مَنْ هم الذين يقرأون بوعي ثم يعملون على حلّ مشكلة التعارض بين ضميرهم وإشكالات عصرهم، فينصتون إلى أصوات قلقهم المعرفيّ أمام مشهدية الانجراف إلى طبيعة العصر المادية؟لقد باتت الثقافة محصورة في نعيق البعض تشبه كلّ شيء سوى الحياة العقلية الإيجابية المحرّكة لمفاصل الواقع، وأصبحنا ندمن إنتاج عناوين وجمل وأفكار تعكس ترهّلاً وسطحية لا تجذّر لها في العمق، بل تعيش على سطحية الانفعالية والضوضاء واللغو وتحيا في وهم كبير على أنها ثقافة وفكر ويتبختر أصحابها في كبرياء، وسرعان ما يذوي أثرها العملي.
(نوري جعفري)

تناسينا أن الجانب الثقافي من الإسلام هو الجانب الأول الذي افتتحت به الشريعة الإسلامية خطابها للبشر ﴿اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم﴾ [العلق: 3-5] في أول إيحاءات السورة دعوة إلى التزام القراءة المتدبّرة الواعية المستنتجة، المنطلقة من تفكير بما ينتج عنها من بناء أسس متينة ينطلق منها المرء لقراءة كتاب الحياة والكون، ليعيد ترتيب الحياة بما يلزم من حكمة وتوازن في المشاعر والمواقف والحركة والسلوكيات، فما بعد القراءة أهم وهو العمل والفعل المقتحم لساحات التحدّي والنهوض، فلا يمكن تغيير الواقع من دون آليات صالحة من إيجاد شخصية تمتلك قاعدة فكرية واضحة وقوية تدفع نحو تمثّل الواجبات الأخلاقية والعبادية والاجتماعية، لا كشيء مقابل أجر على النمط الغربي المادي الضيق، بل على أساس ممارسة الفعل المسؤول المبني على عقيدة وإيمان بتأكيد الحق وإلباسه ثوب الكمال والإطلاقية بمعنى صرف أيّ اعتبار مادي عنه.
فالإنسان بفطرته الصافية قادر على القراءة المنصتة لصوت الضمير الحي المشحون بالإيمان المتجذّر في الوجدان المستند إلى عقل بنّاء وحرية تفرض تحرّراً من القيود والعلائق والحسابات التي تحط من روحانية الإنسان وقيمته، فلا اعتبارات لسلطة هنا أو هناك من عائلية أو مذهبية أو حزبية، ولا إرضاء لمشاعر تأليه الأشخاص والشعارات والأفكار، إنها عملية تحرّرية كادحة بأوسع مداها لا تعرف توقفاً ولا ضعفاً ولا جموداً، تبقى ضاربة في تجلّياتها بين الأرض والسماء.
فلا معنى لعبادات وشعائر ما لم تؤكّد جدّية هذا الإيمان وعمقه ومتانته وانفتاحه على القراءة والتمتّع بروح الجمال والإبداع، والكدح نحو أسمى الأهداف على أساس الحق والعدل، متناسق، متجاوب في أجزائه بعضها مع بعض ومع الخالق: ﴿ألم ترَ أنّ الله يسجد له مَن في السموات ومَن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس﴾ [الحج: 18]، فالله تعالى يريدنا أن نجسّد عظمته في وعينا لما حولنا، وما هو مطلوب منا في نماء معنويات الإنسان وسيره وجهاده، وفي شعوره في أداء رسالته في الحياة.
فإلى متى سنبقى عفويين بالمعنى السلبي، تتحكّم بنا الانفعالات الظرفية من دون أن نمتلك الروح والذهنية التي تقدر على تأليف الأشياء وتركيبها بما يتناسب مع الخطاب العام الإلهي الكلّي لجهة الدعوة إلى توحّد كل المشاعر والطاقات في سبيل الوحدة والتآلف بين بني البشر، بين أهدافهم وتطلعاتهم وبين سعيهم الدؤوب والحقيقي في تحقيق التوازن والانسجام والمصالحة مع الذات؟
إذا لم نعد نتحسّس مسؤولياتنا وكفاحنا تجاه قضايانا الحياتية والاجتماعية المهمّة لن تفيدنا الشعارات بشيء، فلقد تفاعلت وتأثرت الأجيال ولا تزال بعناوين كبيرة، ولكن بعد عودتها إلى صحوتها والنظر مليّاً في أرض الواقع ترى حجم المأساة والكارثة التي هي فيها، فتصير لديها حالة من الاشمئزاز من هذه الهوّة الساحقة بين التنظير وسوء التطبيق فتنفر من الدين كلّه وهذا ما يحصل مع جيل اليوم.
ألم تكن عاشوراء في جزء منها مطالب معيشية وحقوقية للناس وفي جزء آخر تحريراً للعقول ورفض تخديرها وعدم تسييس الدين للمصالح؟


في أجواء أربعينية الإمام الحسين بن علي نقول: ألم تكن عاشوراء في جزء منها مطالب معيشية وحقوقية للناس وفي جزء آخر تحريراً للعقول ورفض تخديرها وعدم تسييس الدين للمصالح؟ فلماذا هذا الاسترخاء والضعف والاستسلام والركون إلى الغيبيات والشعارات والعادات والأفكار الفارغة، كأننا أمة مخدّرة مدمنة على الخنوع والخضوع والتبعية العمياء، نزيد بجهلنا وتخلّفنا تغييب الغايات الشريفة لكربلاء الإمام الحسين وطمسها أكثر فأكثر؟
إنّ دلالات الثورة الحسينية ليست في كمية الاستعراضات والولائم وحجمهما بقدر ما هي تحرّر من القيود والتبعيّات، وبقدر ما هي شعور بالعزّة وبالذات الكريمة والمتصالحة، فالحسين لا يريدنا حسينيون اسماً وشعاراً، بل الأهم فعلاً وحركة وسلوكاً.
لذا فإنّ كثيراً من الممارسات هي ضارّة جداً بالنهضة الحسينية المباركة وتنحرف بجمهورها عن مقاصدها وآثارها المستمرة، فالدفاع عن الحسين وأهدافه من أهم فصول البيعة الحقيقية لصوت الضمير الحرّ في العالم أجمع وليس لمذهب أو دين بعينه.
إنّ الشعائر والطقوس تنتج عنها مشاعر وأحاسيس ملتهبة، فإن لم توظّف في تكريس إيمان يدفع إلى المراقبة والمحاسبة، فإننا لن نشعر سوى بزهوها اللحظوي حيث تخفت مع الوقت وتتلاشى، فلا يعقل أن نستسلم في مجالسنا وشعائرنا لجملة طقوس وأفكار أسطورية في كثير منها ناجمة عن مخيال مرضي منافٍ لكلّ إيمان ومنسلخ عن كلّ اعتبارات نقدية سليمة، فنحن فعلياً نقرّ إقرار العبيد عندما نستسلم لهؤلاء وعلينا أن نشكّ في تدينهم الظاهري المكرِّس للرجعية والركود.
إنّ الانتماء الفعلي للحسين، رمز الأحرار في العالم، هو عملية إحياء ونهضة للوعي وللمعرفة وتصحيح السريرة الداخلية للجماعة ورفع الذنوب عنها، ذنوب الاعتقاد والتمذهب والتسييس، وكما يقول المفكر علي شريعتي: «إن الدموع لن يكون لها أي تأثير كيميائي على ذنوب الإنسان، إذا لم تؤثر على وعيه ومعرفته وسريرته».
لو جاءنا الإمام الحسين عليه السلام اليوم ونظر بعين إلى الناس ونظر بالعين الأخرى إلى واقعنا المهترئ والفاسد على الصعد كافة ماذا تراه سيقول؟ سيبكي علينا بدل أن نبكيه وسيقول أيها الناس، لا أريد بكاءكم أريد فعلكم، فالأجدر أن تبكوا على أنفسكم التي تخونون أمانتها، تلعنون الفاسقين والفاسدين والظالمين، وعما قليل تتعصبون لهذا وذاك وتتركون المحاسبة والمساءلة ولا تفعلون شيئاً لرفع الحرمان والعوز والجهل عن أجيالكم، وترجموا الشياطين في أوطانكم، فعلاً إنكم غريبو الأطوار ولا قبول لكم في مدرستي، فالكل ناجح بالكلام ولكنّه راسب بالعمل والانتماء الحقيقي، فأنا لا أريد فقط زوّاراً ومحتشدين حول قبري، بل حشوداً تحاصر المفسدين والسلاطين وسراق الخبز والكلمة وتمنعهم من غيّهم وتعسفهم.
لو جاءنا الحسين لقال لنا إن عزة النفس هي هجران كلّ ما يقلّل من قيمتكم وكراماتكم فلا تقدسوا زعيماً ولا تتعصبوا لمذهب، بل تعصّبوا للحقّ والعدل والمساواة، هكذا صرخت في كربلاء يوم قلّلت عبيد الدنيا من قيمتها وبايعت عصبياتها ولبّت نداء أهوائها وأنانياتها المريضة، فلا تكونوا يزيديين بأفعالكم ومشاعركم وحركتكم في الحياة، اخرجوا على الجور وانتشروا في الساحات والميادين مطالبين بحقوقكم المنهوبة.
لو جاءنا لقال لنا لا أقبل مجالس فيها تملّق لهذا الزعيم أو القائد أو الحزبي المرتهن مهما كان ومهما علا شأنه، لا أريد مسّاح جوخ وعلى رؤوسهم عمامات تنضح بالجهل فما لم تخلصوا لإنسانكم ولوطنكم ولحريتكم فستغرقون في ما تجنيه أيديكم، ألم نحصد ذلك تباعداً وغربة وفرقة وخصومات حتى بتنا نعيش في كانتونات منعزلة ومحميات متفرقة عن بعضها البعض، تنتمي لبلد ووطن بالشكل فقط، ولكنها جماعات تؤمن بمنطقها ومنطقتها وهي التي تتسيد حدود وطنها وترسمه وفق مصالحها.
لقد تناسينا كثيراً أن أزمنة الدين عقلانية تقتحم تحدّيات الحياة اليومية في أدّق تفاصيلها وليست أزمنة غيبية مجرّدة منفصلة عن الواقع، فلقد تلاعبنا بهذه الأزمنة وأضعنا البوصلة وخلطنا بين الغيبي والواقعي حتى صار الغيبي جزءاً من ثقافتنا وخبزنا اليومي، ما يعزّز روح الانهزامية أكثر بدل أن نتفوّق على الزمن بإبداعاتنا وطاقاتنا الخلّاقة التي تعكس حريتنا المنطلقة نحو المطلق بلا حدود وقيود، فنصنع فعلاً مفيداً منتجاً نخرج به كلّ اعوجاج حاول ويحاول قتل الأمة ومصادرة فعلها وحضورها.
فنحن من نسجّل تاريخنا أفعالاً متصالحة مع الذات، منسجمة مع استقامة في الداخل، منطلقة إلى الخارج بثقة وجدارة تراقب وتحاسب وتأبى التبعية للاعتبارات مهما كانت، هذه الذات تصبح المقياس لتقبل أية فكرة أو توجيه حتى لو كانت مقدسة، فالله لا يريد بشراً فارغين كالطبول الجوفاء تشكل عبئاً على الحياة بدل إصلاحها. الدين وعي وإحساس عالٍ بالمسؤولية عن الحياة والناس، عندها يمكن الإفادة من الدين، ولكن عندما يغزوه التخلف يصبح عبئاً ثقيلاً على الحياة، ويمعن بأشكاله ومظاهره في إماتتها وتجميدها، ويصبح تالياً هو المشكلة بدل أن يكون هو الحلّ، كثير من المتدينين بلا عقل يقفون سداً منيعاً في وجه تقدّم الحياة وتجديدها ورفدها بما يلزم، والأنكى أنهم يعيشون في حلم جميل بالجنان وأنهم وحدهم من يدخلها.
يقول المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله: «الإحساس الديني لا زال بالرغم من بعض السلبيات الموجودة فيه، أكثر عمقاً من أية حالة أخرى. وهنا قد يتحوّل الدين في الواقع إلى مشكلة أو إلى حلّ. لأنَّ هذا العمق، عندما يختزن التخلّف فإنَّه يخلق المشكلة ولكنَّه عندما يختزن الوعي يمكن أن يكون الحل».
إن الإنسان ليس كائناً ثابتاً إنه في دواخله يحمل عوالم من التحوّلات والتبدّلات التي لا بدّ أن يحسن نظمها، تظهر كلّ رغبة في التغيير في عملية تطهر من كل القيود والعلائق، فليست استقامتنا السياسية والدينية والاجتماعية شكلاً فلكلورياً ينتهي في لحظته، بل فعلاً دائماً لملاحقة كلّ النشاز وكلّ الفساد والباطل ومواجهته إلى النهاية بنفس صبورة لا تكلّ في كلّ زمان ومكان.
بدأت الأزمة حينما تخلّينا عن ممارسة دورنا في أن نكون أكثر من شاهد صدق على صراع الحق والباطل، بل مؤثرين في إدارة هذا الصراع لتصويب مسيرة الأمة، فأكثرنا يعكف إلى محاريبه ولكنه غائب تماماً عن ساحة الصراع، تراه فقط ينعق ويصرخ، فلو أنّ كل هذا النعيق والصراخ عبر التاريخ كان يترجمه أصحابه فعلاً تغييرياً لانقلب المشهد منذ زمن.
فوعي الإنسان مركز انطلاقة قوية مدركة لما حولها تثور بحكمة كلّ حين على ذاتها وما يحيط بها سعياً للتجديد والتغيير نحو الأفضل، وليس الوعي مدعاة للصمت والرضوخ وإلا تحوّل إلى خشبة يُصلب عليها الإنسان.
إن الخطاب الديني في أغلبه لا يترك مجالاً للعقل أن يتحرك في فضاءات متحررّة تكتشف الإجابات في خطوطها العريضة من دون فرض شعور بالتقبّل الميكانيكي المعلّب والفارغ عند أغلب الأحزاب والجهات، حيث إلى يومنا لا نعثر على مشاركة فعلية أصيلة للإنسان في جواب طاعة الله ممارسة ووعياً وسلوكاً تقتحم بثقة زمان الله الأبدي، بل نحيا على صخب الزمان الخارجي المليء بتعقيدات الاعتبارات والحسابات والذاتيات.
لم نتخلّص بعد من الارتهان لصيغ وعي قديمة بالية لكنّها حاضرة بقوة في طريقة تفكيرنا وعلى ألسنتنا تقيدنا بشدة، بحيث بتنا عاجزين مجرّد صدى لأزمنة غابرة لا نرى منها سوى التعصّب والتمذهب والانغلاق، فالشيء الوحيد الذي نشترك فيه جميعاً ونتذاكى فيه - بشتى مذاهبنا وطوائفنا شرقاً وغرباً - هو التعصب.
إن اللغة الدينية تعبيرية جمالية كونية وليست محدودة إنها لغة فوق الوظيفية النصية التخاطبية والتفهيمية بل تتعداهما إلى لغة تنشيط الإبداع وإثارة الكوامن التجديدية، من هنا نريد حقاً ثماراً ثقافية وروحية وأخلاقية وإنسانية مزدهرة في بلادنا تنقلنا من حال الموات إلى طور الحياة، وذلك كلّه يحتاج إلى ثورات ثقافية خلّاقة تجدّد الدفق في عروق الجماعة وتحرّكها بشكل إيجابيّ سوي، وإلى أن نتلمّس حدود هذه اللغة ستبقى أسواق التديّن بلا ثقافة منتعشة بلا منازع.
* أكاديمي وحوزوي