كان لبيئة الجزيرة السوراقية فضلٌ كبيرٌ في نشوء الحضارات القديمة، وفي تدجين البداوة ودمجها في هذه الحضارات. فالبداوة بنت الصحراء، ولا يمكن أن تدوم في حيّزٍ فيه كلُّ المقومات الحياتية والحضارية كما كان حيّز الجزيرة السوراقية. إذ إن المجتمعية (أو الاجتماعية) هي صفة ملازمة للإنسان منذ الكينونة الأولى، فَرَضَتها الحاجة الاقتصادية. ومنها تتولَّدُ صفة التمايز الحضاري والاجتماعي. فنظرية العرق الصافي التي تقومُ عليها البداوة خيالية ومخالفة للاجتماع نفسه. ذلك أن العلم الطبيعي نفسه يطلب شرطين لتحقيق أيّ عرق وحفظه وهما: ــ الانعزال الجنسي ــ والانعزال الجغرافي. وهما شرطان لم يتحققا في أيّ متّحد اجتماعي متطور. وقد نجدهما في المجتمعات والأقوام المتأخرة والمتقوقعة في اعتقاداتها العرقية. كبعض القبائل الأفريقية، وسكان الأصقاع الجليدية كالأسكيمو وبعض قبائل الهنود الحمر. وفي رأي أنطون سعادة أنّ الاجتماع البشري يُقسم إلى نوعين رئيسيين: الاجتماع الابتدائي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية هي رابطة الدم. والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية مستمدّة من حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة. فالشعوبُ المتحضِّرة هي مزيج سلالات مختلفة. «وفي الاجتماع الأول تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة وبربرية، وفي الاجتماع الثاني تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة». (سعادة: نشوء الأمم. ص 55).یقول المؤرخ جرجي زیدان («العرب قبل الإسلام» ص 49) اصطلح مؤرّخو العرب أن یقسموا تاریخ العرب قبل الإسلام إلى قسمین:
1) العرب البائدة، أو «العمالقة»، وهم عرب الشمال في الطور الأول وقد بادوا قبل الإسلام. وكان منهم: عمالقة العراق، أو دولة حمورابي، وعمالقة مصر، أو دولة الرعاة الهكسوس (الذين قدِموا من الجزيرة السوراقية)، ودولة الأنباط، ودولة تدمر.
2) العرب الباقیة وهم: القحطانیون أهل الیمن: (الدولة المعینیة، الدولة السبأیة، الدولة الحمیریة)، وهم العدنانیون، أو الإسماعیلیون (الإسمائيليون)، أو عرب الشمال في الطور الأخیر.
كانت السیادة، في الدور الأول القدیم للعرب البائدة. وفي الدور الوسیط كانت للقحطانیین في الیمن، وفي الدور الأخیر كانت السیادة للعدنانیین، وبقيت لارتباطهم بالركب الحضاري في المنطقة. وقد شكّلوا معظم قبائل الإسلام: قضاعة، وربیعة، ومضر، وأیاد، وأنمار. ومن الجزيرة العربية، وبسبب الجفاف هاجرت القبائل العدنانية إلى الشام قبل الفتح الإسلامي. و«في فترة الفتح الإسلامي، كان من الصعبِ التمييز بين العربِ والسريان في كثيرٍ من الأحيانِ» (التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية. محمد جمال باروت (ص 39). وأغلبُ هذه القبائل السريانية العربية التي سَكَنَت الجزيرة السوراقية سُمِّيَتْ بديار ربيعة. فمنها من سَكَنَ سهولَ نينوى، ومنها بكر التي سكنت الديار المسمَّاة بـ(ديار بكر) ومنها تغلب في مناطق نصيبين، وعنِزَة جنوب الفرات في بادية الشام أو ما كان يُسمّى بـ«الشامية». أما تميم فاستقرَّت في نجد وشمالها وفي جنوب العراق شاملة ما أصبح الآن كويت وقطر، ومُضَر سكنت «رقة الفرات» وطي سكنت «سِنجار». و«زُبَيْد» سكنت العراق. ومن بطون هذه القبائل خَرَجَتْ قُرَيش من مُضر، وشَمَّر من طي، والجبور، والعقيدات (تُلفَظْ عْكيداتْ باللهجة البدوية) من زُبيد.
وفي أعالي الجزيرة في «راوندوز» وسفوح جبال هكَّاري، ومنذ زمنٍ طويل، عاشت قبائلُ الآشوريين السريان (تْيَارِي العليا) و(تياري السفلى)، و«تخوما»، و«باز» و«جيلو»، ومملكة الرها أي مملكة الأبجر التي شملت السفوح الجنوبية من جبال طوروس وشملت مدناً كإديسا وديار بكر وماردين ونصيبين وأورفة وطور عابدين وقلعة مراونة، وامتدت حتى أفاميا، وغيرها من القبائلِ الآشورية التي تنتسب إلى الآشوريين القدماء. ففي عام 714 ق.م. كان الملك الآشوري سرجون الثاني، وهو في عامه الثامن للمُلْك، قد وصل إلى أعالي قمم الجبال المرتفعة على علوّ 3000 متر في «راوندوز» و«هكاري» امتداداً إلى ضفاف بحيرة «أورميا» (أور ـ مِيَّأ بالآرامية أي بلدة الماء) وبحيرة «وان». إلا أنه وبعد حوالى مئة سنة استطاعت الدولة البابلية الجديدة وبمساعدة الميديين القضاء على الدولة الآشورية، فما كان لآخِرِ ملوكها «سن-شلر-ايشكون» وعائلته وباقي جيشه من مفرّ إلّا الالتجاء إلى أعالي القمم في «هكاري». وإلى هذا الملك وجيشه وعائلته يعودُ الآشوريون الحاليون (كلير ويبل يعقوب. كتاب سورما خانم. ص 32). وقد استقرَّت القبائل الآشورية في تلك المناطق، وعاشت بسلام، ممتهنة الزراعة وتربية المواشي والصناعات المرتبطة بهما، حتى طاردتهم قبائل السلجوقيين عام 1055 حين احتلُّوا بغداد وأنهوا الدولة العباسية، وطاردتهم القبائل المغولية على يد هولاكو وتيمورلنك وقبائل الكرد، حيث أنَّ هؤلاء، ومنذ أولى المعارك في «جالديران» عام 1514، شرعوا في تحالفاتهم مع القبائل السلجوقية (العثمانية)، التي أدَّت إلى هزيمة الصفويين أبناء وطنهم أمام العثمانيين، وإلى مذابح الأرمن والآشوريين والسريان وإلى تشريدهم في أنحاء الجزيرة السوراقية بين الأعوام 1915-1933، واستقرَّ قسمٌ منهم على ضفتي نهر الخابور. الكرد الذين يتحكمون بالجزيرة السوراقية اليوم، من هم؟
تاريخياً لم تكن حدودُ فارس أو إيران الكبرى تنحصر في حدود إيران الحالية، وإنما شملت الشعوب التي عاشت بين أواسط آسيا وخليج البصرة شاملة هضبة إيران الحالية وهضبة الأناضول. والكرد كلمة أطلقها الفرس على البدو والقبائل المتنقلة من شعبهم، وهم من أصلٍ آري ومن الفرع الذي يسمى الهندو-أوروبي. وهم شعبٌ من الشعوب الإيرانية، ومن ثمَّ فهم ينتمون إلى القومية الإيرانية. ولغتهم هي إحدى اللهجات الإيرانية الفارسية. وفي المخطوطات الإسلامية أيضاً ورد ذكر الكرد كعشيرة بدوية. وعشائرهم أربع: الكرمنجي، الكلهود، الكَوْران، واللور.
يقول المؤرخ الشامي أحمد بن يحيى ابن فضل الله العُمَري الذي وُلِدَ في الشام عام 1301 والذي عاش في القرن الرابع عشر، في تحديده مكان انتشار الكرد: «الخطّ الفاصل العامّ بين العرب والأكراد... هو الجبال الحاجزة بين ديار العرب وديار العجم، وابتداؤُها جبال همدان وشهرزور، وانتهاؤُها بصياصي الكفرة، بلاد التكفور وهي مملكة سيس، وما هو مضاف إليها بأيدي بيت لارن». وكلُّ هذه المناطق كانت في إيران الكبرى. وفي كتابه «حضارة واحدة أم حضارات»، يقولُ المؤرخ محمد بهجت قُبَيسي: «وإذا أخذنا فقه اللغة الذي نحنُ بصدده، فاللغة الكردية تُعتَبَرُ من اللغات الهندو-إيرانيَّة، وهي وثيقة الصلة باللغة الأفغانيَّة... وما أدَلّ على ذلك إلّا كلمة (كردستان) فهي تساوي (أفغانستان وباكستان وتركمانستان)». أمّا أسماء المدنِ التي يدَّعي البعضُ أنَّها كرديَّة مثلُ أربيل وكركوك فهي أسماءٌ عربية أكادية حيثُ: إربيل= إرب ئيل (إرب= قوَّة-قصدٌ-غاية... ئيل= الله فهي تعني (قوَّة الله)، وهو اسمٌ دينيٌّ؛ كركوك= تصغيرُ كرك. والكرك العربيَّة من الأكاديَّة والسريانية تعني القلعةُ المرتفعةُ، ومنها الكرك في الأردن والكرخ (إبدال كرك في بغداد). فهي أسماءٌ عربيَّة واضحة (ص:141). وكلمة إرب الأكادية مرادفة للكلمة العربية مَأْرَبْ التي تعني أيضاً القصد أو الغاية.
وجبال هكاري كانت الحدود الطبيعية الشمالية التي فصلت العراق عن هضبة الأناضول، وجبال زاغروس كانت الحدود الشرقية التي فصلت العراق عن دولة فارس الإيرانية.
وقبل القرن السادس عشر، أي قبل الحرب الصفوية-السلجوقية، عام 1514 لم يكن هناك كرديٌّ في الجزيرة السوراقية. إلا أن الذي أدخلهم إلى المنطقة هم الأتراك أنفسهم، أو بالأحرى أجداد الأتراك أي العثمانيّون؛ فقد استغل العثمانيون ولاء الكرد السني لمحاربة أبناء قومهم الفرس من الصفويين الشيعة. وبسبب ذلك منح العثمانيون رؤساء العشائر الكردية إقطاعات كبيرة حتى تحولوا إلى أمراء، وشجعوا الكرد على الامتداد جنوباً في سفوح جبال هكاري وسفوح جبال طوروس من مدن الرها أي حيث كان يسكنُ المواطنونَ العرب الباقون من الدولة الآشورية، في جبال هكاري ومملكة الرها من السريان.
كان عدد سكان ديار بكر في أواخر القرن التاسع عشر 35 ألفَ عربيٍّ لم يكن بينهم إلا 1430 كرديّاً تمدّدوا من الأناضول. اليوم عدد سكان ديار بكر 236 ألفاً، جميعهم كرد. وقد زادوا مئتي ضعف ليس بالولادة، ولكن بالتسلل التدريجي ومن الأناضول، وطردوا سكانها السريان العرب جنوباً إلى القامشلي والحسكة. لم تكن نسبة الأكراد في سورية تتجاوز الـ3%. ولكن بعد إخماد حركات التمرد التي قاموا بها في تركيا ومعاملة تركيا القاسية لهم نزح الكثير منهم إلى سوريا حتى وصل عددهم إلى حوالى 300 ألف، فارتفعت نسبتهم إلى حوالى 8%. وهم موزعون في دمشق وحلب وعفرين وعين العرب وضواحي مدينة القامشلي.
لقد استخدم العثمانيون، في عهد السلطان سليم، العشائر الكردية كحاجز بشريّ ضد الدولة الفارسية الصفوية، وقام السلطان باستقدامهم من مناطقهم الأصلية في شمال غرب إيران (همذان) وتوطينهم في شمال العراق (اربيل ودهوك) وفي شرق تركيا (كاري وديار بكر البلدان العربية الواقعة تحت الاحتلال العثماني وخاصة سورية)، وقامت السلطات العثمانية بتأسيس الاتحاد العشائري الملِّي في أوائل القرن الثامن عشر، وكانت السيطرة فيه لقبائل الكرد. كل هذا أدّى إلى انتهاء كل هذه الأراضي بين أيديهم وبمساعدة الدولة العثمانية. ثمّ قام السلطان عبد الحميد بتشكيل فرق عسكرية شبه نظامية خيَّالة من الفرسان الكرد تحت إمرة الأغوات الأكراد سُمِّيَتْ (الفرسان الحميدية). وقام أيضا بتسليمهم المناصب الرفيعة في الجيش العثماني، وأمور الدولة في الدول العربية. لعبت هذه القوات دوراً مهمّاً في فتوحات الدولة العثمانية في أوروبا الشرقية. وما كانت الدولة العثمانية قادرة على التوسع شرقاً باتجاه العالم العربي إلا بعد أن عقدت تحالفاً مع الإمارات الكردية وخاصة مع إمارة سوران.
بدأت إمارة سوران عصرها الذهبي عام 1813، كما يتّفق أكثر المؤرخين، بعدما ارتبط تاريخها باسم محمد الراوندوزي المشهور باسم «ميركور»، أي الأمير الأعور الذي ولد عام 1783، وقد قتل أقرب المقربين إليه، فجهز حملة على اثنين من أعمامه فقتلهما. كما جهز حملات الإبادة ضد معارضيه من الكرد، وخاصة زعيم عشيرة (الخوشناو). كان يطمح إلى توسيع حدود إمارته صوب منطقة الجزيرة التي يسكنها السريان والآشوريون واليزيديون والعشائر العربية الأخرى، أي إن أهدافه الحقيقية كانت قائمة على تأسيس دولة كردية في منطقة «راوندوز». وقد نظم جيشاً له، بلغ تعداده، حسب المصادر، ما بين 30 إلى 50 ألف مقاتل كرديّ، وسكّ النقود باسمه، واتصل سرّاً بخصوم العثمانيين. وشن هجمات على مناطق الموصل ودهوك، وأخضع ولايات عقرى والعامديَّة وماردين وجزيرة ابن عمرو. ووصلت حدوده إلى الحدود الشامية. وضيّق الخناق على بغداد في الوسط. وتحولت إمارته إلى مركز استقطاب لكرد فارس وملجأ لهم، كما يذكر ذلك الكاتب الكردي صلاح هروري في كتابه «إمارة بوتان في عهد الأمير بدرخان» (ص 81). كلُّ تلك المكاسب حققها في بداية الأمر بسبب انشغال العثمانيين في حروبهم المستمرة مع الروس واليونان والمصريين في عهد محمد علي. وتعتبر بلدة القوش القريبة من الموصل أولى ضحايا محمد الراوندوزي. ثم أخضع مدينة أربيل ذات الكثافة التركمانية والآشورية، ثم منطقة الشيخان وسهل نينوى وجبال سنجار التي يسكنها اليزيديون، وكذلك جبال هكاري التي تسكنها القبائل السريانية. ويذكر المؤرخ القس سليمان صايغ في كتابه «تاريخ الموصل» (الجزء الأول) نقلاً عن قول لايارد أنه قتل من اليزيديين ما يناهز ثلاثة أرباع سكان جبل سنجار. أسس هذا الكردي إمارة سوران لفترة قصيرة من الزمن، إذ تمَّ القضاء عليه وعلى إمارته من قِبل جيش العثمانيين نفسه بعد أن طغى وتجبر، ومارس المجازر الدموية.
ثم جاء بعده القائد الكردي بدرخان بيك عام 1843، وهو زعيم إمارة بوتان ومارس أيضاً شتى أنواع حملات الإبادة والتطهير العرقي بحق الأرمن والآشوريين في مناطق سهل نينوى وأربيل وزاخو وهكارى، ودهوك.
وقد ذكرت الرحالة الإنكليزية المس بيشوب في كتابها الرحلات عام 1895: «إن حياة القبائل الكردية تقوم على النهب والقتل والسرقة». وكذلك ذكر الدكتور جورج باسجر عندما قام برحلته إلى المنطقة الشمالية عام 1828 أن «القبائل الكردية قامت بهجمات دموية مروِّعة على السريان وتصفيتهم وحرق بيوتهم وأديرتهم». ويقول المؤرخ باسيل نيكتين، وهو مختصّ بالقبائل الكردية: «إنّ الأكراد الذين يعيشون على حدود الرافدين يعتمدون القتل والسلب والنهب في طريقة حياتهم، وهم متعطشون إلى الدماء». وكتب القنصل البريطاني رسالة إلى سفيره عام 1885 يقول فيها: «إن هناك أكثر من 360 قرية ومدينة سريانية قد دمرها الزحف الكردي بالكامل وخصوصاً في ماردين». ويقول الدكتور كراند الخبير في المنطقة وشعوبها في كتابه «النساطرة»: «يعمل الأكراد فى المنطقة على إخلاء سكانها الأصليين وبشتى الطرق». وقد بلغ عدد السريان الآشوريين الذين ذُبِحوا على يد الأكراد ما يقارب نصف مليون عدا عن عمليات السبي واغتصاب النساء.
وحديثاً، عندما طالب النائب فرنسيس شابو، المنتخب في برلمان أربيل، بإرجاع القرى الآشورية كافة التي استولى عليها الكرد إلى أصحابها الشرعيين، قاموا بقتله غدراً. لأنّ الكرد ينعتون الآشوريين بالمحتلّين لكردستان، ويجب طردهم من الأراضي الكردية.
اليوم تتحكَّمُ في الجزيرة قبائلُ الكرد وبعضُ القبائل البدوية العربية، تساعدها قوات التحالف الغربية. وثمّة 33 قرية عربية آشورية لم يعد فيها إلا حوالى 500 شخص يحاولون حماية أملاكهم ومزارعهم؛ وقد هاجمتهم القبائل من كل الجهات، وشرَّدتهم في أصقاع الدنيا. والأمل أن تعيَ هذه القبائل، من شمَّر وكرد، وتعودَ إلى حضن الوطن الذي لم يُقِمْ خيمة لمهاجر. ففي العراق وقبل حركة البرزاني كانت لهم حقوقٌ كأيّ مواطن عراقي، وكان منهم رؤساءُ وزارات ووزراءُ ونوَّابٌ ومحافظون وقائمو مقام ومدراءُ نواحٍ، وضباطٌ ذوو رتب عالية في الجيش وألويته. وفي سوريا كانوا جزءاً من الطاقم السياسي والنسيج الاجتماعي في الجزيرة وفي حلب وفي حماة ودمشق، فكان منهم ثلاثة رؤساء جمهورية، وكان منهم قائد للجيش، وكان منهم وزراءُ ونواب.
عمل المهاجرون السريان العرب مع إخوانهم في دير الزور على إعمار الجزيرة، وأقاموا مزارع للخضار وأشجار الفاكهة، وازدهرت هكتارات من القطن والحبوب حتّى اعتُبِرَت الجزيرة «كاليفورنيا سوريا». مزارع القمح عمَّتْها الحرائق في هذا الصيف. قال لي أحدُ الذين بقوا في هذه المزارع إن إحدى هذه الحرائق قضت على مزارع قرية مجاورة لنا (تل هرمز) بكاملها، التهم الحريق فيه أكثر من 1800 دونم. ثمَّ أردفَ وبإصرار: «ليس لنا خيارٌ إلا الصمود في هذا المكان». سألته من الذي يُشعِلُ هذه الحرائق؟ كان حذراً من أن يذكر أي اسم لخشيته من الذين يسيطرون على زمام الأمور، فجاء الجواب بسؤالٍ من عنده: هل تذكر قصة «راجح» الرحبانية وصاحب السلطة الذي أرعبَ قريته؟
في 25 من حزيران عام 2010 قبل الهجوم على سوريا، كان لي لقاء مع جريدة «البناء» ومقطع لقصيدة لي قلت فيها:
يا شمسَ الخابورِ الحبيسة خلفَ السحابِ الداكن/ سيأتينا نيسانْ/ وينحسرُ الطوفانْ/ وتعودُ السفينةُ ويعودُ القمرْ/ سينحسرُ الظلامْ/ والركام؟ سنمحيه الركامْ/وستكتنز السنابلُ، ويموجُ القمحُ في سهولِ الجزيرة/ وإلى الحظيرة/ سيعود ثغاء الأغنامْ/ ستعود لنا البيادرُ/ هوذا المُقبلُ باسمِ الربِّ المقدسْ/ عائدٌ/ تُرفعُ لهُ الراياتْ/ وتهلِّل لهُ الأفواه/ وترتفِعُ الأذرعُ بالتضرعات/ ويهِلُّ هذا الفارسُ المرمحْ/ يلعلع صوتُهُ في البراري والبيَّارات/ وعلى المسافات:/ اسميَ جلجامش/ أنا الذي ارتقيتُ السماواتَ/ وأنا الذي اشتهتِ الآلهةُ الشريرةُ عرشي والمقامات/ بلا أسوارٍ بنيتُ مدينتي/ وبلا حدودٍ شرّعتُ ممالكي/ ريحُ السمومِ لن تحصيَ أيَّامي/ قاتلُ التنينِ أنا/ قلبيَ لن يسكن الراحة ولا يهاب الممات/ والشمس لن تسكنَ وحدَها في الأعالي/ ولن تُحَطِّمُ أجنحتي المحيطاتُ/ أما أنت/ أيتها الآلهة الشريرة الصغرى/ فخائبةً ستركُنين على العتبات.
*كاتب وطبيب لبناني