مضت سيرته الأكاديمية أستاذاً للقانون الدستوري فيما هو معتاد من رجل يحترم نفسه وقريب من طلابه. ميله إلى التقشف في تفاصيل حياته صاغ صورته في محيط معارفه. لا انضم إلى حزب موالٍ أو معارض، ولا انتسب إلى تيار سياسي وفكري بعينه، ونأى بنفسه عن أي منصب تنفيذي، ولا ترشح على قوائم أحزاب في أي انتخابات عامة.عندما خرج إلى التقاعد عام (2018) لم يخطر بباله ولا بال أحد أن مؤهلاته السياسية والشخصية ترشحه لاكتساح الانتخابات الرئاسية كما حدث بعد شهور قليلة.
لم يلفت اسمه نظر المتابعين عندما تقدم بأوراق ترشحه، كأنه اسم للنسيان وسط أقطاب الحياة السياسية التونسية وما يتوافر لهم من نفوذ ومال وأنصار.
كانت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية صدمة حقيقية لكل التوقعات التي سبقتها، كأنها زلزال قوّض الحياة السياسية بكل مكوّناتها وتياراتها وحوّلها إلى ركام وطرح سؤال المستقبل مجدداً، كما لم يحدث منذ ثورة (2011)، التي أطاحت الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.
بفضل ثورتها حازت تونس قدراً كبيراً من الحريات العامة سمح للرأي العام فيها بأن يعبّر عن ضيقه البالغ في صناديق الاقتراع من النخب السياسية المتصارعة على غير قضية تعنيه وتدخل في صميم شواغله وتعطيه أملاً في تحسين أحواله المعيشية، التي تدهورت على نحو فادح.
انخفض معدل الإقبال على التصويت بـ(20%) عن أول انتخابات رئاسية بعد الثورة عام (2014)، الرقم بدلالته يعبّر عن حجم الإحباط الذي ساد قطاعات واسعة بأثر تجربة السنوات الخمس الماضية.
كان عزوف النسبة الأكبر من الشباب عن المشاركة تعبيراً آخر عن حجم ذلك الإحباط.
بدا التصويت عقابياً للأحزاب والقوى السياسية التي منحها التونسيون ثقتهم في الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة.
تبعثر حزب «نداء تونس»، الذي أسّسه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي في منازعاته وانشقاقاته، وأخفق مرشحه المفترض وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، حيث حل رابعاً فيما كانت ترشحه التوقعات المسبقة للصدارة، كما أخفق حزب «تحيا تونس» الذي أسّسه رئيس الوزراء يوسف الشاهد حيث حلّ خامساً، وضرب الزلزال الانتخابي حركة «النهضة» في عمق ثقتها بشعبيتها وخرج من الجولة الأولى مرشحها عبد الفتاح مورو الذي حلّ ثالثاً، ونالت أحزاب اليسار ضربات أفدح.
لم يستثن الزلزال تياراً دون آخر، ولا وجهاً معروفاً دون آخر، كان العقاب جماعياً.
كان ذلك أقرب إلى ثورة اجتماعية صامتة بقدر ما عبّرت عمّا هو مكتوم من غضب عام.
كان ذلك النصف الأول من الزلزال التونسي.
ولم يكن النصف الثاني أقل دوياً حيث صعد إلى الجولة الثانية الحاسمة رجلان متناقضان.
أولهما قيس سعيّد، وهو أكاديمي شبه مجهول، تصعب ملامحه السياسية الحقيقية على النظر بالعين المجردة.. وثانيهما نبيل القروي، وهو قطب إعلامي موقوف بتهم الفساد وغسل الأموال، أدار حملته من خلف جدران السجن.
حتى هذه اللحظة اتسقت التفسيرات الشائعة مع الجو العام من إحباط واسع ونظر سلبي للمستقبل.
الصورة اختلفت تماماً في جولة الحسم، ارتفعت نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع بأكثر من الجولة الأولى والانتخابات التشريعية التي سبقتها. شارك الشباب بمعدلات أكبر، كأن تونس استشعرت خطراً داهماً من أن تقع تحت وطأة فساد في الحكم والارتهان بالكامل للمنظومة السياسية المستهلكة، مالت في لحظات الحسم إلى «الرجل النظيف».
كان ذلك داعياً رئيسياً لظاهرة قيس سعيّد، الذي جاء من خارج السياق، وصفاته الشخصية وافقت احتياجات اللحظة، لحظة الضجر من كل ما هو متكلس وفاسد.
في جولة الحسم تحول «الرجل النظيف» إلى أمل في المستقبل، ارتفعت معدلات الثقة في النفس وفي التجربة الديموقراطية إلى حدود غير مسبوقة منذ اندلاع ثورة (2011).
رغم أن الصلاحيات الدستورية للرئيس محدودة بالقياس إلى ما يتمتع به رئيس الحكومة، إلا أن الانتخابات الرئاسية برسائلها تعطي فكرة عن مدى الانقلاب الذي يمكن أن يطرأ على اللعبة السياسية التونسية وتوازنات القوى مستقبلاً.
بتعبير قيس سعيّد، فإن ما حدث «ثورة جديدة في نطاق الشرعية الدستورية القائمة».
التعبير منضبط وصياغته على شيء من الدقة، فهو أستاذ قانون دستوري اكتسب شعبيته بإطلالاته بعد ثورة (2011) على الجمهور العام في مداخلات تلفزيونية امتازت بالرصانة وحسن الإلقاء بلغة عربية فصحى متمكّنة، لا يتحدث بغيرها، وهو هنا يحتذي مثال المفكر الراحل الدكتور أحمد صدقي الدجاني عضو اللجنة التنفيذية العليا السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي اشتهر بتصويته ضد اتفاقية «أوسلو»، ربما يكون قد تعرف عليه وتأثر به، وهذا مجرد افتراض.
في حدود ما هو معروف عن سعيّد، فإنه يجرّم التطبيع مع إسرائيل ويعدّه خيانة وطنية.
كانت دعوته لأنصاره الذين خرجوا يحتفلون في الميادين الرئيسية بإعلان فوزه رئيساً إلى أن يرفعوا العلم الفلسطيني بجوار العلم التونسيّ، داعياً إضافياً إلى القبول العام امتد إلى أرجاء العالم العربي كافة.
وهذا دليل جديد على أن القضية الفلسطينية، أياً كانت درجة تراجعها، مقياس لا يخطئ لشعبية النظم والرئاسات.
نحن أمام رجل يصعب توصيفه الفكري والسياسي خارج الكلام العام، فهو مستقل كما يقول ويؤكد، وقد تكون الشعبية الكبيرة التي حازها مؤقتة، فكل شيء سوف يتوقف على الطريقة التي سوف يدير بها مهامه الدستورية، ومدى قدرته من دون ظهير حزبي على إدارة مكونات برلمان مشتت لا توجد أغلبية ظاهرة فيه.
يلفت الانتباه أن حملته الانتخابية ضمت مجموعة متناقضات، سلفيون لم يعهد عنهم عناية بقضية الديمقراطية والتغيير عبر صناديق الاقتراع، وشبان أقرب إلى اليسار الاجتماعي يبحثون عن نوع من القطيعة مع الديموقراطية الليبرالية، من دون أن يكون واضحاً نوع الديمقراطية الاجتماعية التي يطلبونها، بحسب ما هو منشور من تقارير صحافية تبحث وتستقصي خلفيات رجل قرطاج الجديد.
بتلخيص ما فهو محافظ دينياً في مسألة المساواة في الميراث وراديكالي قومياً في القضية الفلسطينية وأكثر ميلاً إلى اليسار في العدل الاجتماعي.
هذا الزواج الفكري بين المحافظة والثورية وضعته في دائرة الشخصيات السجالية.
كما أن تصوّره للنظام الحزبي أقرب إلى المثاليات الرومانسية من الديمقراطيات المباشرة، وهو ما يصطدم بالالتزام الدستوري الذي أعلن مسبقاً أنه يحترمه ولن يخرج عنه بأيّ ذريعة.
هو رجل قانون، وفي رأيه أن قضاءً مستقلاً أهم مئة مرة من الدستور، وأن تطبيق القانون على الجميع ينبغي أن يتم بلا تمييز.
وجد فيه الشباب ما يحمّسهم للانخراط في حملته باعتقاد أنه أقرب إلى الثورة. يدرك ذلك، ويؤكده بشعار «أوفياء لدم الشهداء»، في إشارة إلى التضحيات التي بُذلت في طلب التغيير، وشعار «الشعب يريد»، في إشارة أخرى إلى ما جرى التنكّر له من أهداف بُذلت من أجلها تلك التضحيات.
* كاتب مصري