في معرض ردّه على سؤال: «كيف يمكن بناء دولة مدنيّة بوجود حزب الله؟»، أورد الوزير السابق شربل نحّاس عبارات ولّدت ردود فعل مستنكرة، وسنحاول في هذه المقالة استعراض ما صدر عنه، وتحليله في إطاره المحدّد.النقطة الأولى التي استهجنها الكثيرون هي ذكر شربل نحاس أنّ أناس المقاومة في الجنوب رموا الأرزّ على جيش الاحتلال. فقال «كيف نشأ حزب الله؟ مَن هم هؤلاء الناس [في حزب الله]؟ بشكل أساس، هم سكّان في الجنوب قامت عائلاتهم عام ١٩٨٢ برمي الأرزّ على الجيش الإسرائيليّ...» (أسمع الكلام هنا).
من حيث الواقع، هناك تقارير وصور عن قيام أناس في الجنوب اللبنانيّ برمي الأرزّ على جيش الاحتلال ترحيباً، بغضّ النظر عن الأسباب. بالطبع تعليق نحّاس فيه خطأ التعميم، خطأه يكمن في أنّ كلامه يشمل جميع الأهالي؛ وهو أمرٌ ليس في مقدور أيّ كان التحقّق منه، بل يمكن القول إنّه غير معقول. لكن لماذا يورد نحّاس أمراً لا يمكن التحقّق منه وغير معقول؟ إنّ سياق الحديث لا يدلّ إلى أنّه كان يورد تلك الكلمات في سياق الذمّ بأحد أو بمجموعة؛ الكلمات تلك أتت في سياق تحليل نحّاس لواقع المجتمع اللبنانيّ، وكيف نشأ حزب الله من واقع معقّد يجمع بين الترحيب بالاحتلال، وبين أحزاب يسارية انتسب بعض نخبها لاحقاً إلى الحزب، ونشوء حزب الله من حلقات صغيرة إلى القوّة التي هو عليها اليوم، والتي يشيد بها نحاس ويشرح أسبابها (دعم إيران، العقيدة الدينيّة) ليصل أخيراً إلى انتصار المقاومة على الاحتلال. الخطأ أتى في هذا السياق، وبرأيي هو خطأ ناتج عن محاولة ضغط تاريخ طويل في ثوانٍ لشرح فكرة تطوّر نشوء حزب وليس لإهانة أحد، فقد أشاد نحّاس بإنجازات المقاومة واعتبرها أكبر ممّا قامت به جميع الجيوش العربيّة مجتمعة، وهي كذلك. وهذا واضح في الثواني التالية في الفيديو التي تتبع فوراً ذكره لـ «رمي الأرزّ» (اسمع الكلام هنا).
النقطة الثانية هي ذكره الثياب التي يرتديها الإنسان (النساء خاصّة) والتي تدلّ إلى الخلفية الدينية للشخص، وقوله إنّه «علينا إنقاذهم». هنا أيضاً يجب أن نرى سياق الكلام. يشدّد نحّاس خلال كلّ أحاديثه وضمنها هذا الحديث، على أنّه يجب أن نتوقّف عن النظر إلى الناس على أنّهم طوائف، وأنّنا يجب أن نبني دولة حقيقيّة تنظر إلى الناس على أنّهم لبنانيّون ولبنانيّات في دولة، ويدعو الناس إلى التفكير بكيفيّة تطوّر المجتمع ليعرفوا كيف يتعاملون مع الواقع على حقيقته لا على أساس الهوامات الجماعيّة والبروباغندا الإعلاميّة التي تدعو إلى الخوف من الآخر أو احتقار الآخر (وهذا المعنى مذكور هنا). وفي هذا السياق يتابع بعد ثوانٍ حرفيّاً «[لقد] أنجزوا [أعضاء حزب الله] ما لم تنجزه كلّ منظومة الجيوش العربيّة. هؤلاء لبنانيّون ولبنانيّات. إذا ذكّرونا دائماً بما يرتدونه وبشكلهم [الخارجيّ] أنّهم شيعة، فهذه مشكلة [أي تحدٍّ] بالنسبة لنا، كيف يمكننا أن نحلّها [المشكلة] لهم، نحن نريد أن ننقذهم من الأَسر الذي هم فيه» (وهذا مذكور هنا).
كيف يمكن أن نفهم هذا الكلام «التحدّي لنا هو كيف ننقذهم من الأَسر الذي هم فيه»؟ بالنسبة إلى امرأة ترتدي لباساً دينيّاً معيّناً وتسمع هذه الجملة مقطوعة من سياقها، تسمع إنساناً يقول إنّه يريد أن «ينقذها» من «وضعها»، فهذا يشكّل إهانة لأنّها ستستشفّ منه فوقيّة وذكوريّة. فلا شكّ أنّها سمعَتْ كلاماً مشابهاً من ذكور عديدين بل ونسويّين غربيّين ومتغرّبين. لكن هل هذا ما عناه نحّاس؟ لا أحد منّا داخل فكر الرجل، كما أنّنا لسنا مُجبرين على أن نكتفي بما يقوله عن نفسه، إذ يحقّ لنا جميعاً أن نحلّل معنى ما قاله وأن نقبل أو لا نقبل موقفه العلنيّ.
برأيي، لا يمكن أن نفهم كلامه إلّا في سياق حديثه، وخاصة ما شدّد عليه خلال حديثه (وأحاديث سابقة له) من أنّ الناس في الجنوب هم لبنانيّون ولبنانيّات أساساً، ولا يجب التعامل معهم على أساس طائفيّ ضيّق. فإنّ كان تاريخ التمزيق الطائفيّ للبنان الذي شارك فيه جميع الذين في الحكم [وضمنهم حزب الله الذي بحكم طبيعته لا يمكنه أن يتجاوز كونه من طائفة محدّدة حصراً]، قد أدّى إلى عزل اللبنانيّين واللبنانيّات المنتمين رسمياً للطائفة الشيعيّة ضمن رؤية طائفيّة ضيّقة، رؤية تنظر إليهم بشكل تبسيطيّ مشوّه على أنّهم مجرّد «شيعة» (وهذا واضح في [قلّة أدب] أدبيّات الذين يتحالف معهم حزب الله في الانتخابات النقابيّة وربّما أيضاً الطلّابيّة والنيابيّة، ثمّ يجلس معهم في الحكم ويدافع عنهم اليوم!).
واقعيّاً، معظم أهل الجنوب هم من الطائفة الشيعية، ويشعرون أنّهم مستهدَفون، ورغم أنّه لا يهمّ هنا إن كانوا محقّين أم لا بشعورهم، فالواقع يدلّ على أنّ المقاومة كانت وما تزال مستهدفة (عام 2006 مثلاً)، وأنّ هناك تماهٍ بين المقاومة اليوم وبين سكّان الجنوب. من الناحية الواقعيّة التي يجب أن نتحلّى بها من دون أن نخسر قدرتنا على التفكير بواقع أفضل، هناك شعور، لا يساهم الإعلام وحده بصنعه، لدى مئات آلاف اللبنانيّين واللبنانيّات من الطائفة الشيعيّة، بحكم النظام الطائفيّ العفن نفسه (الذي يدافع اليوم عنه جميع من في الحكم)، والعداء الغربي والعربيّ لفكرة المقاومة، غدوا مأسورين بزاوية واحدة من حياتهم ألا وهي أنّهم «شيعة»، وكأنّ الكلمة تعني شيئاً إن نظرت إلى وجه إنسان! الواقع أنّ كلمات «شيعة»، «موارنة»، «سنّة»، «دروز»، «أرثوذكس»... إلخ. تخفي وتشوّه الواقع أكثر ممّا توضحه. أضع كلمة «شيعة» بين قوسين لأنّها في ذهن الكثيرين تعني شيئاً متخيّلاً هو غير واقع الإنسان، اللبنانيّ، الذي من الطائفة الشيعيّة، ومن الجنوب، والذي يعمل بمهنة محدّدة، وله آمال معيّنة إلخ. وأيضاً يدعم حزب الله بفعل قناعة، أو بفعل غياب البديل للدفاع عن نفسه.
هناك حقيقة وواقع أنّ مئات آلاف اللبنانيّين واللبنانيّات مأسورون في تعريف كلمة واحدة هي «شيعة». هذا هو الأسر الذي أعتقد أنّ نحّاس يقصده، إذا سمعنا وقرأنا كلّ ما يقوله، والسياق الذي أتى فيه كلامه. أنا أفهم كلام نحّاس كالتالي: من منطلق الدولة، إنّ أسر أهل الجنوب الشيعة بشيعيّتهم هو أمر سببه اللبنانيّون: حزب الله بحكم واقعه الطائفيّ، وخصومه السياسيّون، وأعداء كلّ فكرة المقاومة. ولكنّه أمر مرفوض ولا ينمّ عن فهم للواقع، يجب فهم واقع لماذا تنظّم أفراد لبنانيون ولبنانيّات في حزب من طائفة واحدة، لكي نصل إلى ابتكار طريقة حُكم، ودولة، تفكّهم من هذا الأسر في المستقبل. وتجدر الإشارة إلى أنّ نحّاس ينتقل، من دون أن ينتبه، من القول بأنّ هذه «مشكلتنا» للقول إنّها أيضاً «مشكلة لهم» لأنّه يقترح أن «نحلّها لهم». إذاً، هو يشعر بأنّ المشكلة عامّة، أي مشكلة للبلاد بأجمعها؛ وهي كذلك.
إذن، منطق الكلام وسياقه ليس فيه قصد إهانة للنساء اللواتي يرتدين ثياباً محدّدة بناء على قناعة دينيّة ما، لأنّ ليس هذا هو معنى الكلمات التي قالها نحّاس في سياق محدّد. ولكن لا بدّ لنساء ورجالٍ من أن يشعرن ويشعروا بالانزعاج والغضب من مجرّد ذكر الثياب، بسبب تاريخ طويل من التمييز ضدّهم في لبنان وخارجه؛ ولأنّه عادة ما تحمل الإشارة إلى الثياب حكماً قيميّاً حول إنسان من طريقة لباسه، ولكن هذا ليس موقف نحّاس المعروف بقناعاته الواضحة المتجسّدة في مواقفه الوطنيّة العابرة للطوائف. لكن ألا يوجد خطأ في تحليل نحاس رغم ما نقوله ونشرحه؟ بلى يوجد. يوجد خطآن في التفكير، ولا يهمّنا أن نعذرهما لأنّهما يجب أن يُشرحا من أجل حركة نحّاس ومقاصده، أي من أجلنا جميعاً كمواطنين ومواطنات.
الخطأ الأوّل هو أنّه كما أنّ هناك مئات الآلاف من الناس مأسورة في تعريفها الحصريّ الطائفيّ كـ«شيعة»، فهناك مئات الآلاف من الناس مأسورة في تعريفها كـ«سنّة»، و«موارنة»، و«دروز»، و«أرثوذكس»، و«مسلمين» و«مسيحيّين». الأسر نفسه ينطبق على جماعات واسعة من الطوائف جميعاً.
ومن هذا الخطأ الأوّل ينبع الخطأ، أو عدم الوضوح، الذي بدا في كلامه عن «نحن» و«هم» فمن هم هؤلاء الـ«نحن»؟ من سياق الحديث أنّهم غير الشيعة الملتزمين بحزب الله. لكنّ تحرير مئات الآلاف من «أسرهم»، أي من التعريف بهم والنظر إليهم والتعامل معهم من خلال طائفتهم حصراً، هو عمليّة يحتاج لها الجميع وليس «الشيعة» حصراً، أو هؤلاء الملتزمين بحزب الله حصراً؛ وبالتالي فإنّ تعبير «نريد أن ننقذهم من الأسر الذي هم فيه» يجب أن ينطبق على الجميع، فالـ«هم» يجب أن تعني كلّ من هو أسَرَ نفسه، ورضخ لأسْرِ غيره لَه في طائفة، والـ«نحن» هم هؤلاء المواطنون والمواطنات من سنّة وشيعة ومسيحيّين ودروز إلخ... الذين يعون أنّ الحلّ الحقيقي، للحياة في وطن حقيقيّ، هو في التحرّر معاً من هذا الواقع من خلال بناء دولة لمواطنين ومواطنات في دولة.
التحرّر يحتاج له الجميع، ويقوم به الجميع، بالتعاون معاً، وبالعمل لقيام نظام جديد لا طائفيّ، أي من خلال الدولة المدنيّة التي تعامل كلّ إنسان ليس من زاوية طائفته بل على أساس أنّه مواطن أو مواطنة له حقوق وواجبات متساوية؛ دولة قويّة معادية لإسرائيل ولكلّ من يسعى لضرب مجتمعنا؛ دولة يمكنها أن تبتكر أسلوب مقاومة يحفظ ضمن الدولة مكاسب وخبرة وأساليب مقاومة حقّقها لبنانيّون ولبنانيّات بدحرهم إسرائيل، أسلوباً قد يشبه ما تقوم به سويسرا التي ذكّرنا نحّاس أنّها لا تنأى بنفسها عن الدفاع عن نفسها بل تدرّب كلّ إنسان فيها بشكل مستمرّ لتكوّن شعباً مقاوماً لأيّ عدوّ غاز.
أخطأ نحّاس في التحليل والتعبير، نعم. ولكن لا يَرمي الإنسانُ رؤيةً وخطّةً سليمتين، أو قياديّاً، بسبب خطأ في تحليلٍ أو تعبير. الإنسان يُصحّح ما هو جيّد، وكلّ أحزاب لبنان (ومنها «حزب الله») «وقعت» إمّا في أخطاء وإمّا في جرائم، وهي منسجمة في حماية نظام الفساد القاتل القائم، على عكس نحّاس.
الخطأ في التفكير والتعبير يحصل عند كلّ القيادات السياسيّة ولكنّ تاريخ تلك القيادات هو الذي يجعلنا نميّز بين خطأ كلاميّ نتج عن سوء تعبير وخطأ كلاميّ نتج عن سياسات مبطّنة. الخطأ موجود عند الجميع، لكنّ الحلّ لبناء دولة حقيقيّة ليس عند الجميع، الحلّ حاليّاً قائم بالضبط فيما تقترحه حركة «مواطنات ومواطنون في دولة»، بلسان شربل نحّاس؛ إنّه اقتراح واقعيّ، وجامع ولا يهمّش أحداً، لا طائفة ولا خبرة ولا قوّة عنفيّة أو لاعنفيّة يمتلكها شعبنا.
إنّ الرؤية والخطّة الملموستين الواقعيّتين المشروحتين بوضوح في خطابات حركة «مواطنات ومواطنون في دولة» بلسان نحّاس وصحبه، يمكنها أن تكون جسراً لنا من الواقع إلى حياة شعب.
* أستاذ جامعي