استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من دون أيّ تنسيق مسبق مع الحلفاء، أدخلت لبنان في مرحلة سياسية جديدة. هذه الاستقالة المنفردة إذا صحّ التعبير، قامت بإنهاء المعادلة التي عمل بها جرّاء التسوية الرئاسية بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، وفتحت الباب أمام مختلف السيناريوهات، من دون أن يتمّ الحسم بأيّ منها حتى الآن خصوصاً أن الرئيس المستقيل لم يعمد إلى ترتيب الأوضاع قبل الإقدام على هذه الخطوة. لا شك في أن هذه الاستقالة جاءت تلبية لدعوات المتظاهرين الذين طالبوا باستقالة الحكومة الحالية وبتشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية تقوم بإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية. قبل الحديث عن إمكانية تحقيق هذا المطلب وتشكيل حكومة غير سياسية لا بدّ من التطرق إلى العوامل التي أدّت لاندلاع الاحتجاجات وإلى شل البلد لأكثر من ١٣ يوماً:إلى جانب التظاهرات العفوية التي تمّت من قِبل قسم من الشعب اللبناني الذي ضاق ذرعاً بالسياسات غير المجدية وانتفض أخيراً في وجه الفساد المستشري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يجب القول بأن هناك عوامل خارجية وداخلية ساهمت في تأجيج هذه الاحتجاجات وهو ما أدى لاحقاً إلى حرف المطالب المحقّة عن هدفها الأساسي وإدخال الحراك الشعبي العفوي في اللعبة السياسية:
فبالنسبة إلى العوامل الخارجية لا شك بأن خطاب الرئيس عون في الأمم المتحدة وتصريحات وزير الخارجية جبران باسيل أثارت تحفّظات وامتعاض بعض الدول المؤثّرة إقليمياً خصوصاً في ما يخصّ سلاح حزب الله وأزمة النازحين السوريين... هذا الامتعاض أدى إلى تحريك بعض الملفات من أجل الضغط على لبنان، والأزمات المفتَعلة والمضخّمة بشأن البترول والدولار والطحين التي كانت قد سبقت الاحتجاجات بأيام قليلة تدلّ بشكل واضح على ذلك، ناهيك عن الحرائق الهائلة التي أشعلت لبنان بين ليلة وضحاها والتي يرجّح أن تكون مفتعَلة بهدف تسليط الضوء على عجز الدولة حتى عن حماية الناس وممتلكاتهم من خطر الحرائق.
أما بالنسبة إلى العوامل السياسية الداخلية، فمن المعلوم بأن هناك جهات سياسية ممتعضة كثيراً من أداء وزير الخارجية المستبد بحسب تعبير النائب السابق وليد جنبلاط. ولا يخفى على أحد أن أعداء الوزير جبران باسيل هم كثر، خصوصاً بعد سقوط اتّفاق معراب وبعد حادثة قبر شمون الأليمة. هذه العوامل دفعت الفرقاء الممتعضين من تصرفات باسيل إلى ركوب موجة الاحتجاجات في محاولة لإسقاطه في الشارع بعد أن عجزوا عن إسقاطه في السياسة.
في ظلّ هذا المشهد السياسي المتناقض وبغض النظر عن الحراك الشعبي لا بدّ من القول بأن تشكيل حكومة تكنوقراط في لبنان أصبح منذ اتفاق الطائف أمراً صعباً إذا لم نقل مستحيلاً.
وحتى إذا تم تشكيل هذا النوع من الحكومات فهناك أسئلة كثيرة تطرح حول عملها المستقبلي، وذلك من وجهة نظر دستورية. فمن المعروف بأنه بموجب اتّفاف الطائف انتزعت الصلاحيات المهمة التي كانت تعود لرئاسة الجمهورية وتم تحويلها إلى مجلس الوزراء مجتمعاً.
في هذا السياق حدّدت المادة ٦٥ من الدستور اللبناني وبشكل واضح هذه الصلاحيات. فعلى سبيل المثال يعود لمجلس الوزراء وضع السیاسة العامة للدولة في جمیع المجالات، بالإضافة إلى عدد من الصلاحيات نذكر منها على سبيل المثال: تعديل الدستور، إعلان حالة الطوارئ وإلغاؤها، الحرب والسلم، التعبئة العامة، الاتفاقات والمعاهدات الدولیة، إعادة النظر في التقسیم الإداري، حلّ مجلس النواب، قانون الانتخابات، قانون الجنسیة، قوانین الأحوال الشخصیة.
يتبيّن إذن من نص المادة المذكورة بأن مجلس الوزراء يتّمتع بصلاحيات واسعة يمكن إذا استعملت أن تؤدي إلى تغيير جذري في النظام اللبناني وذلك على جميع الأصعدة.
في المقابل يجدر القول بأن هذا النظام يقوم أصلاً على التمثيل الطائفي وذلك من أجل حفظ حقوق جميع الطوائف لا سيما الأقلية منها. وبما أن العادة درجت في لبنان على تشكيل حكومات وحدة وطنية تتمثل فيها جميع الطوائف، فإن قرارات الحكومات السابقة كانت تحظى مبدئياً بغطاء سياسي من قِبل الأحزاب الرئيسية وبالتالي من قبل الطوائف. أما في حالة تشكيل حكومة اختصاصيين، فالسؤال الأول الذي يطرح نفسه هو كيف سيتم اختيار الوزراء؟ وهل ستكون تسميتهم مبنية على أساس حزبي أو طائفي أم أن اختيارهم سوف يتم استناداً إلى مؤهّلاتهم العلمية وخبراتهم بغضّ النظر عن انتمائهم؟ وفي حال افترضنا أنه سوف تتم تسمية وزراء من دون الأخذ بعين الاعتبار انتمائهم الطائفي والحزبي، فلا شك بأن هذا الأمر سيكون بمثابة تطوّر نوعيّ في الحياة السياسية في لبنان. ولكن في هذه الحالة هناك علامات استفهام كثيرة أيضاً: فكيف لوزراء تكنوقراطيين أن يقوموا باتّخاذ قرارات كبيرة ومصيرية كتلك التي حددتها المادة ٦٥ من الدستور، وهم أصلا غير تابعين أو مغطّين من أحزاب معينة أو من طائفة معينة.
وإذا شكلت، لا شك بأن المحطة المهمة الأولى التي ستواجه الحكومة التكنوقراطية هي البيان الوزاري. ففي الحكومات السابقة كان موضوع سلاح المقاومة في البيان الوزاري هو محطّ مدّ وجزر بين مختلف القوى السياسية. فكيف سيتعامل الوزراء التكنوقراط مع موضوع سلاح المقاومة؟ في المقابل هل سيقبل فريق ٨ آذار ومن معه وهم الذين يشكلون أغلبية المجلس النيابي بتسليم وزراء تكنوقراط مستقلّين زمام السلطة ومفاتيح البلد؟ هل ستقبل الأغلبية النيابية بتسليم كلّ هذه الصلاحيات الواسعة لوزراء مستقلين من دون الحصول على تطمينات جدّية وهم الذين يعتبرون نفسهم مستهدفين داخلياً وخارجياً؟ تبقى هذه الأسئلة معلّقة إلى حين اتّضاح الصورة السياسية أكثر فأكثر، إلا أنه من المؤكد بأن سيناريو تشكيل حكومة غير سياسية ليس بالأمر السهل وهو سيكون محطّ شد حبال بين مختلف الأطراف السياسية.
يمكن أن يكون المخرج بقيام الأحزاب السياسية بتسمية وزراء اختصاصيين معروفين بانتمائهم الحزبي وتشكيل حكومة تكنو-سياسية، ولكن وفي هذه الحالة كيف سيكون رد الشارع والأطراف السياسية التي تحرّك قسماً منه؟
في المحصلة، خيار تشكيل حكومة تكنوقراط هو مطلب تمّ التسويق له من قِبل جهات سياسية معروفة وذلك قبل اندلاع الأزمة الحالية. ولكن لا يمكن القول بأن الحلّ الفعلي يكمن فقط في تشكيل هذا النوع من الحكومات. من المهم طبعاً أن يكون الوزير من ذوي الكفاءة العالية ومختصاً في مجاله، ولكن الأهم أن تتم إحاطته بمستشارين أكثر اختصاصاً وأكثر كفاءة. والأهم من كلّ ذلك يبقى في تشكيل حكومة متجانسة تعمل استناداً إلى خريطة طريق واحدة بعكس ما يحصل في لبنان، حيث يتم اعتماد حكومات وحدة وطنية تمثّل أغلبية الكتل النيابية على اختلافها، وهو ما يؤدّي حكماً إلى شلّ العمل الحكومي وتعثّره بفعل المشادات السياسية، لأنه وبكل بساطة يُصار إلى استخراج التناقضات الموجودة في مجلس النواب من أجل وضعها على طاولة واحدة في مجلس الوزراء.
* دكتور في القانون الدولي، وأستاذ محاضر في جامعة «رين» والمعهد الكاثوليكي في فرنسا