ينبني منهج الجيوبوليتيكا على العلاقة بين السلطة السياسية في الدولة المعاصرة من جهة والأراضي التي تعتبر الدولة نفسها معنيّة بها من جهة أخرى، وعليه فإن الجيوبوليتيكا تتناول من بين ما تتناوله الآليات التي تسعى بها القوى والفاعليات السياسية للسيطرة على هذه الأراضي أو تلك. ولمّا كانت أنشطة الرأسمال تتقاطع مع أنشطة الدولة التي ينتمي إليها، فإن اضطراره إلى التوسع الجغرافي يجعله معنياً على نحو مباشر بما يُثيره هذا التوسع هنا وهناك، من نزاعات سياسية مسلحة أو غير مسلحة على الأراضي. الأمر الذي يطرح مسألة العلاقة بين السلطة الرأسمالية من جهة، والسلطة السياسية من جهة أخرى، مع ما يترتب على حركة الرأسمال من تطورات جيوبوليتيكية في عالمنا الراهن.
(مروان بوحيدر)

بين الدولة والرأسمال
تلعب كل من الدولة من جهة والرأسمال من جهة أخرى أدواراً متمايزة، كلّ عن الآخر. مع العلم أننا غالباً ما نقع على آراء وتحليلات تفيد بأنه لا مجال للفصل بين الاقتصاد والسياسة. غير أن الواقع يُنبئ بغير ذلك لأن منطق الدولة شيء ومنطق الرأسمال شيء آخر، وإن كانا على تقاطع في ما بينهما. وأفضل ما يُستدل به على ذلك يتمظهر في الدول الرأسمالية المقتدرة وفي مقدمها الولايات المتحدة، حيث تهدف السلطة السياسية فيها إلى السيطرة على الدول الأخرى أو على الأقل إعلاء شأن نفوذها فيها، بينما تسعى السلطة الاقتصادية الرأسمالية الرديفة إلى الذهاب بحرية من دون أن يُعيقها عائق للاستثمار في مختلف زوايا الكرة الأرضية. تعمل السلطة السياسية على زيادة قدراتها للتحكم بالمزيد من أراضي الغير، في حين تعمل السلطة الرأسمالية على الاستزادة في جني الأرباح ومراكمتها لإعادة توظيفها أو الانتقال بها وتوظيفها في أمكنة أخرى. وعلى هذا تملك كلتا السلطتين منطقاً خاصاً بكل منهما، المنطق الأول أي السياسي هو منطق «أرضاني» إذا جاز التعبير، يتعامل مع الأراضي (وما عليها) باعتبارها مساحات مستهدفة بكلّيّتها، أما المنطق الثاني، أي الاقتصادي الرأسمالي فهو منطق «شبكي» يهدف إلى إنشاء شبكات تتشكّل من خطوط تمثل مسالك حركة الرأسمال، تربطها عقد تواصل هي أمكنة استثماراته وتوظيفاته. وعليه تحاول السلطة السياسية أن تتحكم بالمساحات الجغرافية المستهدفة بخلاف السلطة الاقتصادية الرأسمالية التي تُعطي الأولوية لمراكمة الأرباح وتوظيفها على حساب الشكل الذي تتخذه هيمنتها على مساحة الأراضي المستثمرة. بتعبير آخر، للسلطة السياسية السيطرة على الأراضي، وللسلطة الرأسمالية حرية الحركة فيها بعد الهيمنة عليها.
على مستوى آخر، يجد رجل الدولة الممثّل للسلطة السياسية نفسه مضطراً على الدوام لتبرير قراراته وشرحها أمام الرأي العام، والعمل على إقناعه بأن ما يقوم به هو لمصلحة الدولة والمجتمع، بينما الرأسمالي لا يرى نفسه ملزماً بشيء من هذا القبيل. ثم إن السلطة السياسية هي سلطة دولة ثابتة في مكانها على أراضيها ضمن حدودها السياسية، أما السلطة الرأسمالية فتبقى عُرضة للتبدلات في المكان متأتّية مما يطرأ عليها من اندماج في مؤسسات إنتاجية وخدماتية مختلفة وانتقالها إلى دول أخرى.
وتحرص السلطة الرأسمالية على تمييز نفسها عن السلطة السياسية، ذلك أن النظام الرأسمالي لا بد وأن يشهد بين الحين والآخر توترات ومواجهات بين أرباب العمل من جهة والعمال أو الأجراء من جهة أخرى، تُنهيها حلول تضعها سلطة الدولة التي تحاول أن تلعب دور الحكم بين الفريقين. لذا يجد الرأسماليون أنفسهم ملزمين بالحفاظ على مسافة معينة من السلطة السياسية للاستعانة بها في الأزمات، بما يُبقي على مقبوليتها من جانب الفريق الآخر ويُتيح لها إمكانية ممارسة الضغوط على الفريقين وإجبارهما أو إقناعهما بتقديم تنازلات متبادلة تخرج منها السلطة السياسية في حال نجاح المفاوضات التي تشرف عليها أمتن وأقدر من ذي قبل.
اتجاه التطور الذي شهدته العولمة ولا تزال، يذهب بها إلى إنتاج وقائع لم تكن دوماً في صالح القوى الامبريالية الراهنة


ولكن إذا كان الرأسمال الوطني، يجد أنه من الضروري أن يكون للسلطة السياسية حضور مستقل عنه، ولو شكلياً، فإن المؤسسات الاقتصادية الدولية أو الشركات المتعددة الجنسيات ترى غير ذلك، على اعتبار أن الحدود السياسية والإرادات المستقلة من شأنها إعاقة أنشطتها العابرة للكيانات السياسية بمختلف أشكالها، لذا لا تزال العلاقات بينها وبين أكثرية الدول تثير إشكالات وتوترات مصدرها سعي هذه المؤسسات والشركات إلى الحد من نمو سيطرة الدول على أراضيها وحدودها، الأمر الذي يُثير ردات فعل من قبل هذه الأخيرة تعزّز تمايز السياسي عن الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يُنيط بالمؤسسات والشركات المذكورة أدواراً جيوبوليتكية مباشرة من حيث منازعة الدول على أراضيها.

حركة الرأسمال الجغرافيّة
يتمركز الرأسمال ومؤسساته الإدارية الرئيسية في المدن، فالمدينة هي مجال الأنشطة الرأسمالية الأولية، وهي منصتها للوصول إلى ما هو أبعد منها، وغالباً ما تجد القوى الرأسمالية في االاستثمارات العمرانية والعقارية المدينية المجال الأرحب للاستزادة من جني الأرباح ثم توظيف الفائض في مشاريع توسعية جديدة، ما يجعل الاستراتيجية الرأسمالية في هذا المجال تبدو وكأنها تنبني على الحاجة الدائمة إلى إيجاد مساحات جديدة يمكن الاستفادة منها. غير أن هذه الاستراتيجية لا بد وأن تعترضها معوّقات من أنواع مختلفة، فعلى سبيل المثال إذا كانت المعوّقات ناتجة من قلة اليد العاملة، فيعمد الرأسمال إلى استقدام العمال من البلدان الفقيرة، وإذا وجد نفسه في مواجهة نقابات قوية تحول دون فرض مستوى متدنٍّ من الأجور، فإنه سيبحث عن وسائل تكنولوجية جديدة تمكنه من الاستغناء عن نسبة كبيرة من اليد العاملة، وقد يلجأ أيضاً للتخفيف من كلفة الإنتاج الى البحث عن مواد أولية جديدة يستخرجها من محيط المدينة، مع ما لذلك من انعكاسات بيئية سلبية ، كما أنه لا يتوانى عن السعي إلى النيل من القدرات السياسية للتنظيمات العمالية، وإذا لم يتمكن من ذلك يلجأ الى اعتماد وسائل شتى تتيح له وضع اليد على الأملاك العقارية المستهدفة، على أن المحصلة النهائية لحركة الرأسمال هنا، أي على قياس المدينة وما حولها يكمن في ما ينتجه من تناقضات بين الأحياء المختلفة من فقيرة وغنية أو بين النواة المركزية والضواحي المهمّشة، وكذلك بين الضواحي المترفة أو الراقية والضواحي المتهالكة... ما يؤجّج النزاعات بين الأحزاب والتنظيمات السياسية على المكونات الجغرافية للمجال المُدني، وهي نزاعات تندرج فيما ندعوه بالجيوبوليتيكا الداخلية، أي النزاع السياسي على الأراضي (بما فيها وما عليها)، داخل الدولة الواحدة.
على أن للرأسمال حركة أخرى تجري على مقاييس قارية، يبادر إليها عندما تصل حركته في المدينة ومحيطها إلى نهايتها، فيضطر للذهاب إلى أمكنة بعيدة تتيح له توظيف الفوائض واستدرار الأرباح من جديد. من أجل ذلك يلجأ الرأسمال الى الدولة لمساعدته على تأمين المساحات الجغرافية التي يحتاج إليها فتقوم السلطة السياسية بتنفيذ مهمتها حتى ولو اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية، لا خدمة لرأس المال وحسب وإنما أيضا لتعزيز موقعها، وتقويته باستيلائها على أراضٍ جديدة، وهنا يلتقي المنطقان المنطق الرأسمالي الشبكي من جهة والمنطق السياسي الأرضاني من جهة أخرى.
والواقع أن كل ما يجري في النظام الرأسمالي يشي بأن الرأسمال ليس «شيئاً»، بقدر ما هو حركة، إنه ليس ثروة فقط، إنه ثروة معدّة للاستزادة. لأن رأس المال إن تكدّس، من دون أن يوظف في آليات ربحية جديدة بطل أن يكون رأسمالاً، ولذلك فهو حركة استثمارية تستهدف الربح، وربح يستهدف التوظيف الاستثماري، وإلا الانهيار. على هذه العلاقة الجدلية بين التوظيف والربح والتي نشأت أولاً في المدن الأوروبية الغربية، يقوم النظام الرأسمالي. يستمر باستمرارها، وينشط بتسريعها ويتجاوز أزماته عبر استثمارات في مساحات جديدة بعيدة تحوي حقول طاقة... ومناجم موادّ أولية... وخلق أسواق استهلاكية... في عملية استتباع الدول وشعوبها سياسياً واقتصادياً وثقافياً متسبباً بمجموعة من المواجهات والصدامات على مقاييس جغرافية متعددة في عالم معولم، تتخذ فيه أشكالاً مختلفة، إنما تبقى في جانب أساس منها جيوبوليتيكية.

بين الامبريالية والعولمة
أدّى توسع الرأسمال الجغرافي إلى ما صار يُعرف بالامبريالية، ودانت أمورها للولايات المتحدة التي ما انفكت تصعّد من تدخلاتها العسكرية والمخابراتية في مختلف دول العالم بحجج مختلفة، أسخفها نشر الديمقراطية، مع العلم أنها لا تولي أهمية إلا لما يخدم رؤيتها في ممارساتها الامبريالية وتحقيق تطلعاتها الجيوبوليتيكية ذات الاستهدافات الكونية. إلى ذلك فهي تتصدر منذ الحرب الثانية ما اصطلح على تسميته بمعسكر الغرب الذي يضم دول الاستعمار القديم. هذا الغرب يقدم نفسه على أنه صاحب رسالة كونية تتمظهر في تصدير نموذجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي المتمحور حول «الحرية». إنه «المعسكر الحر» وفق ما يدّعيه. غير أن النموذج المذكور ينبني في التحليل الأخير على ركيزتين اثنتين فقط لا غير ، هما اقتصاد السوق الحر والديمقراطية التمثيلية الداعمة له. في هذا الإطار عملت الولايات المتحدة بعد الحرب الثانية على الدفع باتجاه تحرير الاقتصاد والمبادلات والأسواق التجارية الدولية، وعملت على إنشاء مؤسسات دولية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة مهمتها تنشيط حركة الرأسمال، وما «منظمة التجارة العالمية» و«البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» وغيرها... سوى أدوات تستخدمها الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها بهدف تحرير الأنظمة الاقتصادية والمالية لمصلحتها. يُضاف إلى ذلك سطوتها على الأسواق العالمية التي تجعلها قادرة على فرض استمرار اعتماد الدولار الأميركي بنسبة تزيد على ٨٠ في المئة من المعاملات التجارية والمالية الدولية.
استثارت ممارسات الامبريالية منذ نشأتها العديد من المباحث والدراسات الناقدة لها، منها أعمال لينين، روزا لوكسبورغ، سمير أمين، اندريه غونتر فرانك، والتر رودني ،ايمانويل فالريشتاين (توفي أخيراً نهاية آب الماضي) وغيرهم... وهي أعمال على قدر عالٍ من الأهمية بما تحتويه من قيم علمية مضافة، غير أنها غالباً ما تنتهي إلى خلاصات يُستشفّ منها إمكانية تظهير مشهدية جغرافية ثنائية، تتمثل بتموضع القوى الامبريالية في مراكز اقتصادية وسياسية وعسكرية من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية في عالم الشمال المتقدم بمواجهة الجموع البشرية في عالم الجنوب المتأخر، وبين العالمين يتجذر تناقض اقتصادي اجتماعي سياسي... على أن هذه الأعمال لم تعمد إلى مقاربة متعددة المقاييس الجغرافية للإحاطة بما يجري في إطار الثنائية المذكورة، بل بقيت عند مفاعيل ما تثيره ممارسات الامبريالية في حق شعوب الجنوب من توترات ومواجهات تقع على الصعد الاقتصادية والسياسية دون غيرها، مع العلم أن التصادم بين الامبريالية ومناهضيها هو في جانب أساس منه أيضاً جيوبوليتيكي ويقع على قياس الكوكب الأرضي نظراً إلى أن القوى الامبريالية تسعى إلى الهيمنة على مجمل أنحاء المعمورة. وفي هذا الإطار تمكنت هذه القوى من تحويل عالم الجنوب إلى مجال شاسع لشتى ضروب الاضطرابات والحروب والنزاعات بما فيها الجيوبوليتيكية منها، يؤجّجها التنافس المستعر للرأسمالية المعولمة، بينما يسعى عالم الشمال لأن تبقى أراضيه بمنأى عنها.
غير أن اتجاه التطور الذي شهدته العولمة ولا تزال، يذهب بها إلى إنتاج وقائع لم تكن دوماً لصالح القوى الامبريالية الراهنة، فالعولمة التي فتحت الأسواق وحررت المؤسسات الاقتصادية أتاحت نهوض بعض دول عالم الجنوب لا سيما عملاقيه ، الصين والهند ، قابله تعثر الاتحاد الاوروبي ، وتخلي الولايات المتحدة عن حرية المبادلات التجارية والمالية والعودة إلى سياسة الحمائية التجارية على عكس ما كانت تدعو إليه. لقد حلّ ما يشبه الانفصام إذا جاز التعبير بين الامبريالية والعولمة فصار للصين وغيرها من الدول الناهضة التأثير العميق على أسواق معاقل الامبريالية في الشمال بنتائجه السلبية على كل من أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ففي أوروبا تراجع أداء الاتحاد وحلّت فيه نزاعات جيوبوليتيكية متعددة، منها على سبيل المثال لا الحصر، مطالبة كاتالونيا بالاستقلال عن إسبانيا، إصرار اسكتلندا على البقاء في الاتحاد الأوروبي وسط ما يثيره البريكست من فوضى سياسية في العاصمة لندن، تنابذ جهوي مناطقي متزايد في بلجيكا يعطل الحياة السياسية فيها... وعلى مستوى الاتحاد ككل تتفكك الأواصر الاقتصادية والسياسية بين دول شماله ودول جنوبه. يضاف إلى ذلك مشاكل الهويات الوطنية التي طفت على سطح الأحداث في مختلف دول الاتحاد بفعل القادمين إليه من الجنوب. أما في الولايات المتحدة فإلى جانب ما تثيره الموجات الاستيطانية اللاتينية الجديدة من توترات داخلية، وما طرأ من تدهور على علاقتها مع الحلفاء الأوروبيين، يجري الحديث أيضاً عن «حرب تجارية» تخوضها ضد الصين للسيطرة على الأسواق والمناجم والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، إلا أن المواجهة لا تزال في الإطار الجيو - اقتصادي من دون السياسي والعسكري، ذلك أن الصين بخلاف الامبريالية الغربية لا تُبدي أقله حتى الآن رغبتها في نشر «رسالتها » إلى العالم، فهي لا تسعى إلى تصدير نموذجها الاقتصادي والسياسي والثقافي ، لكن ذلك لا يعني أنه لن يصار إليه في المستقبل غير البعيد، وعندئذ ستتحول المواجهة الجيو اقتصادية إلى مواجهة جيوبوليتيكية واسعة.
هذه الإشكالات الطارئة على عالم الشمال، وغيرها مما هو في سياقها تضع الامبريالية الغربية لأول مرة في تاريخها على محكّ العولمة، بما لذلك من انعكاسات مستجدة على مختلف الصعد لا سيما منها الجغرافية والجيوبوليتيكية.
* أستاذ جامعي