لم يتغيّر الكثير في أوكرانيا بعد. سقوط يانوكوفيتش كان جيّداً، فقط لجهة تسريعه في رفع الغطاء عن المكوّن الحقيقي للمعارضة الأوكرانية السابقة، وهو مكوّن يميني ينزع باطّراد إلى الفاشية. ثمّة حتماً كتلة جماهيرية كبيرة وراء انتفاضة الميدان، وهي تعدّ ما حصل قطيعة مع «الماضي الروسي» (أو السوفياتي بالنظر إلى تركيز البعض على إزالة تماثيل لينين في المقاطعات الغربية!)
ولا تبالي بصعود تيارات فاشية على ظهر هذه القطيعة، و«هذا من حقّها طبعاً»، فالتهميش السياسي الذي مارسته حكومة يانوكوفيتش تجاهها لم يكن بالقليل، وهو على أيّ حال تهميش لا يخصّ أوكرانيا وحدها؛ إذ إنّ معظم الحكومات الليبرالية في العالم تمارس التهميش بحقّ الأقلّيات السياسية، ولا تسمح لها بالتعبير عن مصالحها كما يجب. كلّ ذلك معطوفاً على الأزمة الاقتصادية التي ترزح تحتها البلاد أفضى إلى تصعيد الاحتجاجات، وانضمام شرائح واسعة من المتضرّرين من الحكم السابق إلى الميدان، وبالطبع في حالات مماثلة ستسود «الفوضى المنظّمة» وسيبرز المغالون و«المتطرّفون» أكثر من غيرهم. وهذا ما حصل بالفعل في ميدان الاستقلال. فهناك كانت «الثورة» تبرز بنحو أوضح لدى اليمينيين، وخصوصاً الناقمين على الإرث السوفياتي الذي سمح بتذويب النزعات القومية الشوفينية وصهرها على نحو معيّن. للتذكير فقط، ولكي لا يُعَدّ اعتراضنا على اليمين طعناً بأساس الاحتجاج، أقول: إنّ فكرة الانتفاض ليست حكراً على اليسار وحده، وقد برهنت الأحداث الجارية في العالم أنّ اليمين لا يقلّ أبداً عن اليسار في تلقّف الفعل الجماهيري والذهاب به إلى الحدود القصوى، وهذا ما نسمّيه في الأدبيات المتداولة حديثاً «الانتفاضة»، وهو بالتحديد ما حصل في أوكرانيا. فالاحتجاج هناك كان ضدّ التهميش السياسي الذي مارسته السلطة عبر الأطر القانونية والدستورية، الأمر الذي يجعل منه احتجاجاً ضدّ تلك الأطر أيضاً. وهذا نقاش يحتاج إلى متابعة، لأنه يفتح المجال للتشكيك، ليس في رموز السلطة فحسب، بل في كلّ الأشكال التي تتيح لهم التعبير عن سلطتهم، بما في ذلك الدولة الليبرالية نفسها ومن خلفها كلّ الفلسفة الرأسمالية السائدة. المهمّ أنّ الاحتجاج هنا سمح بفعل فوضويته بدخول عناصر لا يعنيها في شيء وجود لحمة اجتماعية داخل أوكرانيا، فأصبح الأمر بالنسبة إلى هؤلاء نزاعاً على الوجود بينهم وبين الأقلّيات السياسية الأخرى التي لا تدين بالولاء للغرب وللقومية الأوكرانية بطبعتها الأكثر شوفينية واستئصالاً. أحياناً يتحوّل التهميش كما في حالة القوميين الأوكران إلى قوّة بالمعنى السلبي، فلا يعود يميّز بين السلطة وقاعدتها الاجتماعية، وتصبح التناقضات الاقتصادية بالنسبة إليه نافلة، وبعيدة كلّ البعد عن جذرها الطبقي. لنقل على سبيل التوضيح إنّ المتظاهر اليميني «المسحوق» والعاطل من العمل لا يشعر من موقعه الجديد في الميدان بأيّ تعاطف مع الفقراء والمهمّشين أمثاله في شرق أوكرانيا وجنوبها، وبالتالي تتغيّر وفقاً لتموضعه (وهو تموضع غير طبقي بالضرورة، بالرغم من العامل الاقتصادي المؤثّر فيه!) طبيعة الانقسام في البلاد، وينقلب الاحتجاج المدفوع بقوّة التهميش إلى عكسه تماماً. لا شيء يفسّر امتثال السلطة الجديدة «لأوامر الميدان» بإلغاء التعديل الدستوري الخاصّ باللغة الروسية غير هذا الولع بتحييد التناقضات الاجتماعية وإحلال العوامل القومية محلّها، ولروسيا كما للإمبرياليات الغربية جميعها مصلحة كبرى في ذلك، فنزاعهما على المستوى الاستراتيجي والجيوسياسي لا ينفي تكاملهما على المستوى الاقتصادي، وهو بالضبط ما يغيب عن النقاش الدائر حالياً بخصوص أوكرانيا. أليس غريباً أن «يتجاهل» الإعلام بشقّيه الغربي والروسي واقع البلاد الاقتصادي، وينصرف بكلّ وقاحة إلى تأكيد الهوية القومية للصراع؟ سأذكّر الجميع بأن كلّ ما يحدث الآن من صراعات لن يجلب فلساً واحداً إلى الخزينة الأوكرانية «الفارغة»، والروس على علم بذلك تماماً، فهم يمسكون بخناق أوكرانيا اقتصادياً، وإذا تدخّلت أوروبا ومن خلفها أميركا «لإسعافها مالياً» فلكي تحفظ لها حصّة في سوقها ليس إلا. القوميون اليمينيون في أوكرانيا لا يستسيغون هذا النقاش كثيراً، ولذلك يستعجلون دفنه عبر استدراجهم الأقلية القومية الروسية في خاركوف وشبه جزيرة القرم إلى اشتباك مباشر، وهذا لن يكون على الأغلب في مصلحة أيٍّ منهما، إذ إنّ وضع البلد اقتصادياً لا يحتمل مزيداً من الانقسامات على أساس الهوية. وإذا كان في ذلك مصلحة للقوى الإقليمية والدولية الممسكة بخناق أوكرانيا، فما هي الفائدة التي سيجنيها الفقراء والطبقة الوسطى من كلّ هذا العبث؟
لقد انتفض اليمين على فساد حكومة يانوكوفيتش، أو هكذا قيل لنا في الإعلام. وبدا ذلك في مصلحة التطوّر الاجتماعي الذي ينشده اليسار (هذا إذا كان ثمّة يسار في أوكرانيا فعلاً!)، فحتى لو نفّذ الحكّام الجدد البرنامج اليميني بحذافيره، سيكون ممكناً مواجهتهم في الشارع وبأدوات اجتماعية واقتصادية تضع الصراع في إطاره الفعلي، وتسمح له بالتطوّر «موضوعياً». والحال أنّ هذا النمط من التطوّر هو ما يفتقر إليه المسار الحالي، على اعتبار أنّه يمثل «قطيعة» لا يرغب بها أحد الآن؛ فالغرب لن يسمح بحصول صراع تستفيد منه القوى الاجتماعية الطامحة إلى تغيير حقيقي، ولذلك أوعز إلى حلفائه هناك بإبراز العناصر المتطرفة أكثر من سواها. وكانت البداية كما ذكرنا من إلغاء «التمييز الإيجابي» الخاصّ باللغة الروسية، الأمر الذي سمح للروس بملاقاة الغرب في منتصف الطريق، وبالتالي التلويح بالقوّة العسكرية التي تلقي ظلالاً من الشكّ على أيّ تحرك للكتل الشعبية المتضرّرة من الحكم الجديد. تشكيكنا ليس موجّهاً ضدّ الكتلة التي تتظاهر طبعاً، ذلك أنّ الأوضاع في المناطق الشرقية والجنوبية متفاقمة بالفعل، وعاجلاً أو آجلاً ستنضمّ مزيد من الكتل إلى المحتجّين الذين استولوا «بقوّة السلاح» على حكومة شبه جزيرة القرم وبرلمانها في سيمفروبول، وعندها لن يكون لتشكيكنا أعلاه أو لكلامنا على التدخّل الروسي أيّ مغزى. فالاحتجاج هناك أصبح يتحرّك بقوّة دفع ذاتية قوامها التهميش السياسي. وما يميّز هذه الأخيرة عن القوّة التي حرّكت ميدان الاستقلال هو ديناميّتها الفائقة والسريعة، وعدم انتظارها مزيداً من الإشارات السلطوية، وهذا ليس وضعاً طبيعياً بالنسبة إلى بلد سقطت فيه حكومة ورئيس للتوّ. في الحالات المشابهة تستغرق عملية بناء السلطة الجديدة وأجهزتها وقتاً أطول من ذلك، فهي ـ وإن لم تأتِ بإجماع شعبي ـ إلا أنها مرشّحة بحكم قيامها على أكتاف انتفاضة شعبية للاستمرار لفترة معيّنة، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تتكوّن فيها الموجات الاعتراضية تباعاً، وبوتيرة باتت تهدّد شكل «الحكم الليبرالي» كما عرفناه تاريخياً. في مصر مثلاً، تكوّنت الموجة المناوئة للإخوان وحكمهم خلال سنة من وجودهم في السلطة. وتعدّ هذه فترة طويلة مقارنةً بما يحدث الآن في أوكرانيا؛ إذ على الرغم من توافر عامل الهويّة هناك، إلا أنه بخلاف الوضع في كييف لم يستعمل بهذه الحدّة، وبالتالي ترك المجال أكثر لتبلور سياق اجتماعي للصراع بين الكتلة المنتفضة والسلطة. صحيح أنّه - أي عامل الهويّة - استحضر من الجانبين أثناء المواجهة وبشكل فظّ غالباً، لكنه لم يكن قطّ المحدّد الرئيسي لتطوّر الصراع، بل بقي دائماً في خلفيّة المشهد، ولم تستعمله السلطة الإخوانية إلّا عندما انكشف طابعها الطبقي المنحاز بالكامل. وللتذكير أيضاً، فقد كان الإخوان حينها مهزومين، وبالتالي مضطرّين إلى تغطية إفلاسهم الاجتماعي بأيّ وسيلة ممكنة، ومن المعروف أنّ هذا ليس هو الوضع في أوكرانيا، فالسلطة هنا تُعَدّ «منتصرة»، لا بل إنّها مزهوّة بهزيمة خصومها في غضون أقلّ من أربعة أشهر. لا حاجة للقول إنه لا دخل مباشراً للإقليم في تعكير صفو «الانتصار» ذاك، فالتدخّل الروسي الواضح (وهو تدخّل فظّ بكلّ ما للكلمة من معنى) لا يقدر وحده على معاكسة مزاج أغلبية شعبية. وهو فضلاً عن ذلك عاجز عن «تصنيع» انتفاضة مضادّة وزجّها كيفما كان في مواجهة الجزء المناهض له من الشعب.
إنّ من يراقب احتجاجات شبه جزيرة القرم جيّداً سيلمح فيها شبهاً واضحاً بما حصل في كييف؛ فالتهميش هنا وهناك هو ذاته، وكذا الاعتراض على الفساد السياسي والتخديم على طبقة رجال الأعمال. في خاركوف وحدها، وهي المدينة الصناعية الأكبر في أوكرانيا، ثمّة صناعات بأكملها مهدّدة بالاندثار حال توقيع اتفاقية الشراكة مع أوروبا، وهذا قد لا يكون السبب المباشر وراء التحرّك الحالي في شبه جزيرة القرم، إلا أنّه يقبع في خلفية أيّ مطالبة مستقبلية بتعديل الوقائع المفروضة في كييف. فمن يبدأ حكمه بشطب لغة أكثر من عشرة بالمئة من السكّان لن يصعب عليه لاحقاً تجريدهم إلى جانب آخرين من وظائفهم ومدخراتهم بحجّة التزامه بنود اتفاقية الشراكة مع أوروبا. بالمناسبة، تعالوا نذكّركم بجزء يسير من هذه البنود:
رفع سنّ التقاعد، رفع أسعار الكهرباء والتدفئة وخدمات المرافق العامة، إلغاء دعم أجور النقل في المواصلات العامة، تقليص أو إلغاء معاشات التقاعد «الخاصّة» التي يتقاضاها متقاعدو الجيش وموظفو الحكومة... إلخ. لا نعرف بالطبع إن كانت السلطة الحالية ستستمرّ لغاية توقيع هذه البنود، ولكن ما نعرفه فعلاً أنّ توقيعها سيكون إيذاناً بزوال أيّ سلطة قادمة، سواء كانت موالية لروسيا أو للغرب. إذا حصل الزوال بهذا الشكل، فسنكون إزاء ثورة فعلية، لا صورية، لأنّ الثورة هي حصيلة كلّ هذه التناقضات، ولأنها تقوم بمعية الطبقات الاجتماعية وحدها. حتى الآن لا ملامح واضحة لهذه الأخيرة أو لحراكها في أوكرانيا، ولذلك نتكلّم على احتجاجات وعلى تهميش سياسي، وهذا لا يضير محتجّي كييف وشبه جزيرة القرم في شيء. يكفيهم أنّهم انتفضوا على التهميش، وجدّدوا شباب الميدان الذي شاخ في ديارنا قبل أوانه.
* كاتب سوري