كان هدف إتفاق الطائف إيقاف الحرب وفتح الباب أمام تعديل النظام السياسي بما يحقق عدالة التمثيل على اساس المواطنة لا الطائفة... لكن، جرى تجميد التعديلات واستنساخ أخرى بما يتناسب مع الأقوى.والأقوى بعد الطائف كان الوجود السوري الذي نصّب زعماء التزام على الطوائف والمذاهب، وأضحى المشهد أقرب إلى زمن الوجود العثماني، حيث أمسك عدد قليل من زعماء الحرب بالنواصي واحتكروا تمثيل طوائفهم في جميع مفاصل الدولة ومواقعها، وأصبحوا طريقاً إلزامياً بين المواطن ودولته، فراكموا مع الوقت رصيداً شعبياً على قاعدة الخدمات لا القناعات، وكدّسوا الثروات، وأقاموا محمياتهم وكان لهم نصيب من المال العام ونسبة على المشاريع.
وبعد خروج السوريين، افتقدوا الضامن الإقليمي القوي، ولم يبق أمامهم للحفاظ على مكتسباتهم سوى التحاف المذهبية والطائفية كحاجز للإحتماء أمام ما يهدّد وجودهم. تقاطع ذلك مع أجندات إقليمية ودولية وجدت في الخاصرة المذهبية طريقاً سهلاً للعبث بالتركيبة وخلق الفوضى القاتلة، وأضحى كل عنوان إصلاحي تقدمي يقابل بنفير طائفي، الأمر الذي أمّن الحماية إلى حين...
هؤلاء، وفي ظل استنزاف الموارد على مستوى الإقليم نتيجة الحرب السورية والجشع غير المسبوق على التهام الصفقات والتورط في الفساد والإفساد، أوقعوا أنفسهم في شرك قاتل، أصاب مقتلا رعاياهم ممن يلتقط الفتات. فأضحى الزعيم وقلة من المقربين منه ميسورين والباقي يعيش كفاف يومه، فلم يكن أمامهم سوى قضم المزيد من موارد الدولة على قلتها والتورط أكثر مع الأوليغارشية المالية التي شاركتهم سوءهم على قاعدة: «الله طعمك كول وطعمي». وللحفاظ على مكتسباتهم، جمّدوا الإصلاح والمشاريع وأبَّدوا العجز...الكهرباء في دوامة لا تنتهي، النفط مؤجل ليتفقوا على الحصص، الوظيفة للتوظيف الحزبي والانتخابي، لدرجة أن كثيراً من الدوائر مكتظة بموظفين لا يملكون سوى امتياز الانتماء إلى هذا الزعيم أو ذاك... بينما جيوش العاطلين تزداد والقدرة الشرائية للمواطن إلى تراجع وخدمات الدولة إلى انعدام وشره الضريبة إلى ازدياد والأزمات لا تنتهي.. فأضحى المواطن أمام واقع مر كئيب لا يرى أفقا للحل ولا بادرة أمل تخفف من خوفه من مستقبل مدلهمّ أسود...
الصوت المبحوح ليس إلا صدى للألم المعتصر في الصدور والرغبة في الانتقام قلادة المسحوقين


أمام هذا الواقع لم يعد للمواطن المسحوق ما يخشاه.. فهو يعيش في كنف اللادولة واللاكرامة... يُسحق كل يوم أمام فاتورة الاستشفاء والدواء والتعليم، والنقل والاتصالات ويدفع فاتورتين ليبقى... والبقاء غريزة لا خيار أمامها. وقاده الوعي العملي الى قناعة بأن العقم هو في النظام وآلياته ورموزه لا في الحكومات. وبالتالي، قادته غريزة البقاء الى اللحظة الفارقة: يجب الإطاحة بكل شيء لأنه لا يرى شيئا يؤسف عليه. وهو لا يقرأ سياسيا بل معيشيا، إذ يرى الفساد المستشري، والإفقار المتجسد يوميا أمامه في عجزه المستدام... فالتاجر لم يعد قادرا على دفع إيجار محله، وهو رغم ذلك مطالب بتسديد ضرائب المالية والبلدية والمبيعات صفر... والموظف مرهون للبنوك ومرتهن لولي نعمته، كلما طلعت شمس، أخذت مع مغيبها قوة راتبه الشرائية... مديونية عامة وخاصة وشباب لا أمل لهم سوى الهجرة او البطالة المقنعة والعمل في مهن عادية، لا تناسب شهاداتهم ولا تؤسس لمستقبل حلموا به ولم يتحقق. حتى الإسكان سُلب منهم وعليه، فلنجرب المقامرة وليكن «صولد» عليّ وعلى أعدائي، فعلى الأقل يوجد أمل حتى لو كان ضئيلا...
يأس وأكثر ... قهر وأكبر... ولا حياة تليق بمن يمشي على قدمين. فالشارع مكان الذين لا مكان لهم. والصوت المبحوح ليس إلا صدى للألم المعتصر في الصدور. وتبقى الرغبة في الانتقام قلادة المسحوقين، علامتهم التجارية، تعبيرهم العنيف عن الطاقة السلبية التي غذّتها مواقف العجز والذل والأفق المسدود..
فلتذهبوا أيها الساسة إلى الجحيم. وخذوا معكم القهر والعهر وما خسرنا من أيام وأحلام. فالغد لن يكون لغيرنا.
* أستاذ جامعي