هذا فضلاً عن عمليات الاغتيال والتخريب المعروفة أو غير المعروفة. كانت الخروقات الإسرائيلية شبه محصورة في الطلعات الجوية الدائمة في الاجواء اللبنانية. الخروقات والتحرشات والاغتيالات التي باشرها منذ اشهر، حصلت على الارض، وعلى نحو استعراضي واستفزازي على نحو متصاعد.
عدم اصدار البيان من قبل قيادة حزب الله، كان من شأنه تكريس هذا الواقع الجديد، في لبنان، بعد تكريسه حتى الآن، في سوريا. لقد اطلقت تهديدات ووعود في أواسط السنة الماضية، إثر تكرار العدوان الإسرائيلي على مواقع سورية، بأنّ الرد سيكون تلقائياً من قبل وحدات الجيش السوري، دون انتظار أوامر القيادة. ظروف الصراع في سوريا لم تسمح بذلك. القيادة الصهيونية تجسّ النبض، منذ فترة، وخصوصاً بعد الاعلان الرسمي من قبل قيادة حزب الله عن المشاركة في القتال الى جانب القوات النظامية السورية، بشأن ما اذا كانت جاهزية الحزب قد تأثرت سلبياً، من جرّاء تلك المشاركة. هي تختبر ايضاً ما إذا كان قد طرأ تحوّل تكتيكي بشأن اولويته ارتباطاً بالمعركة في سوريا. بإمكان القيادة الصهيونية، بالطبع، أن تبني على تلك التطورات، استنتاجات جديدة تحاول من خلالها تحسين التوازن لمصلحتها في الصراع الدائر على كل جبهة على حدة، وفي الصراع العربي – الصهيوني على نحو عام (وخصوصاً الآن حيث يسعى الطرف الاميركي إلى التوصل الى تسوية بين «السلطة الوطنية الفلسطينية» والقيادة الصهيونية التي تحاول، بدعم اميركي نشيط، فرض الاعتراف بيهودية دولة الاغتصاب، الى شروط لا تقل خطورة من مثل التخلي عن كامل القدس وحق العودة وتشريع الاستيطان وفرض رقابة عسكرية شاملة على ما تبقى).
قلنا حسناً فعلت قيادة حزب الله باصدار بيان يفسر ماذا كانت طبيعة العدوان وأين حصل، ويتوعد بالرد في الزمان والمكان المناسبين، لكن لا يمكن قبول تلك المبالغة التي تنتمي الى «ديوان الحماسة» العربي المعروف، بمحاولة تصوير هذا البيان كأنه قرار وانتصار استثنائيان، كما ورد في بعض الاعلام وفي بعض المقالات. ينبغي القول، على نحو قاطع، إنّ حزب الله ليس بحاجة الى هذا النوع من «التضامن». إنه بالتأكيد، على دراية كاملة بما استجد من مخاطر وصعوبات وخسائر بسبب نشوب الازمة السورية وتماديها واستعصائها. وهي ازمة مفتوحة يصبح خطرها كل يوم، اكبر واضرارها افدح، ليس في سوريا فقط، بل في لبنان ايضاً. وحدة المعركة ضد العدو الصهيوني، التي أدت فيها المقاومة دوراً استحق اعجاب العدو قبل الصديق، هي التي فرضت ان يتدخل حزب الله في سوريا، لمنع سقوطها لمصلحة قوى دولية وعربية استغلت المطالب المشروعة لأكثرية السوريين، من اجل تحقيق اهداف خطيرة، هي اهداف العدو الصهيوني وحاميه الاميركي، على نحو خاص. هذا ما برر به حزب الله تدخّله في سوريا، وما يصر عليه تكراراً.
غير أن محاولة تفادي الخطر الاكبر، وهو اسقاط الدور السوري في المواجهة العامة مع العدو الصهيوني وحماته، لم تمر، بدورها، بدون آثار وخسائر جانبية. جزء من الخسائر في لبنان. لقد تعمق الانقسام اللبناني ـــ اللبناني الى درجة غير مسبوقة. الازمة السياسية بشأن رفض ادراج وحدة ثلاثي «الشعب والجيش والمقاومة» في البيان الوزاري، كما كان يحصل في السابق، تعبير عن جزء من هذا الانقسام الذي يدور معظمه حول الازمة السورية والمواقف منها. يشير ذلك الى ان الوضع اللبناني، اليوم مثخن بالتشرذم والصراعات، مفتقر إلى الحد الادنى من عوامل التوحد والوحدة الوطنين، برغم تأليف حكومة «المصلحة الوطنية» التي املتها رغبات خارجية لا تجد مصلحة راهناً، في «تفجير» شامل للوضع اللبناني، وان كانت قد شجعت حصول تفجيرات جزئية فيه، قبل أن يتفاقم خطر «الارهاب» إلى المستوى الذي هو عليه اليوم: في سوريا والعراق ولبنان والمنطقة عموماًَ.
تدرك القيادة الصهيونية، ولا شك، ما أصاب أعداءها من ضعف وما يكابدونه من صعوبات. وهي تعمل، بالتأكيد وبالملموس، على خطي تعميق الازمة واستثمارها في آن واحد. وليس من المستبعد، في امتداد ذلك، ان تتجه نحو تنفيذ عدوان شامل على لبنان لمحاولة تحطيم قدرات المقاومة والانتقام من لبنان. هذا هدف كبير اصبح اولوية، وخصوصاً بعد غرق سوريا في ازمتها المتفاقمة منذ ثلاث سنوات، وبعد مشروع الاتفاق النووي الإيراني.
هذه المخاطر المتنوعة، هي التي كانت تفرض ولا تزال، ان يكون حل الازمة السورية اولوية لا تتقدم عليها اية اولوية اخرى. وتسوية الازمة السورية كانت تتطلب بالامس، وهي تتطلّب اليوم، أن تبادر السلطات الرسمية السورية الى بذل جهود حقيقية لهذا الغرض، مع ما يمليه ذلك من استعداد لتقديم تنازلات للشعب السوري وليس قطعاً لأعداء سوريا ولبنان والعرب أجمعين.
للاسف لم يحصل ما يشير الى ذلك في «جنيف 2». يخطئ من يعتقد ان الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل تشاركاننا هذا الأسف. إن استنزاف سوريا وجيشها ومواردها ووحدة اراضيها وكيانها السياسي هي جميعا اهداف أميركية وإسرائيلية حتى اشعار آخر.
ليست الغارة الإسرائيلية الاخيرة مسألة عابرة. إنها مؤشر خطير الى مخطط عدواني لن يُواجه بدون إحداث تحولات نوعية في مشهد الصراع الراهن. أول هذه التحولات ادراك ضرورة اعادة النظر في جزء اساسي من السياسات التي تبيّن ضررها الكبير حتى الان، والتي قد يصبح ضررها قاتلاً في المستقبل!
* كاتب وسياسي لبناني