في مقابلة تلفزيونية له، يقول وورن بوفيت الرأسمالي الكبير، من ولاية نبراسكا في الولايات المتّحدة الأميركية، صاحب المرتبة الثالثة في قائمة أثرياء العالم في مجلة فوربس لعام ٢٠١٩ والمرتبة الأولى عام ٢٠٠٨، يقول وقد بدا متحلّياً ببعض من حسّ الفكاهة: «بالطبع يوجد حرب طبقيّة، حرب تشنّها طبقتي، طبقة الأغنياء، ونحن نربحها». اتّخذت هذه العبارات التي يمكن وصفها، بالاستفزازية الساخرة أبعاداً على قدر عالٍ من الجدّية بعدما استثارت العديد من التعليقات السلبيّة، ثمّ ما لبثت أن شكّلت محوراً لكتاب «ثورة الأثرياء» الصادر عام ٢٠١٢، لمؤلّفَيه كارلوس تيو وخورخي إيبارا من «الجامعة الوطنية المستقلّة في المكسيك». وقد جاء ذلك وسط تلاشي الخطاب النضاليّ الطبقيّ التقليديّ، على الرغم من اشتداد التفاوت الاقتصادي الاجتماعي في مجمل الكرة الأرضية.
تحوّلات
ذاع صيتُ مفهوم الصراع الطبقيّ منذ القرن التاسع عشر، لا سيما بعد أن أصدر ماركس وإنغلز، بيانهما الشيوعي عام ١٨٤٨، حيث ركّزا وفق النظرية المادية التاريخية التي صاغها ماركس على الصراع بين من يملكون وسائل الإنتاج من جهة ومن يعملون ولا يملكون من جهة ثانية، واستطراداً بين الرأسماليين والعمّال، لكنّ التطور الاقتصادي في ما بعد ولا سيما في ظلّ النظام السائد اليوم، أدّى ويؤدّي إلى تحوّلات اجتماعية تُلحق أضراراً اقتصادية معيشيّة جسيمة بجموع بشريّة تنتمي إلى مختلف الفئات المهنية، وكذلك إلى مختلف الأماكن الجغرافية، فلم يعُد التناقض الاقتصادي الاجتماعي المباشر يقتصر على ما بين الرأسماليين والعمال وحسب، بل شمل أيضاً الطبقات الاجتماعية المتوسّطة حتّى في الدول المتقدّمة وإن بدرجات متفاوتة، وشمل الشعوب في القارات التي توجّه إليها الرأسمال انطلاقاً من مراكزه الأوروبية الغربية والأميركية الشمالية.
كان ماركس ومن بعده لينين وسائر الماركسيين عموماً قد تناولوا القضايا المتّصلة بالتفاوت الطبقي بعد ردّها إلى حركة التاريخ الإنساني بتفسّخاته الاجتماعية، وإدراجها في نظرية المادية التاريخية، وهي النظرية التي أتاحت وما تزال تتيح توقّع الأزمات التي لا بدّ أن تعصف بالنظام الرأسماليّ من وقت إلى آخر، ومن هذه الأزمات، وبشكل أساسي، ما هو على صلة بضرورة الاستزادة في الأرباح التي يجنيها الرأسمال على حساب العمل. ذلك أن الرأسمال في سعيه إلى رفع مستوى الأداء الإنتاجي ورفع قيمة مردوداته يقتطع كميات وازنة من أرباحه لتوظيفها في الميادين العلمية والتكنولوجية، حيث التقدّم المطرد فيها يؤدّي إلى مضاعفة الأرباح، لأنه يسرّع ويكثّف العملية الإنتاجية، ويضع هذا التقدّم في تصرّف تدفّقات السلع والمبادلات المادية وغير المادية، وسائل هي أيضاً أسرع وأنشط من المعمول بها. ولكنّ اعتماد الآلات والأجهزة المتطوّرة بديلاً عن الإنسان العامل، يزيد حكماً من البطالة التي تساهم في تأزيم الوضع الاقتصادي الاجتماعي، فيلجأ الرأسمال إلى حلول تتمثّل في حركة جغرافية تذهب به في مختلف الاتّجاهات، بما يؤدي إلى اتّساع أنشطته على الأرض، بدءاً من التوظيفات في المشاريع العمرانية في المدن وما يحيط بها، وصولاً إلى الأمكنة البعيدة عبر التوسّع الإمبريالي. على أنّ هذه الحلول تنتج مجالات جغرافية جديدة أو متجدّدة من سكن واقتصاد وعلاقات، ومبادلات... تتّسم جميعها بتناقضات مكانية، إذا جاز التعبير، تُضاف إلى التناقضات الطبقية الاجتماعية، تناقضات بين المباني السكنية والأحياء المدنية والضواحي والأرياف والمدن والمناطق... فضلاً عن الاختلالات في العلاقات بين الوحدات الجغرافية السكّانية والاقتصادية والانعكاسات البيئيّة المتباينة فيما بينها، وصولاً إلى التناقضات في طرق المعاش وكيفية عيش المجال الجغرافي الواحد. في مختلف الأحوال برهن النظام الرأسماليّ، أقلّه حتى الآن، أنه كان وما زال يملك القدرة على ابتكار الوسائل الآيلة إلى تنمية الرأسمال، إنما في سياق ما ينتجه من تفاوت اجتماعي طبقي خلال تطوّره الزمني، من جهة، وتفاوت اجتماعي جغرافي خلال توسّعه على مدى المجال الأرضي بكامله من جهة أخرى. الأول يساوق المادية التاريخية، والثاني يساوق المادية الجغرافية. وفي كلتيهما يستهلك الرأسمال، في تناميه المتصاعد بفضل التقدم العلمي والتقني الذي يرعاه، الزمان والمكان على السواء بتقليص الوقت والمسافة معاً على ما تمّت الإشاره إليه سابقاً.

أبعادٌ معرفيّة
لم يلاحظ القائلون بالمادية التاريخية من الماركسيين، أو بعضهم، ملامح المادية الجغرافية، إلا بعد اتّساع مفاعيل الرأسمالية على الأرض وتمظهر نتائجها الجغرافية على نحو جليّ، كان ذلك في السبعينات من القرن العشرين، عندما كانت معدّلات النمو الاقتصادي في الدول الرأسمالية المتقدّمة تشهد ارتفاعاً ملحوظاً في تلك المرحلة التي عُرفت في ما بعد باسم «الثلاثينية المجيدة» في إشارة إلى الثلاثين سنة من الازدهار التي تلت الحرب الثانية.
قبل ذلك، كان التركيز في الشروحات الماركسية يقتصر على إبراز التطوّر الزمني للعملية الاقتصادية الرأسمالية من دون التحرّي عن دور المكان فيها، وقد بدا ذلك وكأنّه على اتّساق مع قول ماركس بأن الرأسمال يدفع «بالزمان إلى إنهاء المكان»، بمعنى أن الرأسمال يطيح بالعوائق التي تقيّد حركته وتحدّ من سرعتها، عبر تقليص المسافات كما ذكرنا، بواسطة التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي يرعاه بالتوظيفات السخية التي يستثمرها فيه، وعليه، فإنّ ما يقوله ماركس يبدو وكأنه يقلل صراحة من دور المكان في تطوّر رأس المال الزمني. ووفق ذلك انشغل لينين بالتطوّر الزمني دون المكاني للرأسمالية، عندما خلُص إلى أن هذا التطور سيذهب بالرأسمالية إلى أعلى مراحلها المتمثّلة بالإمبريالية، ومن ثم لن يكون بمقدورها النجاة من السقوط، هذا إذا لم تكن قد سقطت من قبل. غير أن الأمور جرت في ما بعد على عكس ذلك، إذ انهارت دولة الاتّحاد السوفياتي التي أسّسها لينين، واستمرّت القوى الإمبريالية بفاعليتها في الولايات المتّحدة ممثّلة أعلى مراحل الرأسمالية، حتى أنه وصل إلى السلطة فيها الفريق السياسي النيوليبرالي صاحب الدعوة إلى تفلّت الرأسمال من مختلف القيود الاجتماعية والاقتصادية.
لا بدّ من الثورة على هذا النظام حتى يستردّ الإنسان إنسانيته


في مختلف الأحوال، تبيّن مع الوقت للماركسيين، لا سيما الجغرافيين منهم، أن المنهج المادي التاريخي في الماركسية لا يمكن له وحده أن يلبّي المتطلبات المعرفية لأنشطتهم السياسية على الصعيدَين النظري والتطبيقي. ثم إنه ما دام الزمان والمكان يشكّلان ثنائياً متداخلاً، لا ينفصلان، فإنّ استكمال المادية التاريخية بالمادية الجغرافية لا بدّ أن يضفي على الماركسية قيماً معرفية وأخرى نظرية تجعلها قادرة على الإحاطة بالواقع الذي يعنيها في الإطار «الزمكاني»، المركّب من الزمان والمكان على السواء. وعلى هذا الأساس بدأ الاهتمام بالجغرافيا وفق المنهج الماركسي منذ السبعينات من القرن العشرين، وذلك انطلاقاً من أن الرأسمالية تُنتج مجالات جغرافية جديدة وتجدّد مجالات أخرى، ما يتيح لها تجديد أنشطتها وتجاوز أزماتها بالتخلّص من فوائض أرباحها المتراكمة، وعليه يمكن القول إنه ما دامت للرأسمالية آفاق ومساحات جغرافية قابلة للاستثمار يبقى استمرارها مضموناً بنسب عالية. وفي هذا السياق نلاحظ اليوم أن الإمبريالية الأميركية، بعد انفتاح الاتّحاد الروسي والصين على الاقتصاد الحر، تبدي اهتماماً متزايداً على مختلف الصعد بالمجالين الصيني والأوراسي، (أقاليم الصين، سيبيريا، روسيا وما حولها من المساحات القارية)، وتتّخذ إزاءهما مواقف شبه هجومية وإن لم تكن شبه عدائية تلبية لشهيتها فيهما، مع ما لذلك من تداعيات نزاعية جيوبوليتيكية ستنحو إلى الاتّساع في المستقبل القريب، والسبب يعود إلى أن المجالّين المعنيّين، يغطّيان المساحة الجغرافية القارّية الأوسع على الكرة الأرضية والقابلة لشتّى أنواع الاستثمار.
وعليه، إذا صحّ أنّ المعطيات الجغرافية تفسح المجال بشكل من الأشكال للنظام الرأسمالي ما يتيح له المدّ بعمره، وهو ما حصل في الحقبتَين الاستعمارية والإمبريالية، فإنّ هذا النظام يكون مرشّحاً، للاستمرار افتراضياً في حال تمكّنت الرأسمالية من إطلاق حركة استعماريّة كوكبية، تنتج بها مجالات جديدة خارج الأرض. بانتظار ذلك، فإن الرأسماليّة قد لا تتوانى عن افتعال الحروب لا من أجل التوسّع والاستثمار وحسب وإنما بهدف تدمير مجالات لإعمارها في عملية إنتاج مجالات جديدة تجدّد بها نظامها. وفي هذا الإطار يستجيب الشرق الأوسط ومحيطه القريب والبعيد في العالمَين العربي والإسلامي لما يُراد له بهذا الشأن.

أبعاد أيديولوجية
يرى ماركس كسائر اليساريين الراديكاليين أن النظام الرأسمالي يضع جموع البشر في خدمة الرأسمال، بمعنى أنه يُغلّب الرأسمال على الإنسان ويدفع به إلى الاغتراب عن ذاته وإنسانيته، لذلك لا بدّ من الثورة على هذا النظام حتى يستردّ الإنسان إنسانيته، إلا أنّ ماركس في سبيل تحقيق الهدف الثوري صاغ، بخلاف الاشتراكيين الآخرين، نظرية متكاملة وصفت بالمادية التاريخية، مبنيّة على الصراع الطبقي وفق قوانين ادُّعي أنها «علمية تاريخية». والمادية هنا، أي لدى ماركس ليست مادية طبيعية أو ميكانيكية، بل مادية إنسانية بمعنى أن الإنسان هو الذي يصنع مصيره بنفسه، انطلاقاً من وعيه لذاته ووعيه للحقائق الموضوعية المحيطة به، ولا يصنعه له أحد آخر.
على أن المادية التاريخية أهملت ما للخصائص الجغرافية لهذا المكان أو ذاك من إمكانات تمنع التجانس الذي من المفترض أن تنبني عليه أممية الوعي الطبقي العابر للأقاليم والبلدان، والذاهب إلى إعلان الثورة في الدول الصناعية المتقدّمة، على ما جاء في البيان الشيوعي عام ١٨٤٨. فكان ما كان مما أصاب التوقعات الماركسية من خيبات.
في مختلف الأحوال لم يؤدِّ الصراع الطبقي، بما هو صراع اقتصادي اجتماعي عمودي (تاريخي) إلى النتيجة المتوخاة، فكان لا بدّ من رفده بصراع اقتصاديّ اجتماعيّ أفقيّ (جغرافيّ) يكون حكماً مبنيّاً على المادية الجغرافية الماركسية، ما يعني أنه في الممارسة السياسية (praxis) التي أوصى بها ماركس، لا بدّ من التنسيق بين مجموعة المتضرّرين من التناقضات الطبقيّة والمتضرّرين من التناقضات الجغرافيّة، والسير بالمجموعتَين نحو مواجهة الإمبريالية، وهي مواجهة لا بدّ أن تجري في إطار العولمة، أي أن يضطلع بهذه المواجهة إلى جانب العمال والأجراء، المتضرّرون أيضاً من مواقعهم الجغرافية ومن مستوى نوعية المجال الجغرافي المُعاش، التي يمعن الرأسمال المعولم في النيل منها في مختلف الميادين، بدءاً بالبيئة وانتهاء بالتوترات النفسية المتفشية هنا وهناك في هذه المجتمعات البشرية أو تلك.
على أن القائلين بضروة استكمال المادية التاريخية، بالمادية الجغرافية، أبقوا معالجاتهم لها على المستوى الأمبيريكي التجريبي، فلم يذهبوا إلى محاولة سنّ «قوانين جغرافية علمية» تشبه إلى هذا الحد أو ذاك «القوانين التاريخية العلمية» في المادية التاريخية، ذلك أن الجغرافيا في رأيهم هي علم الخاص المختلف والمتمايز، من مكان إلى آخر، وبالتالي فهي لا تستجيب للتجريد والتقونن العلميين. ثم إن «علمية» المادية التاريخية وقوانينها الآيلة إلى الاشتراكية، والموصوفة تجاوزاً بالعلمية من قِبل البعض من الماركسيين، تبقى علميتها افتراضية أكثر مما هي واقعية. ذلك أن مختلف التجارب والمحاولات في معالجة شؤون الاجتماع الإنساني، منذ ما قبل ماركس وحتى هذه اللحظة، تُظهر أن القوانين الخاصّة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية لم يكن بمقدورها الارتقاء إلى مستوى قوانين علوم الطبيعة في ما يُنسب إليها من صوابية معرفية وصلابة تقعيدية وقدرة متفوّقة على استشراف الحدث الطبيعي، لذلك بقيت القوانين التي أنتجتها وتنتجها العلوم الاجتماعية والإنسانية في السوسيولوجيا، الاقتصاد، التاريخ والجغرافيا... أقرب إلى الاحتمالية منها إلى الحتمية العلمية، وعليه فإنّ القوانين العلمية في هذه الحقول المعرفية ومنها المادية التاريخية، تبقى نسبية في علميتها، ولا يمكن أن تتوافر فيها الشروط الوافية التي تمكّنها من تحديد المسار الإنساني كما تروّج. والواقع أن إرادة الإنسان وحريته لا تزالان عصيّتين على التقونن العلمي الشبيه بما يجري في علوم الطبيعة.
إلى ذلك وبالنسبة إلى المادية الجغرافية، فإن ما بين الوحدات الجغرافية الاجتماعية المتضررة من الرأسمالية، من تقاطعات وتباينات فيما بينها وفي داخل كل وحدة منها، لا يزال ينال من اتساق البنية النظرية للمادية الجغرافية، ما يجعلها بحاجة إلى جهود إضافية لتمتينها.
مهما يكن، فإن الجغرافيين الماركسيين يطمحون إلى أن تقدم الثنائية التاريغرافية (التاريخية - الجغرافية) عوناً معرفياً واستراتيجياً وازناً في مناهضة الرأسمالية المعولمة.
* أستاذ جامعي