وجه رئيس الجمهورية اللبناني ميشال عون في أول أيلول (سبتمبر) الماضي، رسالة متلفزة في مناسبة الذكرى المئوية لإنشاء لبنان الكبير تمهيداً لإنطلاق الاحتفالات بهذه المناسبة. وقد تضمنت فكرتين مثيرتين للجدل، وهما أولاً التميز بين «الاحتلال العثماني» و«النفوذ الفرنسي».وثانياً: التميز بين «جبل لبنان الركيزة والقلب» و«المناطق المسلوخة» عنه.
هذه العبارات المختصرة كانت كافية لتجديد حوار تاريخي حول هوية لبنان المشتت بين العروبة والعثمانية والفينيقية.
بطاقة بريدية قديمة

ومن أبرز الردود، ما جاء في «الدفاع عن العثمانية» في حديث البروفيسور رأفت محمد رشيد الميقاتي إلى «وكالة الأنباء التركية»، رد فيه على رئيس الجمهورية مفنداً رسالته، نقداً وتشريحاً، مستنكراً «الطعن بالدولة العثمانية العليّة التي أشرقت أنوارها على القارات الثلاث، وحفظت التعددية الدينية، وأسقطها اليهود الذين بنوا على إنهيارها الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة».
معظم الحوارات التي رافقت النداء الرئاسي، وأحيانا، ما سبقه أو لحقت به هي أشبه بمبارزات كلامية، تؤكد أن مشروع «لبنان الكبير»، كما أعلنه الجنرال الفرنسي غورو لم يتلبنن بعد. بل على العكس، ما زال لبنان يتأرجح بين تكبيره بمشاريع السلطنات والخلافات والعروبات وتصغيره بالانعزاليات والمعتقلات المذهبية، مما أعادنا إلى «ذاكرات مختلفة»، قسم يحن للعثمانية، وقسم يحن للبنان الصغير.
لفهم هذه الحالة لا بد من عودة سريعة إلى التاريخ من أجل البحث الأكاديمي الجاد لمعرفة واقع السلطنة والخلافة آنذاك وظروف نشوء الدولة التركية ودول المشرق والحركات الاستقلالية، والأسباب العميقة لسقوط العثمانية وإحباط العروبة الخيالية وعجز الدعوات المشرقية ما أدى إلى «ولادة لبنان الكبير».
سأكتفي في هذه الدراسة بالتذكير بمرحلة مهمة شهدت الخروج من الحقبة العثمانية وبداية ظهور الأفكار الوطنية والقومية، وكان أبرزها نشوء حركة استقلالية في بلاد الشام في العام 1878-1877 حركة عابرة للطوائف والمناطق ولا تحتكرها المذاهب، وغالباً ما تغيَّب في السرد التاريخي ويتجاهلها بعض الكتاب والمنظرين.

حركة الاستقلال عن العثمانية
تعددت العوامل، التي ساهمت في تفتيت الكيان العثماني. فمنها ما هو داخلي، سببه النظم الاستبدادية المطبقة على الأفراد والجماعات، في أراضي السلطنة. ومنها ما هو خارجي، نتج من التنافس الدولي لوراثة «الرجل المريض».
عندما اندلعت الحرب بين روسيا والدولة العثمانية العام 1877، ساد الاضطراب مختلف أرجاء السلطنة. وعجزت الدولة العثمانية عن إجراء الإصلاح المطلوب؛ فدبّ الوهن في جسمها، منذراً بالانهيار الوشيك.
رافق هذا الوضع المضطرب للدولة العثمانية، وعي قومي متنام في بلاد الشام، حفّز أهل البلاد على التداول في ما يجب عمله، لتجنيب وطنهم المصير الأسوأ، أي الاحتلال الأجنبي.
حضنت هذا الوعي القومي حركة فكرية، تأسست العام 1877 – 1878، وأخذت تعمل انطلاقاً من بيروت، بإشراف الرئيس أحمد الصلح.
سافر منح الصلح، ابن أحمد الصلح، بصحبة أحمد عباس الأزهري، إلى الشمال السوري. وهناك زارا حلب وحمص وحماه، حيث اجتمعا ببعض الأعيان؛ كما اتصلا في اللاذقية، برؤساء العشائر العلوية. ثم توجّها إلى دمشق، ومنها إلى حوران وجبل الدروز، للغرض ذاته. وبالفعل، لبّى أكثر هؤلاء الزعماء دعوة أحمد الصلح بالقدوم إلى بيروت.
خطاب رئيس الجمهورية، يؤكّد وجود «خلافات عميقة بين اللبنانين حول ماهية الكيان اللبناني»


دامت الاجتماعات السريّة في بيروت حوالي عشرين يوماً. ثم انتقل الجميع سراً إلى دمشق.
بعد سلسلة اتصالات واجتماعات أسفر مؤتمر دمشق الذي عقد سراً، في العام 1878، عن وضع القواعد والأسس، لاستقلال البلاد الشامية. وقرر المؤتمرون اختيار الأمير عبد القادر الجزائري، أميراً على سوريا. لأنه موضع احترام وتقدير في المحافل الدولية؛ وخصوصاً لموقفه الإنساني، في أعقاب حوادث 1860.
قام الأمير عبد القادر برحلات دعائية، في مختلف أنحاء البلاد، يصحبه منح الصلح وبعض الأعيان. شملت الزيارات مناطق صيدا، وجبل عامل، وعكا، ويافا، والقدس، ونابلس، وبعلبك، وغيرها... ولاقت كل ترحيب وتأييد.
تطرّق المؤرخ محمد جابر آل صفا، إلى هذه الحركة الاستقلالية، في كتابه «تاريخ جبل عامل» قائلاً: «أول مؤتمر اشترك فيه الشيعيون، للنظر في استقلال سوريا، وفصلها عن جسم المملكة العثمانية، عقد سراً في دمشق، في نهاية الحرب العثمانية الروسية، سنة 1877... وكان يمثل جبل عامل في ذلك المؤتمر، العالم الجليل السيد محمد الأمين، من الأشراف الحسينيين، سكان شقراء – جبل عامل – والنبيل الحاج علي عسيران، رأس الأسرة العسيرانية المعروفة في صيدا، والشيخ علي الحر الجبعي، وشبيب باشا الأسعد الوائلي. وقد أقر المؤتمرون اختيار الأمير عبد القادر الجزائري، (نزيل دمشق)، أميراً على سوريا. ونقل القرار للأمير، المغفور له أحمد باشا الصلح، الذي كان يمثل مسلمي الساحل...
«وكان المفتي العاملي السيد محمد الأمين المار ذكره، متطرفاً في عروبته، مجاهداً بفكرته السياسية، يحرض العامليين على الثورة، ويراسل الأمير الجزائري في دمشق بصراحة تامة، ويكتب على غلاف رسائله: دمشق دار الإمارة – بالقلم العريض. واتصل الخبر بالوالي التركي، فنفى السيد إلى طرابلس الشام». («تاريخ جبل عامل»، محمد جابر آل صفا، ص 298 – 209).
كما أشار السيد محسن الأمين، إلى هذه الحركة الاستقلالية، في الجزء الثالث والأربعين من كتاب «أعيان الشيعة»؛ وخصوصاً أن عمه السيد محمد الأمين، حضر مؤتمر دمشق، باعتباره من أكبر زعماء عصره في البلاد الشامية، ومن ذوي الرأي النافذ فيها. جاء في الكتاب:
«... اجتمع جماعة من عظماء سوريا، منهم السيد محمد الأمين، وأحمد باشا الصلح، وغيرهما، وقرروا إنشاء دولة عربية، واختاروا لها الأمير عبد القادر الجزائري، وخابروه بذلك، واجتمعوا به. وكانت كتب السيد محمد الأمين ترد إليه، إلى دمشق، ويكتب في أعلاها: إلى دار الإمارة. فعلمت بذلك الدولة العثمانية، فكان سبب نفيه إلى طرابلس». («أعيان الشيعة»، السيد محسن الأمين، ج43، الطبعة الأولى، ص 300).
يبدو، كذلك، أن القنصليات الأجنبية في المدن الشامية، تنبهت لهذه الحركة، وتتبعتها عن كثب، وقد بعث قنصل فرنسا العام في بيروت، السيد دولابورت Delaporte رسالة إلى حكومته، نقل فيها أصداء هذه الحركة و «... وجود مؤامرة عربية، ذات شركاء لها في حلب والموصل وبغداد ومكة والمدينة، وغايتها إقامة مملكة عربية».
في أواخر 1878، عيّن مدحت باشا والياً على سوريا. ذلك ما ساهم في إشاعة أجواء، مؤداها أن «أبا الأحرار»، ما بات يعرف مدحت باشا، يسعى إلى فصل بلاد الشام عن السلطنة العثمانية، لجعلها «خديوية» يتولى هو حكمها، كما فعل محمد علي في مصر. وصل مدحت باشا إلى بيروت، في تشرين الثاني 1878، قاصداً دمشق، مركز ولاية سوريا. لكنه مكث في بيروت، لمدة خمسة عشر يوماً تقريباً، حيث اطلع على أحوال المدينة الإدارية والاجتماعية، مجتمعاً بأعيانها، وبرجالات حركة الاستقلال الشامية، أمثال أحمد الصلح وغيره... كما اجتمع لا سيما بالمطران يوسف الدبس، صديق يوسف بك كرم الحميم. و قام بدور الوسيط، بين الحركة الاستقلالية في سوريا وكرم المنفي في إيطاليا.

يوسف كرم: المشرق وطننا
بالعودة إلى التاريخ، يتبيّن لنا أن يوسف بك كرم (1823 – 1889)، كان أوّل من طرح الكونفدرالية كصيغة لاتحاد «أبناء اللغة العربية في الأقاليم السورية»، على حدّ تعبيره في الرسائل التي وجّهها إلى الأمير عبد القادر الجزائري في العام 1877، طارحاً فيها مشروعه لقيام «سلطنة عربية»، وهي أقرب إلى اتحادية دستورية. فقد استشرف كرم في هذه الرسائل، حصول اتفاقية «سايكس بيكو» التي عقدتها فرنسا وبريطانيا في 16 مايو (أيار) 1916، لاقتسام المناطق العثمانية بين الأناضول والحجاز، لأنه شاهد انحلال السلطنة العثمانية، ومساعي الدول الأوروبية لتحلّ محلها.
يقول كرم: «بينما حكومة روسيا منهمكة بالحرب الحاضرة، فإن حكومتَي فرنسا وإنكلترا قد هيّأتا الوسائل الآيلة إلى تجزئة الديار العربية…». لقد أثبت كرم حسّاً تاريخياً كبيراً بإدراكه خطورة المرحلة الانتقالية بين واقع السلطنة، وشبح الأطماع الأوروبية، وهذا بالفعل ما حصل حتى اليوم، فهو يقول: «لدى سقوط الحكومة العثمانية، يتلقّانا الأجانب بالإرث عنها، ولا يعود يستطيع الجنس العربي أن يتّحد تحت راية واحدة».
لذلك شدّد يوسف بك كرم بداية على ضرورة المحافظة على وحدة السلطنة، وإصلاحها على قاعدة حقّ العباد وحفظ القانون. أمّا إذا عجزت عن ترتيب الأمور، فيصبح من الواجب مناهضتها، وهذا في رأيه أحد الأسباب التي أدّت إلى «قلّة عدالة الحكومة العثمانية»، يقول: «لقد أهملت الشريعةَ الإسلامية السنّية، واتّخذت لها سياسةً أتعس من سائر سياسات العالم، وعمدت إلى إثارة الفتن بين شعوب الأقطار العربية، المختلفي المذاهب، فبدلاً من أن تعتني حكومتنا بتأييد الشرع الشريف والحقّ المبين، في الأقطار العربية، فإن رجالها الحاليين، ادّعوا السلطة المطلقة على كلّ شريعة، واستعبدوا المسلمين والنصارى معاً».

يُعَدّ يوسف بك كرم رائد العروبة الحضارية، وأول من طرح النظام الفدرالي على قاعدة وحدة المجتمع المتعدّد


ويستخلص كرم: «إن قلّة عدالة الحكومة العثمانية، توجب سقوطها. وهكذا أوشكت الظروف أن تلقي بجميعنا تحت ولاية حكومات أوروبا». ويواصل: «أتوسل إليه تعالى، أن يلهم حضرات علماء وأعيان الجنس العربي أجمع، ليسنّوا قانوناً سياسياً نخضع له جميعنا. وعندئذ نعلن بصوت واحد، إلى سائر الأمم المتمدّنة، بأننا نحن أيضاً أمّة واحدة متمدّنة، وقوّة واحدة مرتبطة بقانون واحد، يضمن للجميع الحقوق الأدبية، والحرية المذهبية، والاصطلاحات الطائفية، وفقاً لواجبات الدين والدنيا…».
يُعَدّ كرم بحقّ رائد العروبة الحضارية الواقعية، وأول من طرح في العالم العربي النظام الفدرالي كصيغة دستورية لاتحاد المشرق على قاعدة وحدة المجتمع المتعدّد دينياً مع احترام القانون وحقوق الإنسان. وللدلالة على اتساع أفقه، نذكّر بما قاله حرفياً: «.. فخير لنا إذاً نحن الشرقيّين أن يكون لنا المشرق بأسره وطناً لكلٍّ منّا، من أن تكون لنا أوطان عديدة مهانة على قدر صغرها وانقساماتها….».

صراع الهويات
إضافة الى تأييد كرم للحركة الاستقلالية وانتشارها، عرفت بيروت في الفترة بين حزيران (يونيو) وتموز (يوليو)، من العام 1880، توزيع المناشير التي تدعو إلى الثورة والاستقلال. فوجهت السلطات أصابع الاتهام إلى جمعية سرية، اعتبر مدحت باشا أحد أعضائها السريين. كما اتهمت «جمعية المقاصد الخيرية»، التي تأسست برعاية مدحت باشا، بأنها وراء نشر أفكار الثورة والاستقلال... نجح مدحت باشا إذاً، بالتقرب من جماعة الحركة الاستقلالية، والجمعيات العلمية والأدبية الأخرى. فكان طبيعياً أن تثار ظنون استانبول وشكوكها. كذلك، نقل مدحت باشا من ولاية الشام إلى إزميير. ثم حكم عليه بالنفي، واغتيل بأمر من السلطان في العام 1883. (راجع «سطور من الرسالة»، عادل الصلح، ص 129–143).
شتّت الاستبداد الحميدي رجالات حركة الاستقلال؛ فلم يكتب للحركة النجاح. لكنها استطاعت أن تعبّر عن حالة عامة، تقاطعت فيها تطلعات الوجهاء من مختلف الطوائف والمناطق،.. مثلما توافقت أهداف الحركة، مع الجمعيات والحركات الإصلاحية والأدبية والعلمية التي تأسست في بيروت، وبلورت أفكارها ودعواتها. فضلاً عن توافقها، مع ما تضمنته رسائل يوسف بك كرم ومواقفه حول الإصلاح والاستقلال والوحدة.
يجدر أيضاً، أن يُذكر اشتراك العديد من العثمانيين الإصلاحيين الليبراليين، داخل هذه الجمعيات، من مثل فؤاد باشا وكامل باشا... كما لا بد من التذكير، بمشاركة وجهاء جبل عامل الشيعة، وأعيان بيروت السنة، ومشاركة نخبة من رجال الفكر والأدب، من مختلف الطوائف؛ إضافة إلى زعماء من الدروز والنصيريين. هكذا سادت حالة وطنية عامة، حضنت هذه الحركة الأهلية، التي تألّب حولها رجال، من طوائف وأديان ومدن ومناطق مختلفة. مما يناقض ما ذهب إليه الدكتور زين زين، حين يقول: «الحركة المناوئة للأتراك في لبنان، في القرن التاسع عشر، كانت بوجه الإجمال، مارونية لبنانية، ولا يمكن اعتبارها ثورة عربية وطنية، في الشرق العربي، ضد الحكم التركي». («نشوء القومية العربية»، الدكتور زين نور الدين زين، ص 47).
هذه الحركة تواطأت عليها السلطة العثمانية و الدول الأوروبية، فضلاً عن الظرف الذاتي المنقوص الوعي والإرادة والتنظيم، ما أدى إلى الإرباك والفوضى وضياع الفرص التاريخية. وتخبرنا تلك المرحلة كيف انتهى «الاحتلال العثماني» وكيف تمدد «النفوذ الأوروبي»، وكيف ولد «لبنان الكبير»، ولماذا نحن هكذا حتى الآن؟
كما تبرز بالوقائع وجود تيارات متناقضة داخل الطوائف حول مفاهيم الهويات المتصارعة، مما يفضح التنظيرات التي حاولت أن تبسط المفاهيم والمواقف المتداولة وتصور لكل طائفة رأي موحد، محصور بالطوائفية، وكأن المذاهب كتل تاريخية مقفلة عبر التاريخ، متجاهلة التناقضات والخلافات والتباينات المناطقية والسياسية والطبقية في داخلها.
هذا السجال حول العثمانية والعروبة والمشرقية ولبنان الكبير الذي بدأ مع ولادة حركة استقلالية أهلية العام 1877 وتجدد اليوم مع نداء رئيس الجمهورية، أكد وجود «خلافات عميقة بين اللبنانين حول ماهية الكيان اللبناني»، ما يتطلب حواراً عميقاً من أجل توحيد هوية لبنان وتجديد معناه ودوره، حتى يُطلق حركة استقلالية أهلية جديدة تستلهم الماضي و تتجاوز إخفاقاته.
* كاتب وناشر لبناني