إثر طرح بعض القوى السياسية، كذلك الأوساط الإعلامية، مسألة «الفصل بين النيابة والوزارة» إبان الاحتجاجات الشعبية، وبعد استقالة الحكومة، بعدما جرى تجاوز هذا المبدأ في خانة الممارسة السياسية تبعاً للجواز الدستوري المعمول به في المادة 28 من الدستور، يثار النقاش السياسي مجدداً حول إشكالات الجمع بين النيابة والوزارة، وإيجابيات وسلبيات «الفصل» على الساحة الدستورية والسياسية، خاصة في بلد كلبنان حيث تنم الممارسة عن خلل في عمل المؤسسات الدستورية لمصلحة التوازنات الداخلية والخارجية، وعدم تطبيق النصوص الدستورية والقانونية كما يجب.إذ أقر الدستور اللبناني مبدأ الجمع بين النيابية والوزارة في نصّ المادة 28: «يجوز الجمع بين النيابة والوزارة، أما الوزراء فيجوز انتقاؤهم من أعضاء المجلس المجلس النيابي أو من أشخاص خارجين عنه أو من كليهما»، وفي المقابل أجاز الفصل، على غرار النظام البرلماني البريطاني، وسمح بإمكانية تشكيل حكومة من داخل المجلس النيابي (حكومة برلمانية) أو من خارجه (حكومة اكسترا برلمانية) أو تشكيل حكومة مطعمة من وزراء غير نواب (حكومة مختلطة)، بحيث يصار إلى المزاوجة مع العديد من التجارب البرلمانية في الدول الغربية لجهة الجواز بين الفصل والجمع.
السماح للعضو في البرلمان بأن يدخل الحكومة، يعني السماح، ولو ضمناً وممارسة، بجعل الرقابة والمحاسبة دون مضمون


وإنما، لا يمكن تقييم مبدأ الجمع بين النيابة والوزارة بشكل عام، وإغفال خصوصيات النظام السياسي لكل بلد على حدة أو طبيعة وحجم الأحزاب والتيارات السياسية السائدة فيه، لأن إعمال «الجمع» في بلد معين، تختلف نتائجه عما هو عليه في بلد آخر، وذلك بحسب عوامل سياسية معينة، فمثلاً، على الرغم من أن النظام السياسي الفرنسي يمنع الجمع بين النيابة والوزارة في سياق معين، يوجد هناك استقرار سياسي وحكومي، على خلاف النظام الإيطالي حيث يجوز الجمع في هذا البلد، لكن لا يوجد استقرار حكومي، ما يغاير تركيبة النظام السياسي في لبنان لناحية عوامل وركائز انتخاب البرلمان وتشكيل الحكومات، علاوة على الصبغة التوافقية المحكومة في التطبيق العملي، فما هي إيجابيات وسلبيات الجمع بين النيابة والوزارة في التجربة اللبنانية؟

الإيجابيات:
• لما كان الجمع وسيلة من الوسائل السياسية لعلاقة البرلمان بالحكومة، وتطبيقاً لمبدأ التعاون السائد في النظام البرلماني، كما تشير مقدمة الدستور اللبناني، فإن هذا النموذج من أكثر النماذج فعالية بين البرلمان والحكومة، لأن الوزراء يختارون من داخل المجلس النيابي، وإن من طبيعة الحياة البرلمانية أن يعودوا إليه، كما يبقيهم على اتصال دائم مع النواب، علاوة على بروز التنسيق بين الأعمال البرلمانية والأعمال الحكومية.
• إن اعتماد مبدأ «الجمع» يؤدي إلى شيء من الاستقرار الحكومي لكون الاتصال مؤمناً بين المجلس النيابي والحكومة، حيث إن الأخيرة ستسعى إلى إرضاء المجلس النيابي، وإلى تلبية رغباته، بغية الاستمرار في التمتع بالثقة كما يؤكد الفقيه الدستوري إدمون رباط.
• إن إقرار إمكانية الجمع بين النيابة والوزارة، بحسب بعض الفقهاء الدستوريين، يشكل أحد أهم الضمانات التي تسمح للنائب بالقيام بمهامه وتعزيز موقع البرلمان.

السلبيات:
• يؤدي الجمع بين النيابة والوزارة إلى بروز نوع من الطموح لدى النواب جراء طبيعتهم البشرية إلى المنافسة على التوزير، ولو على حساب الاستقرار الحكومي والمصالح العامة.
• إن تطبيق «الجمع» في ظل التركيبة السياسية اللبنانية، خاصة بعد إقرار قانون «الصوت التفضيلي» سيزيد الصراع السياسي على المناصب، ما سيؤدي إلى ارتفاع حالة الاستيزار عند الراغبين في العمل الحكومي.
• إن اعتماد الجمع بين النيابة والوزارة يؤدي إلى إضعاف الرقابة البرلمانية على أعمال الحكومة، لأن ذلك سيخلق إمكانية للوزير بأن يسخّر وزارته لإرضاء قاعدته الشعبية بهدف خوض الانتخابات النيابية، لا سيما أن الممارسة البرلمانية في لبنان بلغت، من حيث الرقابة والمحاسبة، نسبة كبيرة جداً في التعطيل والتقاعس، سواء في ظل وجود الجمع أو في ظل الفصل بين النيابة والوزارة.
• لما كانت المحاسبة من مهام البرلمان، فإن السماح للعضو في البرلمان بأن يدخل الحكومة، يعني السماح، ولو ضمناً وممارسة، بجعل الرقابة والمحاسبة دون مضمون، جراء التداخل بين الوظيفة البرلمانية والوظيفة الحكومية.
• إن تطبيق مبدأ الجمع، ولو أنه يجيزه الدستور، يؤدي إلى الالتفاف على الإرادة الشعبية أو على مفهوم الوكالة النيابية، لأن الناخب عندما منح صوته للنائب إنما شاء أن يمنحه التوكيل في إيصال صوته في الندوة البرلمانية بعد رقابة ومحاسبة الحكومة لا أن يكون عضواً فيها، لا سيما أن من شأن هذا التداخل أن يؤدي إلى ضعف التفرغ في التشريع وأعمال اللجان النيابية المختصة.
• إن اعتماد مبدأ الجمع، والإبقاء عليه كما هو في لبنان، يعني تكريس المفهوم الخاطئ للنيابة لدى البعض من عامة الناس، لأن الأحزاب السياسبة في لبنان هي من تحدد اللعبة البرلمانية، وهي نفسها من ترسم التشكيلة الحكومية، ما يضع الناخب أمام هواجس تلبية احتياجاته وخدماته الخاصة من النواب (الوزراء وغير الوزراء) بفعل خلط المعايير، واتحادها في كنف واحد وهو الأحزاب، وهذا ما يجعل النائب - الوزير تحت وطأة الضغوطات والمراجعات اليومية، بحيث تتحول الوزارة، وبعض الوظائف البرلمانية، إلى مرجع إلزامي لتلبية حاجات الناخبين. إزاء ما تم سوقه من سلبيات وإيجابيات وملاحظات على مبدأ «الجمع بين النيابة والوزارة»، وإزاء ما يسود التركيبة اللبنانية من خلل يكتنف عمل المؤسسات الدستورية والسياسية، يمسي من الصعب الجزم بالاعتقاد أن «الفصل بين النيابة والوزارة» هو الخلاص مما هو قائم في لبنان، لأن الأهمية الكبرى تكمن في احترام المبادئ والأسس الدستورية، واعتمادها كنافذة لمعالجة واقع النظام اللبناني بكل تعقيداته، جراء الفساد المستشري والمحسوبيات والزبائنية في المرافق كافة، سواء بوجود الفصل أو بغيابه، لأن حتى مع إعمال مبدأ الفصل بين النيابة والوزارة، فإن الأمر لن يبقى بلا إشكالات ومعوقات، بسبب النقاط التالية:
- أصبحت الثقة بالحكومة الائتلافية مضمونة لأنها تحتل كل التيارات السياسية، وبالتالي لن تتخلى الصبغة اللبنانية عن إطارها الواقعي في ظل سيطرة الأحزاب الكبيرة على البرلمان، إذ بإمكان أي حزب سياسي تسمية وزراء غير نواب من دون أي خوف من إمكانية عدم إعطاء الثقة من قبل نواب كتلة الحزب، فمثلاً، لو سمى حزب المستقبل أو القوات أو حركة أمل أو التيار الوطني الحر إلخ.. وزراء غير نواب فلن تؤثر هذه المسألة على ثقة الحكومة، لطالما الثقة مؤمنة بفعل فعالية وهيمنة الأحزاب على البرلمان، ما يؤكد أن الفصل، مع هذا الواقع، مسألة تفصيلية من تفصيلات النظام في لبنان وما يعتريه من شوائب.
- عدم وجود قانون عصري للانتخابات النيابية يضمن التمثيل الصحيح، ويحقق بالتالي الهدف الأساسي من الانتخابات، بسبب الطابع الطائفي للقانون النسبي الجديد.
- عدم وجود قانون للأحزاب السياسية يضمن مسار عمل الأحزاب وكيفية تأثيرها في العملية السياسية.
- تعثر المحاسبة الشعبية في الاستحقاقات السياسية، بسبب الاعتبارات الطائفية والمذهبية، والتي باتت عائقاً كبيراً أمام مناخ الإصلاح السياسي.
- عدم وجود معارضة حقيقية، تعمل على أساس برنامج وأهداف واضحة، وتشتت الحالات الاعتراضية في زواريب السياسة الكيدية والتاريخية.
مهما يكن من أمر، فإن مسألة الفصل بين النيابة والوزارة على أهميتها تبقى مسألة جزئية أمام الإصلاح السياسي برمته، ومع ذلك، وأيّاً كان الموقف من النظام السياسي لجهة تطويره أو تعديله أو تغيير طبيعته، يبقى أن الفصل بين النيابة والوزارة في بلد كلبنان، خطوة تمهيدية على طريق الإصلاح وتفعيل العمل الحكومي والبرلماني، فهل ستتماشى القوى السياسية مع هذا الطرح عبر تعديل المادة 28 من الدستور، وإقامة الحظر في الجمع بين النيابة والوزارة؟
* باحث في القانون الدستوري