ليس هناك انتفاضة واحدة في لبنان بل انتفاضات متعدّدة ومتشعّبة. ويزيد في تعقيد الصورة أن الثورة المضادة تسرّبت ــ مثل حالة كلّ الانتفاضات العربية من دون استثناء ــ إلى صفوف الانتفاضة في محاولة لحرفِها عن مسارها وتجييرها لصالح النظام. وللتحرّك الاحتجاجي اللبناني أبعادٌ مختلفة، كما كانت للحرب الأهلية أبعاد مختلفة. لا تستطيع أن تختزلَ أبعاد الحرب بصراع واحد إذ إنها كانت حرباً تتضمّن حروباً: بين يمين لبناني ويسار لبناني، بين مقاومة فلسطينية ــ لبنانية والحلف الإسرائيلي ــ الأردني ــ السعودي ــ الأميركي، وبين أميركا والاتحاد السوفياتي، وبين فرعي حزب البعث، وبين حلفاء إسرائيل ضد أعدائها، وبين الطبقات الشعبية ضدّ البورجوازية، وبين الزعماء المسلمين (أو بعضهم) ضد الزعماء الموارنة، وبين العلمانيين ضد الطائفيين، وبين حلفاء النظام السوري ضد أعدائه (والحلفاء تقلّبوا على مرّ سنوات الحرب)، وبين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية، وبين الجيش والقوات اللبنانية (في مراحل)، إلخ. لا يمكن عزل بُعدٍ واحد للحرب عن بعدٍ آخر لأنها ترابطت.واليوم يشهد لبنان انتفاضات لا سابق لها من حيث الاستمرارية والديمومة والاتّساع والحجم (لن نغوص في موضوع حجم الحشد في الشارع، لأن الموضوع خرج منذ سنوات من حيّز العقل المحض إلى حيّز الخيال العلمي، ويجب اليوم ــ لفضّ الموضوع ــ القول إن ٤ ملايين لبنانيّ ولبنانية نزلوا إلى الشارع، لأن المبالغة في تقدير الأعداد تدخل في نطاق السياسة، والذي يقلّل من التقدير يصبح عدوّاً للجماهير الشعبية ــ هل يذكر الناس حجم جنازة عبد الناصر؟).
انتفاضة جيل جديد على أجيال سبقت. هناك ملامح جديدة لهذه الانتفاضة لم تظهر من قبل في شوارع لبنان. ترتسم معالم صورة جديدة لم يألفْها ــ ولم يستسِغها ــ جيل قديم من اللبنانيين. رفيق نصر الله تساءل عن حقيقة وجود طلّاب لبنانيين بعضلات وأوشام على أجسادهم. لم يقبل نصر الله فكرة عضلات وأوشام على أجساد طلاب الجامعات. لكن هذه حقيقة، تحتاج الأجيال السابقة أن تقبلها. لا يمكن رسم صورة لما يريده الكبار من الصغار، أو لما يريدون من فرضه على سلوك الصغار. تكرّس هذه الانتفاضة أسلوباً ونمطاً جديداً من الاحتجاج والتعبير. قد لا يكون هذا النمط بالغ الأثر، لكنّه يرفض التزمّت الديني والاجتماعي المفروض من المؤسّسات الدينية والأهل والطبقة الحاكمة. الجيل الجديد انتفض على عبده أبو كسم، كما انتفض على الطبقة الحاكمة (وإن كانت الانتفاضة على الطبقة الحاكمة لم تذهب بعيداً في رفضها ــ أو ليس بعد). وهذا الشيوع الكبير للسوقية والبذاءة هو رفض للتأدّب المصطنع لبلد اشتهر على مرّ السنين بغزارة شتائمه السوقية. لكنّ البذاءة في الهتافات تتعارض مع بعض الهتافات النسوية التي كانت جزءاً من الحركة الاحتجاجية (في بيروت على الأقل). هل يؤدّي شيوع البذاءة إلى استسهال لجوء الشباب لإهانة زوجة أو أمّ أو أخت الرجل لإهانته هو، حسب المنطق البطريركي؟ هذه لم تحلّها المُشاركة النسوية، ولم تحرّمها، لا بل شرعنتها. والخلاعة والإباحية جزء من ثقافة الجيل الجديد على مواقع التواصل، وليس من السهولة بعد اليوم ضبط اللسان كما كان في الماضي، لأن الفضاء المدرسي والاجتماعي كان صارماً. هذه الصرامة زالت بالرغم من إصرار عبده أبو كسم على العودة للعصور الوسطى.
والجيل الجديد متناقض: فهو يرفع شعارات الدولة المدنية، لكن هؤلاء الشباب أنفسهم مستعدون (بأكثرهم) للهتاف للزعيم عندما تتعرّض الطائفة لخطر حقيقيّ أو وهميّ. وعلاقة الشباب اللبناني بزعيم الطائفة تشبه علاقة الناخب الأميركي بنائب القضاء: ٩٠٪ من المرشّحين والمرشّحات في الأقضية المختلفة يُعاد انتخابهم في كلّ دورة لكن استطلاعات الرأي تُظهر أن نحو ٨٠٪ من الناخبين والناخبات ينظرون إلى النوّاب على أنهم أوغاد وفاسدون. كيف تتّفق هذه؟ فقط في النظرة إلى أن كلهم يعني كلّهم ــ باستثناء النائب في القضاء. ويمكن تطبيق ذلك على علاقة الناخب بالطائفة وزعيمها في لبنان. كيف اتّفق أن سعد الحريري (الوريث الأوّل للحريرية السياسية، من والده الذي كان أصل البلاء الاقتصادي والسياسي في لبنان) غابَ عن الكثير من الهتافات في لبنان، لا بل إن الهتاف له لا ضدّه تلى استقالته (التي مثل استقالة الرياض أتت بأوامر خارجية من واشنطن). هل يُعقل أن ينال جبران باسيل (على سوئِه) من الشتائم أكثر من رئيس الحكومة، ووريث الحريرية السياسية المدمّرة؟ قد يكون الشباب اللبناني يعاني في بعضه من اضطراب «التنافر الإدراكي» في علم النفس، أي حمل الفكرة ونقيضها في الرأس.
والجيل الجديد ينتفضُ على انعدام فرص الحياة الكريمة: عدد الوظائف المتاحة أقل بكثير من عدد خرّيجي الجامعات (وهذه الجامعات تزيد في الأزمة تراتبية طبقيّاً، تعطي حظوةً لبعض الجامعات الخاصّة على حساب أخرى، وتعطي أفضلية للجامعات الخاصة على الرسمية). والشباب اللبناني بات يجد فرصاً محدودة في العمل في الخارج، وإمكانية إيجاد سكن في العاصمة لمنزل زوجيّ لذوي الدخل المحدود باتت معدومة. لكن الجيل الجديد لا ينتمي لطبقة اجتماعية واحدة. والإعلام (المملوك من أصحاب الملايين المرتبطين بمصالح خليجية) يركّز ــ كما الإعلام الغربي ــ على ذوي الثقافة الغربية بين المحتجّين (هؤلاء الذين يرفعون شعارات باللغة الإنكليزية كأنّ أفراد الطبقة الحاكمة لا يقرأون العربية، والذين يستعملون مصطلحات أجنبية في كلّ جملة). والشباب اللبناني على اختلاف طوائفه لم يعد يجد فرص عمل بسهولة في دول الخليج، باستثناء هؤلاء الذين يحملون شهادات متخصّصة جداً، أو الذين لديهم روابط أسرية بالأثرياء، والشباب الشيعي المتعلّم لم يعد يجد فرص عمل في الخليج بسبب سياسة تمييز طائفي واضحة (وتلوم وسائل الإعلام العربية واللبنانية حزب الله على تمييز دول الخليج، كما كان اليهود يُلامون على العنصرية ضدّهم في أوروبا).
انتفاضة منطقة ضد زعمائها. وهناك خصائص جهوية لهذه الانتفاضات. فأهل الجنوب لهم اعتراضاتهم الخاصة بهم، وهي غير اعتراضات طرابلس المحلية. في الجنوب اللبناني، انتفضَ الناس (خصوصاً في اليومين الأولَين) ضد سطوة نبيه ورندة برّي والجهاز المحلّي للحركة. صحيح أن حركة «أمل» في انطلاقتها شاركت في القضاء على الإقطاع (وإن كانت المساهمة الشيوعية والبعثية العراقية والقومية العربية أكبر من مساهمتها)، لكن حركة «أمل» تحت قيادة نبيه برّي عادت وتصالحت مع الإقطاع (لا يزال برّي يصرّ على عضوية علي عسيران في القائمة الانتخابية، بالرغم من أننا لم نسمع له صوتاً عبر السنوات إلا من خلال تسريبات «ويكليكس»، كما أن برّي منحَ شرف تحقيق الرقم القياسي في عضوية المجلس النيابي لسليل عائلة إقطاع آل الزين). وعائلة برّي في الجنوب باتت تذكّر الجنوبيّين بالإقطاع البائد، مع أن برّي ينفي فكرة التوريث العائلي في الحركة. وكانت حركة «أمل» تستولي على حصص التوظيف الشيعي في الدولة، لكن هذه الحصّة تقلّصت بسبب انخفاض الميزانية ونقص عدد الوظائف بسبب المشاركة مع حزب الله، وبسبب زيادة حصة الأحزاب المسيحية التي حُرمت من حصص أو إقطاعات مغانم الدولة في سنوات سيطرة النظام السوري، لأن رفيق الحريري اعتبر نفسه ممثّل المسيحيين والسنّة معاً (كيف تحوّل رفيق الحريري إلى بطل مسيحي في عام ٢٠٠٥؟ أم أن النكايات الطائفية والسياسية تفعل فعلها؟).
انتفاضة تحرّر اجتماعي. وهناك بعد تحرّر اجتماعي في الانتفاضة، خصوصاً في الجنوب والشمال. في الجنوب، فرض حزب الله وحركة «أمل» جوَّ تزمّت ديني واجتماعي لم يعرفه الجنوب في سنوات طفولتي. كان الاختلاط الاجتماعي في الستينيات والسبعينيات أكبر ممّا هو عليه الآن، أي أن الأجواء تتطوّر نحو مزيد من القيود والتشدّد والبطريركية فيما سنّة التطوّر تكون في الاتجاه المعاكس. يستطيع الدين والتُقى أن يتعايش مع الذين لا يريدون تقى ولا ورعاً ولا تديّناً. وحزب الله أكثر من غيره يجد صعوبة في تقبّل حقيقة أن جمهور المقاومة يضمّ في ما يضمّ كفرة ومشكّكين وراقصين وراقصات وشاربي وشاربات الخمور على أنواعها، وهذا التنوّع في جمهور المقاومة هو لصالحها لأن حصر جمهور المقاومة بجمهور حزب الله يحاصرها ويضيّق محيطها، ويسهّل ذلك مهمّة أعوان إسرائيل في فرض حصار اجتماعي على المقاومة. والدبكة في سنوات صباي كانت مختلطة في قرى الجنوب، إلا أن هذا الأمر لم يعد مقبولاً بمعايير التزمّت والقنوط المفروض من أحزاب دينية منذ الثورة في إيران. أما الوجود المسيحي في الجنوب والشمال، فقد كان يساهم في التخفيف من الضيق الديني، لأن المعايير تختلف بين الأديان. وأصحاب المليارات في طرابلس وطغاة الخليج استثمروا في تربية عقائد دينية سلفيّة متطرّفة غيّرت من طابع طرابلس الاجتماعي (كانت الأحزاب اليسارية العلمانية طاغية في الشمال في حقبة ما قبل الحرب. وانتشار الغناء والرقص في طرابلس وفي كفر رمان في الأيام الماضية هو انتفاضة اجتماعية ضد هذا التزمّت).
اليوم يشهد لبنان انتفاضات لا سابق لها من حيث الاستمرارية والاتساع والحجم


انتفاضة ضد الجوْر والفروقات الطبقية الصارخة. ليست الرأسمالية جديدة على لبنان، وليس الجوْر الطبقي جديداً. لكن الحقبة الحريرية فرضت على لبنان ثقافة المباهاة بالثروة والجاه، والتنافس بين الأثرياء على البذخ وعرض مظاهر الثروة. كان عدد القصور قليلاً في لبنان (وكان تعريف القصر كثير السخاء في الماضي حيث كانت الفيلا قصراً منيفاً بالتعريف الاجتماعي). لكن الحريرية زرعت في لبنان ثقافة آل سعود في البذخ والمباهاة والاستعراض المالي. أصبحت أعراس الأثرياء مناسبة لتذكير الفقراء، وحتى ذوي الدخل المحدود من الطبقة الوسطى، بدونيّة موقعهم الاجتماعي. وهذه الظاهرة ليست حكراً على الساسة (مثل عرس ابن غازي العريضي أو أعراس أفراد عائلة الحريري)، بل تسري أيضاً على التجّار والمصرفيين وأصحاب المحطات التلفزيونية الذين يزهون بأعراس «تذكر بأجواء ألف ليلة وليلة». صاحب محطة «الجديد» لم يكتفِ بإنفاق الملايين على عرس لفرد من عائلته، بل هو أصرّ على أن يستعمل هواء محطته للمباهاة بذلك، كتذكير للفقراء بحدود الطبقات الصارمة. وقد سأل مراسل «نيويورك تايمز» الصهيوني، روجير كوهين، رياض سلامة عن ملابسات عرس ابنه. فما كان من سلامة (كيف تكون «ثورة» ولا يكون رياض سلامة خلف القضبان؟) إلا أن أجابه بأن العرس (الذي كلّف الملايين وأقيم في قصر تاريخي في «كان»، ربما لمنافسة عرس كرمى الخيّاط في «موناكو») كان «عشاء عاديّاً». والأثرياء في لبنان، كما يظهر في أعراسهم، لا يقيمون اعتباراً لأيّ خلافات سياسية بينهم لأن عضويتهم الطبقيّة تتفوّق على اختلافات سياسية تنافسية عابرة. إن التاريخ هو حقّاً صراع بين الطبقات. والذين واللواتي انتفضوا كانوا يصيحون ضد هذا التباهي بحياة الثراء والبذخ. فؤاد مخزومي، مثلاً، لم يجد مفارقة في عرض صورته على «إنستغرام» وهو يأكل المنقوشة في طائرته الخاصّة. هو ظن أن أكل المنقوشة سيجعل منه إنساناً بسيطاً قريباً من الشعب العادي في دائرته الانتخابية.
انتفاضة ضد صعوبة الحياة العادية. ما فاقم النقمة المعيشية في لبنان هي صعوبة العيش اليومي، من زحمة السير إلى التلوّث، إلى الاكتظاظ السكاني، إلى هجرة الطبقة المتوسطة بعيداً عن العاصمة، إلى انقطاع الكهرباء والماء، وتراكم النفايات بالرغم من مرور عقود على انتهاء الحرب الأهلية. وفساد الطبقة الحاكمة وثراؤها هما اللذان أدّيا إلى إهمال إصلاح المواصلات والاتصالات والكهرباء، لأن الأثرياء يعيشون في كوكب مختلف ولهم من الامتيازات ما يبعدهم عن المعاناة اليومية. ورفيق الحريري (المسؤول الأكبر عن الوضع الاقتصادي والسياسي الكارثي الحالي، بالرغم من غياب اسمه عن الهتافات السوقية)، اتّخذَ قراراً بإهمال البنية التحتية واحترام الحقوق العادية البسيطة لسكان أيّ بلد لأنه لم يكترث لهم. هذا رجل تخرّج من جامعة بيروت العربية (وهي لذوي الدخل المحدود في حينه)، لكنه تبرّع بملايينه لجامعات خاصة (من الجامعة الأميركية إلى جامعة جورجتاون).
تعارض السلطة الاستخراجية للدولة مع تقديماتها. تحتاج الدول إلى إجراء تقييم لقدراتها الاستخراجية (أي قدرتها على فرض الضرائب للاستحصال على مال للإنفاق الحكومي موازنةً بما تقدّمه للشعب من خدمات). وعليه، فإن الدول الاسكندنافية تقدّم خدمات اجتماعية (تتقلّص مع صعود اليمين ومع رفض العنصريين من الغربيين توزيع خدمات الدولة على غير البيض من المهاجرين المسلمين) أعلى من تلك المقدَّمة في أميركا. يتعجّب من يسافر بين أوروبا وأميركا من التفاوت بين نوعية خدمات المواصلات والتعليم والصحة بين عدد من الدول الأوروبية وبين أميركا التي لا تزال تفتقر إلى تطبيب مجّاني، كما أن شبكة مواصلاتها مهترئة وشبكة المواصلات الرسمية في ولاية كاليفورنيا (الليبرالية افتراضاً) سيّئة إلى درجة أنه لا يمكن العمل والعيش هنا من دون سيارة. يضطر الشباب قبل سن العشرين إلى اقتناء سيارة للذهاب من البيت إلى مقرّ العمل والمدرسة. في معظم المدن الأوروبية، لا تحتاج إلى سيّارة. الشعب في أميركا يعارض زيادة الضرائب بسبب سيادة الفكر الرأسمالي المحض المُعارض لتدخل الدولة في السوق، ولأن نظرية المساواة في الفرص تسود على حساب المساواة في شروط التنافس الاقتصادي (عبر التمييز الإيجابي للفقراء والأقليات والنساء مثلاً)، فإن الدولة تفرض ضرائب أقل على الأثرياء من الدول الأوروبية. في لبنان، فرض ثنائي الحريري ــ السنيورة نظاماً ضريبياً بالغ الرجعية، لأن الطبقة الحاكمة فرضت تمييزاً إيجابياً للأثرياء. وضريبة «القيمة المضافة» تحصِّل للدولة الأموال بصورة أخف من نظام ضرائبي تصاعدي تقبل به الكثير من الدول الرأسمالية، وترفضه قطعاً طبقة التجّار والمصرفيين في لبنان: والعلاقة بين كبار التجّار والمصرفيين وبين الزعماء هي علاقة عضوية: ١٨ من ٢٠ من كبار المصارف مملوك (بالكامل أو جزئيّاً) من قبل الزعماء أو توابعه، بحسب مجلّة «إيكونومست».
انتفاضة الدخول إلى السلطة. وهناك قطاع لا يُستهان به من «تكنوقراط» المجتمع المدني الذين بحكم إيمانهم بالنظام الرأسمالي يشكون من أن النظام مغلق أمامهم، بسبب انغلاق النظام الطائفي أمام محاولات الاختراق من أطراف أو أحزاب جديدة. والأنظمة الانتخابية تُفصَّل، كما هنا، من أجل تفويت الفرصة على المخترقين الجدد. وتجد مثلاً أن أكثر الأحزاب تمثيلاً لطوائفها (بنسب ٨٠٪ أو ٩٠٪) تستطيع أن تمثّل الطوائف بنسب ١٠٠٪، لأن النظام يمنع الاختراق «النسبي». «بيروت مدينتي» هي فؤاد السنيورة عندما كان فتى: أي الشاب من أصول متوسطة الذي نال علماً غربياً خاصّاً، ويريد أن يدخل في النظام («يدخل في الوطن» تبدو أكثر رومانسية). هؤلاء بعضهم عمل في النظام (مثل أحمد قعبور، الملحّن الرسمي للحريرية في لبنان)، والبعض الآخر يريد أن يدخل فيه لأنه يرى في نفسه الكفاءة، وأن الكفاءة (بتعريف الحظوة التعليمية والوظيفية الرأسمالية) تؤهله للحكم. وهؤلاء ليسوا معارضي النظام، أو خالقي بدائل عن الرأسمالية. لا أبداً. هؤلاء يريدون تحسين شروط الرأسمالية في لبنان من أجل ديمومتها وحمايتها. ويروّجون لمفهوم الإيمان بالكفاءة كأنها شيء مجرّد ومطلق، ولا يمكن النقاش حوله: أي أن خرّيج الجامعة الأميركية هو حكماً (بنظرهم) أكفأ من خرّيج الجامعة اللبنانية (راجعتُ سيَر كل أعضاء «بيروت مدينتي» قبل أن أطلق حكمي هذا). ويمتنع هؤلاء مثلاً عن إصدار مواقف في السياسة الخارجية (وإن كانت ظاهرة على صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي حتماً ليست في صف المقاومة. لكن لا يقولون ذلك جهاراً، لأنهم قبل أن يصلوا إلى السلطة لا يعترفون إلا بالكفاءة، وهذا المعيار سيؤدّي حكماً إلى الاقتناع بأن جان قهوجي وميشال سليمان وجوزيف عون هم أكفأ من مقاومي حزب الله، لأن الأخيرين لم يتخرّجوا من المعاهد العسكرية الأميركية). لا مانع من انخراط تلاميذ وأساتذة الجامعات الخاصة في الاحتجاجات، لكن لهؤلاء أسباباً للاحتجاج تختلف عن أسباب تلاميذ وأساتذة المدارس الرسمية، أو العمّال والمياومين والمزارعين. لكن كيف تتحوّل خلاصة الحراك الاحتجاجي الذي يطالب بإسقاط النظام برمّته، إلى ضرورة وصول «تكنوقراط» (هؤلاء هم وزراء ميشال سليمان بالمناسبة) إلى السلطة كبديل؟ هل هناك من أجرى بحثاً في نسبة طلاب مدرسة الشياح الرسمية والجامعة اللبنانية، الذين استشهدوا في الدفاع عن لبنان بوجه المشروع الإسرائيلي مقابل الذين استشهدوا وهم طلاب في الـ«آي.سي» أو الجامعة الأميركية؟ مقارنة من هذا النوع تكفي كي تطرد فكرة قيادة المجتمع والدولة من قبل المحظيّين. لكن هذه هي الرأسمالية. هؤلاء ليسوا كل «الحراك» لكنهم جزء منه، والجزء الذي يُروَّج له من قبل أثرياء المحطات الثلاث. وهؤلاء ينطقون بلغة يفهمها ويستسيغها الغرب لأن المصطلحات هي مصطلحات الـ«إن.جي.أوز»، والعلاقة بين الصحافة وهذه المنظمات وثيقة، لأن الصحافي غالباً ينتهي في «إن.جي.أو» عندما يصعد. ولهذا، فإن هذه المنظمات تلقى التأييد والتشجيع من الإعلام الخاص.
عراة الصدور. هؤلاء هم المعدمون والمهمّشون والغاضبون الذين ستقوم الثورة ــ لو قامت فعلاً لا شعاراً ــ على ظهورهم. هؤلاء هم الذين كانوا يموتون بأعداد هائلة في الحرب وفي المعارك، وكان الرصاص يقتاتُ من أجسادهم. هؤلاء كانت الساحة لهم في اليومَين الأوّلَين من الحراك ــ أي أنهم هم أطلقوا التحرك الاحتجاجي بالفعل ــ قبل أن يقرّر أحدٌ ما أنهم غير مُرحّب بهم وأن الشاشات لا تليق بهم. يمكن مراجعة تغطية «إل.بي.سي» و«إم.تي.في» في اليومَين الأوّلَين: كيف كانتا معارضتين بقوّة لما يجري قبل أن تقرّرا أن التحرّك لا يضر بمصالح مالكي المحطات. كان يزبك وهبة يمشي ويصف زجاج المصارف المكسور كأنه يصف جثثاً ملقاةً في الشوارع. كان خوف المحطات من «الوندلية» الفاندالية (التخريب المتعمّد للممتلكات العامة، والترجمة العربية لـVandalism هي لكميل شمعون غداة حرب 1975) أكبر من خوفها من جوع الناس. عراة الصدور يقتحمون ويصدّون ويتعاركون مع رجال الأمن ــ لو لزم الأمر ــ لكنهم لا يتراجعون ولا يتزحزحون. عراة الصدور لا يُختزلون بالغلاظ الذين نزلوا من قبل حركة «أمل» لضرب محتجّين ومحتجّات. وبعض عراة الصدور كانوا من المتمرّدين على أحزابهم وقياداتهم. لكن المعضلة أمام التحركات الاحتجاجية أن إسقاط النظام يتطلّب دكّ الجدران، وقد يتطلّب اقتحام المقار. هل يدكّها المحظيّون والحرفيّون المدنيّون من «بيروت مدينتي»؟ هل يدكّها تلاميذ الجامعات الخاصة؟ لا، هذه جدران لا يدكّها غير عراة الصدور، لكنهم غير مرغوبٍ فيهم بين الصفوف. هم يشوّشون على الشاشات، ويخدشون الأنظار عندما يرقبها أصحاب المحطات في يخوتهم في شواطئ جنوب فرنسا. لن تكون ثورة من دونهم. هؤلاء هم الطليعة، لا التكنوقراط.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)