بعد مسلسل التفجيرات في الضاحية والهرمل وطرابلس وبيروت، وبعد تهديد التكفيريين بإعلان دولة لبنان الإسلامية وعاصمتها طرابلس. والأهم من هذا كله، بعد التنديد المباشر بتيار المستقبل وعائلة الحريري بالاسم، صرّح سعد الحريري «في ردّ واضح وصريح على بيان أصدرته «جبهة النصرة في لبنان» ودعت فيه أبناء السنّة إلى تجنّب السكن والوجود في المناطق الخاضعة لسيطرة «حزب الله»، «أن اللبنانيين وأبناء الطائفة السنية منهم، يرفضون أن يكونوا جزءاً من أي حرب في لبنان أو المنطقة بين حزب الله والقاعدة، كما يرفضون أن يصبح المدنيون في أي منطقة من لبنان هدفاً لهذه الحرب المجنونة وتداعياتها الخطيرة على الوحدة الوطنية والإسلامية». («المستقبل»، 26 كانون الثاني 2014، العدد 4930).
صحيفة «المستقبل»، التي نشرت الخبر السابق، نسيت تماماً _ لكثرة ما تنشر _ أنها كانت أول من حرّض على عملية الفصل السكاني بين اللبنانيين بطريقة عنصرية. وهي أول من دعا الى ذلك علناً وهلّل له في مقال نشر على صفحاتها قبل عام كامل، في 10 كانون الثاني 2013 ، بقلم خديجة العمري. ظلّ المقال معلقاً على صفحتها الإلكترونية الأولى لأسابيع عدة، باعتباره المقال الأكثر جدارة بالقراءة والاهتمام. حمل المقال عنواناً عدوانياً زقاقياً، مجرداً من الاعتبارات الأخلاقية: «وداعاً الضاحية، لا مأسوفاً عليك»، جاء فيه: «لن أسامح نفسي لأني وقفت يوماً ضد عائلة أمي «البيارتة» الذين كانوا يتحفظون على زيارتنا لأننا نعيش في «مربع أمني» مع ناس «ما بيتعاشروا»، و«اليوم نغادر (الضاحية) ولن ننظر الى الوراء»، «وداعاً الضاحية، لا مأسوفاً عليك».
و«المستقبل» تنسى أيضاً أنّها أول من روّج علناً لفكرة «الجيش السني»، في العدد 4673، يوم 27 نيسان 2013. وهي بذلك تسجّل باسمها براءة اختراع طائفية، باعتبارها أول صحيفة عربية، لحزب سياسي تقلد السلطة غير مرة، ينشر أفكاراً مزودة بالصور التوضيحية، تنادي بشعار: «الدفاع عن سنّيتنا».
تعبير «النصيرية» و«الاحتلال النصيري»، ذو النبرة العرقية التكفيرية، ظهر الى العلن، في الإعلام «غير التكفيري»، على صفحات جريدة «المستقبل» منذ وقت مبكر. في 20 أيلول، 2913، العدد 4811، نشرت «المستقبل» هذا الخبر، تحت عنوان كبير يقول: «... تفجير عبوة يقتل 14 علوياً في محافظة حمص». عبوات «المستقبل» الذكية تجيد تمييز العلويين من غيرهم!
وهي أيضاً أول من شكّك في وطنية الجيش اللبناني، ونعتته بـ«شاهد زور»، بلسان سعد الحريري نفسه. ومن على صفحات «المستقبل»، في 27 تشرين الأول 2013، العدد 4846 «يرفع الحريري الصوت عالياً» ويقول: «إمّا الحسم أو تكون الدولة شريكة في الحرب على طرابلس».
السبت 19 تشرين الأول 2013، بدلاً من إعلان الارتياح بعودة مخطوفي أعزاز، تنشر الصحيفة خبرها الرئيسي، بحروف كبيرة جداً: «الحريري: نعرف من اغتال الحسن وسيدفع الثمن»، وتحته بخط أصغر: «انتهاء محنة مخطوفي أعزاز وعودتهم الى لبنان خلال 48 ساعة». ما علاقة هذا بذاك؟ فطنت «المستقبل» لهذا الخلل الدعائي، فعادت في العدد 4839 إلى تفسير خبرها العجيب بإسهاب مملّ، خال من المعنى. لكن اللواء أشرف ريفي آثر أن يفسّر الخبر بوضوح تام و«بالحركات»، قائلاً: «لقد انطلق قطار العدالة، وسينال المجرمون عقابهم، كائناً من كانوا، ومهما علا شأنُهُم. نعم مهما علا شأنُهُم، ومن لم يَجرُفِ النهرُ جُثَّتهُ إلينا، سنراه خلف القضبان».
في 17 كانون الثاني 2014، وضعت «المستقبل» خبر التفجير الانتحاري الأول في الهرمل تحت عنوان: «إرهاب بقاعي»! بهذا تصبح منطقة البقاع المفجوعة بقتلاها «إرهابية» في نظر محرري صحيفة «المستقبل». وهذا أغرب وأشنع أنواع التبشير والإعلام السياسي، سواء كان سهواً (لم يصحح!) أو متعمداً.
في 31 كانون الثاني، جدّد خالد الضاهر، النائب في تيار المستقبل، ما بدأه سعد الحريري ونادى بتخوين الدولة اللبنانية: «الدولة انحدرت إلى منزلق خطير يهدد الكيان اللبناني بأكمله» («المستقبل» 1 شباط 2014).
مسؤول «جمعية حقوق طرابلس»، محمد بيروتي، يحرّض الطرابلسيين على ميقاتي قائلاً: «يفترض أن يقف الى جانب أهل طرابلس ويعمل على تفكيك الألغام الموضوعة في كل الأحياء بدلاً من أن يغادر الى لندن لقضاء إجازته»، في وقت تتردد فيه أخبار عن احتمال استهداف ميقاتي بعمل إرهابي.
علي الحجيري يطالب بفك أسر عرسال من قبضة حزب الله. كل هذا الخطاب حدث في جلسة واحدة، لم يمض على انعقادها سوى عشرين ساعة حتى سمع اللبنانيون أصوات تفجير الهرمل الثاني.
بدأت افتتاحية «المستقبل» ليوم السبت 17 آب 2013، العدد 4777، الخاصة بتفجير «بئر العبد» بالعبارة المبصرة، الخلابة، الآتية: «هو عدوان إرهابي أعمى». لكنها، بعد سطر واحد فحسب، انتهت الى خلاصة عمياء اسمها إعلان الحرب على «حزب الله الإيراني». إن خلط التعزية بالشماتة ضرب من المزاج الانفعالي الساديّ المركّب.
وهي أيضاً وأيضاً أول من جعل طرابلس خط الصدام الأول لمن يخوضون معركة استرداد الحقوق في مواجهة «الظلم» اللبناني، حينما عقدت قوى «14 آذار» مؤتمر «إعلان طرابلس» بمشاركة 200 شخصية سياسية ونيابية ونقابية، أعلن فيه فؤاد السنيورة أنّ «الفيحاء تخوض معركة لبنان في مواجهة الظلم» («المستقبل»، الاثنين 16 كانون الأول 2013، العدد 4893، شؤون لبنانية، الصفحة 2). هذا الخبر أنقله هنا، لأنه تكرر على لسان مقدمة برنامج ترفيهي، تستضيف فناناً من طرابلس، وتقدمه باعتباره ابن الفيحاء التي تمثل كل لبنان في مواجهة الظلم، من دون أن تعي أنها تستعير رموز السياسيين الثأرية وإشاراتهم.
فضائية «المستقبل»، هي القناة العربية الوحيدة، التي أصرّت على التبشير بسقوط قتيل في تفجير «بئر العبد». استمرت القناة في تأكيد الخبر لساعات عدة، على الرغم من نفي المصادر الأمنية والطبية ذلك. كيف نفسر هذا الإصرار النفسي والعقلي الشاذ، الرامي الى مساعدة المجرمين خبرياً، عن طريق تزويد الفاجعة بمزيد من الضحايا المتخيلين، وتغذيتها بالأماني الإجرامية، العصابية؟ على القناة نفسها، تمكن المعلق نديم قطيش من صياغة محاججة عقلية وأخلاقية جيدة على ضوء الحدث، مرّ فيها سريعاً على أمنية وجود قتيل، ناسباً إياها الى كتّاب الإنترنت! (شحنوا من قبل قناة «المستقبل»). لكنه أفلت المقود، كالعادة، في نهاية تعليقه، حينما نسي الضحايا والمجرمين والإرهاب وموضوع الحلقة، وحوّل لحظة الجريمة البشعة الى طقس إدانة للمفجوعين لصالح مروان شربل، غير المرحب به في موقع التفجير.
«المستقبل» يوم 23 آب 2013، تصدر بعنوان رئيسي تنبّؤي، بالأحرف الكبيرة، يتصدر العدد 4783: «حزب الله يتوعد بيئة 14 آذار مجدداً». بعد بضع ساعات فحسب من صدور العدد، تحققت معجزة انفجارَي طرابلس!
هذه عيّنات وجيزة من خطاب إعلامي متكامل، يرسم صورة مختصرة للوعي السياسي الرامي إلى تحميل المجتمع وزر اعتناق رسائله القاتلة، ووزر إعادة إرسالها فردياً وجماعياً، بوعي أو من دون وعي.
الهجوم المنظّم على الجيش، الهجوم على الدولة، الهجوم الصريح على مكونات دينية وعرقية محددة، الهجوم على ثوابت العلاقات التاريخية بين الكتل الاجتماعية، الهجوم على مناطق منتخبة في الوطن واستباحة دمها، صناعة مناخ استنفاري واستفزازي ملغّم بالاحتمالات. كيف يفهم مناصرو تيار المستقبل هذا التبشير الغرائزي؟ وما أثره على وعيهم وسلوكهم؟
ولماذا إذاً يعارض سعد الحريري نداء «جبهة النصرة في لبنان» الداعي الى الفصل العنصري، وتكوين الجيش السني، وخوض معركة لبنان في مواجهة «الجيش الصليبي»، وإعلان طرابلس عاصمة لإمارتها الإسلامية، وأخيراً مقاتلة حزب الله باعتباره الهدف الأعلى والأسمى للحراك الوطني «السلمي»؟

إرباك سبل وعي الحقيقة

إن إرباك عملية الوصول الى الحقيقة غاية مدركة، أو غير مدركة، تسيطر على أهداف الإعلام التجاري والتشهيري والإعلام الترويجي المفرغ من المضامين التربوية الجامعة. بيد أن إرباك العقل وظيفة أساسية وتقليدية أيضاً في منظومة الخطاب السياسي التنافسي، القائم على قواعد ثأرية وكيدية. يهدف هذا الإرباك دائماً الى وضع غلالة سوداء على أعين المواطنين، كي لا يمنحهم فرصة لإيجاد مشتركات عامة تخرجهم من شرنقة الانغلاق السياسي، وأهدافه المباشرة. إن الحقيقة دائماً هي الضحية الأولى في حروب التكفير والتخوين والشحن العاطفي السلبي. بعد سلسلة التفجيرات الارهابية المعلنة سلفاً، التي ضربت غير بقعة لبنانية من دون تمييز، أصبح الجميع _ من يعترف بهذا ومن لا يعترف _ يعرف أنّه ليس مواطنو الضاحية أو البقاع وحدهم الضحايا. إن الاعتدال، باعتباره القاسم الوطني المشترك، وباعتباره الحل الآني المطلوب مرحلياً، هو الضحية الأولى. الاعتدال هو الهدف. والاعتدال ليس مفهوماً نظرياً خالصاً، وليس تعبيراً سلوكياً مثالياً محضاً. إنه تعبير مادي خالص أيضاً، ذو بعد وجودي واجتماعي عميق. إن «المواطن» المحايد والبريء _ وليس فكرة المواطنة فحسب _ هو رمز ومضمون وغاية الاعتدال الوطني، لأنه القاسم الجماعي المشترك. لم يكن سعد الحريري _ مواطناً وسياسياً وحاكماً _ هدفاً للتكفيريين يوماً ما على الإطلاق. فجأة، بطرفة عين، أضحى مدرجاً في قائمة أعداء «النصرة»، حالما نطق بكلمة الاعتدال. ثم تلاه ميقاتي فوراً حاصلاً على لقب ضحية محتملة. لماذا؟ الجميع يعرفون لماذا، وأولهم الحريري. الاعتدال هو الهدف. والدليل على ذلك دم الشهيد محمد شطح، وجه الاعتدال الأبرز في تيار المستقبل. وربما لهذا السبب، قفزت الى ذهن كاتب افتتاحية المستقبل يوم الثاني من شباط 2014، بعد يوم من تفجير الهرمل، كلمة اعتدال باعتبارها المطلب الوطني المنقذ، ولكن الجامع لكل الشروط التعجيزية السابقة واللاحقة: «ان هذا الاعتدال، ومهما كانت خطيئة حزب الله في سوريا لن يقبل أبداً منطق أنها «ردّة فعل» (أي أن تفجيرات التكفيريين لم تكن بسبب تدخل حزب الله في سوريا، كما أصر تيار المستقبل طوال الأشهر الماضية). إنه اعتدال بحجم وطن». أخيراً، نرى هنا، بفضل التكفيريين، كيف تم الاعتراف بالاعتدال كضرورة. لكن هذا الاعتدال لم يزل مشحوناً بألغام مرحلة ما قبل الاعتدال، التي صنعت التكفيريين. وهذا يعني أن الخطاب التحريضي لم يزل أسيراً في دائرة الانتقام المغلقة!
لقد وُجِد التكفيريون باعتبارهم قوة ضغط، تتحرك لغرض واضح ومحدد: تغيير معادلات آنيّة مستحقة، تتمحور حول حدود الاعتدال. في مصر الإخوانية، اختفى الإرهاب التكفيري تحت جناح الإخوان طوال فترة حكم مرسي. لكنه خرج من قمقمه سافراً، مسلحاً بالإرهاب الدموي فور سقوط سلطة الإخوان. وبصرف النظر عن شرعية صعود الجيش أو عدم شرعيته، إلا أن الإرهاب أضحى فوراً الزعيم القائد، الرامي الى تغيير معادلة الاعتدال. في سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس، تجرى المعادلة نفسها، ولكن بمناسيب وجرعات وأشكال مختلفة.

تفخيخ الإعلام

في ظل بيئة نفسية واجتماعية حاضنة، يغدو الخطأ الإعلامي السياسي أمراً ممكناً، وربما مشروعاً في نظر الجميع. لذلك سهل على الجهاز العسكري الإسرائيلي أمر إيجاد لسان وعين وإرادة محلية تنطق باسمه، حينما جعل صحافية لبنانية من المؤسسة اللبنانية للإرسال، وقناة إعلامية لبنانية «واعية» و«وازنة» تقع في الفخ وتذهب الى نقل خطاب «حربي»، من قاعدة جوية للعدو، تخترق طائراتها سماء الوطن كل يوم. هل هذا خطأ إعلامي أم خطأ في أشكال فهم مضامين المواطنة وسبل التعبير عنها؟ هل هو خطأ في المواطن أم أنه خلل في أشكال تأويل صلة المواطن الحقوقية والعاطفية بوطنه؟ لماذا تستطيع إسرائيل نصب الفخاخ وصيد الأبرياء «الواعين» بهذه السهولة، التي لا تنطلي على عقول أكثر المواطنين جهلاً وأمية؟ هنا يوجد خطأ مؤكد في الواقع الثقافي والقانوني والسياسي يسوّغ هذا السلوك ويجيزه.
أخطاء الممارسة والتجريب في أجواء الإعلام «الفتيشي الاستنساخي الإشهاري» ربما توقع أنزه وأمهر المبدعين في فخاخها. هذا ما حدث لبرنامج «تحت طائلة المسؤولية»، الذي استخدم هذا الاتحاد الثلاثي القاتل، عند طرح قضية الفساد في الجمارك. في ظل مناخ الإثارة الإعلامية قد يقع أكثر البرامج اللبنانية تميّزاً واجتهاداً وإخلاصاً للحقيقة تحت طائلة ارتباك المضمون الأصيل وتشوشه، بسبب فخاخ الشكل المستعار.
إن من يفصل رسالة الإعلام المهنية والتربوية عن واجباتها الوطنية، إنما يعلن الانفصال السافر عن الوطن، ويؤكد انتماءه الى وطن آخر، وطن الحزب الضيق الأهداف، أو المنطقة، أو الطائفة، أو المصالح الشخصية والفئوية الأنانية.
إن المجتمع اللبناني لا يعاني من انكشاف أمني فحسب، بل يعاني من انكشاف أخلاقي وقيمي أيضاً، يضرب بعمق قلب البناء الروحي المؤسس للهوية الوطنية الجامعة. وبذلك يكون الانكشاف الأمني الحلقة المفقودة في سلسلة حماية المجتمع وتحصينه. إن ما يحدث في لبنان سياسياً وأمنياً وإعلامياً، من حيث الجوهر، هو نسخة مطابقة لما يحدث في العراق، ولكن بأشكال وأصباغ مختلفة.
* ناقد وروائي عراقي