مرَّت على لبنان أحلامٌ ثوريّة كثيرة في تاريخه المعاصر. كانت ١٩٥٨ ثورة مُبارَكة من الثورة المصريّة، لكن مشروع إسقاط كميل شمعون فشلَ، وتوصّلَ عبد الناصر إلى تفاهم مع الحكومة الأميركيّة لإيصال قائد الجيش، فؤاد شهاب، إلى سدة الرئاسة. والحزب السوري القومي الاجتماعي كادَ أن يطيح بالنظام اللبناني في عام ١٩٦١ (فشل فقط لأنه لم يصلْ إلى القصر الرئاسي في الموعد المحدّد) لكنه كان مرتبطاً آنذاك بالنظام الأردني الرجعي الذي يعصى عليه توليد ثورات. والستينيّات لِمَن عاشها ــ أو لمن عاشَ بريقها في السبعينيّات ــ كانت حلماً ثوريّاً مستمرّاً. وما سهّلَ أحلام الثورة في الستينيّات أنّ لبنان استضافَ ــ رغماً عنه ـــ ثوّاراً حقيقيّين من المقاومة الفلسطينيّة (أمثال جورج حبش ووديع حدّاد وغسان كنفاني ورفاقهم) وكان هؤلاء محفّزين على الأحلام الثوريّة. كنا نرى في لبنان في المخيّمات ومعسكرات التدريب ثواراً من كلّ بقع العالم ــ كم كان ذلك يزعج الفاشي، بيار الجميّل. المشروع الذي طرحه ثوّار ذلك الزمن طمحَ إلى تغيير جذري في كل العالم العربي، وألهبَ ذلك خيال ثوّار من ظفار إلى الصحراء الغربيّة، وما بينهما من بلدان. لكن الثورات العربيّة أُجهضت ربما لأنها كانت ذات رعاية خارجيّة والأنظمة العربيّة ــ آنذاك والآن ــ لا يمكن أن تبارك ثورات (كان هناك استثناء النظام الناصري والنظام اليمني الجنوبي الذي يحتاج إلى درس لاستخلاص عِبَر فشله ــ وكانت خارجيّة بقدر ما كانت داخليّة ــ هل يمكن للنظام السعودي والحكومة الأميركيّة أن يتحمّلا نظاماً ماركسيّاً على باب المندب؟) النظام الناصري واليمني الجنوبي والجزائري قد يكون الاستثناء في دعم الثورات بكل الوسائل.لكن كان صعباً على لبنان تقبّل فكرة الثورات. هذا بلد وُلد وترعرع ونشأ وفسُدَ برعاية غربيّة مباشرة، وبتحالف أكيد مع إسرائيل. كيف يمكن لدول الغرب (تسمّونها «المجتمع الدولي» في لبنان وفي العراق أخيراً) أن تسمح بالتفريط بـ «النموذج اللبناني»؟ لكن ما هو الذي لفتَ دول الغرب في النموذج اللبناني؟ هل قانون سريّة المصارف الذي فرضته أميركا ودول الخليج ورأس المال الرجعي، الذي أراد بيروت مقراً ومستقرّاً لمؤامرات الغرب في الشرق الأوسط، ضد عبد الناصر واليسار والشيوعية والمقاومة الفلسطينيّة؟ لبنان النموذج يعني مطاعم ومقاهي وملاهي وكازينو لبنان الذي كان يجعل الطبقة الحاكمة تشعر أنها في دولة أوروبيّة. ولبنان النموذج كان ذروة الحياد (غير) الإيجابي في قضايا الصراع العربي ــ الإسرائيلي. النموذج عنى أنّ لبنان لا شأن له بالقضيّة الفلسطينيّة وأن حكّامه ــ بالرغم من كلام معسول عن عدالة القضيّة حتى بيار الجميل وشفيق الوزّان أدلا بدلوهما في هذا الشأن ــ سيجمعون ــ مسلمين ومسيحيّين ــ على قمع المخيّمات الفلسطينيّة وعلى ترك إسرائيل تعبث بأمن لبنان وأمن المخيّمات. أما الجيش اللبناني فقد كان الذراع الضاربة للثورات المضادة، ضد اليسار والقوميّة العربيّة وضد العمّال. لكن لم يذق وحشيّة جيش لبنان الانعزالي قبل الحرب أكثر من المخيّمات الفلسطينيّة ومساجين الحزب القومي بعد الانقلاب والطلاب والعمّال.
كان سهلاً الانقياد وراء أحلام ثوريّة في الستينيّات. ليس فقط قبل هزيمة ١٩٦٧ الشنيعة بل حتى بعدها، خصوصاً بعدها. قبل الهزيمة، كان الإيمان الجماهيري المتطرّف بقدرات خارقة لعبد الناصر يعزّز من أحلام النصر الثوري. الأنظمة العربيّة كانت تعلك لغة الثورة في المناسبات، وكانت الانقلابات العسكريّة تحمل اسم الثورة طمعاً بالمشروعيّة الشعبيّة. كان للثورة سحرها. لكن الأنظمة العربيّة لم تكن تدعم الثورات إلّا لحساباتها هي، وحسب الظروف المتغيّرة. فيدعم النظام العراقي «جبهة الرفض» الفلسطينيّة ثم يسحب الدعم عنها. كما أنّ النظام السوري دعم الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في بداية الحرب الأهليّة ثم سرعان ما انقلب عليها، وكان القذافي يسخى في الدعم أو يقتّر بناء على حسابات الترويج لنفسه. الهزيمة في ١٩٦٧ زادت من الحماس الثوري، وكانت الساحة اللبنانيّة (والأردنيّة قبل أيلول الأسود) تعجّ بدكاكين الثورة. كل الآمال التي كانت معقودة على عبد الناصر تحوّلت نحو «الثورات».
عبد الناصر، مثل نصر الله اليوم، كان يخشى من سيناريوهات الفوضى لعلمه باستغلال أعدائه لها


لكن لبنان ما قبل الحرب اقترب من لحظات ثوريّة. في ١٩٦٩، كان النظام في أزمة، عمّقها الخلاف بين الزعماء المسلمين والمسيحيّين (كانت خلافاتهم على الحكم والصلاحيّة وإن كانت ترتدي لبوس «دعم الثورة الفلسطينيّة»). محاضر اجتماعات الزعماء المسلمين والمسيحيّين بالدبلوماسيّين الأميركيّين من تلك الفترة، تفضح نفاق زعماء المسلمين والمسيحيّين على حد سواء، إذ تختفي منها شعارات دعم العمل الفدائي. لكن النظام أنقذ نفسه، وساهم النظام المصري في إنقاذه. عبد الناصر، مثل نصر الله اليوم، كان يخشى من سيناريوهات الفوضى لعلمه باستغلال أعدائه لها.
بيننا وبين الثورة معوقات كثيرة في لبنان. هذا بلد محافظ وثقافته السياسيّة مُدجّنة بسنوات طويلة من الحريريّة ومن أعمال الـ«إن.جي.أو». وهناك بعض الشعارات تحمل عبقاً ثوريّاً، مثل المطالبة بإسقاط النظام، وإن كان الشعار ملتبساً في لبنان، إذ أن المحتجّين والمحتجّات يطالبون بإسقاط العهد، لا النظام. تغيير النظام يتطلّب تغييراً في الدستور، وليس هناك من معالم لمطالبات شعبيّة بتغيير في الدستور. هناك مطالبات عامّة بإصلاحات في الزواج المدني وحقوق المرأة، لكن هذه لا ترتقي لتغيير النظام. يستطيع النظام أن يتعايش معها لو شاء (الياس الهراوي، وكان رجعيّاً وفاسداً لكنه وافق على الزواج المدني الذي لم يوافق عليه رفيق الحريري).
وأيّ من الطبقات ستقوم بمهام التغيير الثوري؟ ليست كلّ الطبقات سواسية في إمكانيّة القيام بالثورة. يستطيع تلاميذ المدارس والجامعات الخاصّة أن يكونوا أعلى صوتاً من غيرهم، وأن يلفتوا إليهم تغطية المحطات الثلاث ووسائل الإعلام الغربي المُتشوّقة إلى صور تذكّر بحرم الجامعات الغربيّة. وبعض الشعارات التي رفعها طلاب الجامعات الخاصّة في لبنان (وبعضهم رفعها بالإنكليزيّة، لماذا؟) لم تبدُ مزعجة لقيم الغرب، لا بل إنها لاقت استحساناً من المراسلين الغربيّين والمراسلات. وقبل الحرب، كانت جريدة «النهار» تنشغل بتغطية نشاطات طلّاب الجامعة الأميركيّة (وكانوا أكثر حِراكاً ونشاطاً من اليوم، ولم تكن أذهانهم تعير أهميّة لتصنيفات الجنسيّة، إذ أنه لم يكن هناك حرج أن يرأس طالب فلسطيني مجلس الطلبة). لكن عندما أتت الحرب، كانت المدارس والجامعات الرسميّة هي في طليعة العمل الوطني والثوري. كان النضال مرفوعاً على أكتاف تلاميذ ثانويّة الشيّاح ورمل الظريف وثانويات القرى والجامعة العربيّة واللبنانيّة. لو أنك صنّفت الخلفيّة المدرسيّة للمناضلين في مخيّمات التدريب العسكري، قواعد المقاومة في الجنوب اللبناني وعلى ملصقات الشهداء في الشوارع، لم تكن لتجد إلا نسبة قليلة جداً من خلفيّة المدارس والجامعات الخاصّة. وكان أساتذة الجامعات الخاصّة غائبين كليّاً تقريباً عمّا يجري حولهم. (أذكر أن طلاب «منظمة العمل» و«الحزب الشيوعي» في «الكوليج» والـ «ليسيه» كانوا يشرحون لنا أن التدريب العسكري غير مطلوب منهم لأن الكثير منهم ينبذ العنف، ولأن قيادة الحزبيْن لا تفرضها عليهم). القيادة الفعليّة للحركة الوطنيّة كانت لخريجي الجامعة اللبنانيّة والعربيّة، لا الجامعة الأميركيّة.
الصورة مختلفة اليوم، إذ أن «المجتمع المدني»، أو من ينطق باسمه جميعاً، يظهر في مظهر القيادة. هل يمكن لثورة أن تتحقّق من دون تنظيمات ثوريّة أو شخصيّات ثوريّة؟ يتبرّم الناشطون والناشطات في الحراك إذا ما أصرّ الواحد على صرامة في تطبيق معيار الثورة. محطات الأثرياء الثلاثة (الذين، الحق يُقال، يحملون همّ الشعب الفقير على متن يخوتهم في شواطئ جنوب فرنسا) تستسهل إطلاق وصف الثورات، وصار لها برامج عن الثورات. لكن ضيوف «الثورة» يكونون عادة من الساسة ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات أو زملاء في المهنة. هل هو عامل السنّ الذي يجعل من تقبّلي لثوريّة بولا يعقوبيان أو زياد بارود أو بيار الضاهر أو أي من مُقلّدي فؤاد السنيورة ــ عندما كان فتى ــ صعباً جداً لأنني تعوّدت على نماذج ثوريّة من نوع جورج إبراهيم عبد الله وجورج حبش ووديع حدّاد وهؤلاء الرفاق من «ثورة ظفار» الذين كنتُ أتلهّف لسماع أخبارهم في بيروت؟ لو نختلف في وصف الثورة، لا يعني معارضة للثورة بقدر ما يعني إصراراً عليها. لكن كيف يمكن تحقيق ثورة من دون قادة ثوّار وبرامج ثوريّة وأحزاب ثوريّة؟
جمعيّات الـ «إن. جي.أو» محكومة وظيفيّاً بأجندة التمويل الغربي (ولا أقول هنا إنها هي بالضرورة تختصر كلّ الحركة الاحتجاجيّة لأنها لا تختصر، لأن عشرات الآلاف من الذين نزلوا إلى الشوارع لم يكونوا مدفوعين ومدفوعات بأجندات خارجيّة، كما أقرّ نصر الله في أوّل خطبة له بعد اندلاع الاحتجاجات). وهذه الجمعيّات مؤثّرة جداً في الشباب المتعلّم في المدارس والجامعات الخاصّة: هي مؤثّرة في الخطاب وزرع القيم الاجتماعيّة والسياسيّة. أصبح لها لغتها وشعاراتها ومصطلحاتها الخاصّة. هي قرّرت أن ما يجري هو «حراك» (لا حركة أو تحرّك، مع أن المعنى واحد) وهي قرّرت أن وصف «الثورة» يجب أن يسري وإن كانت هي لا تقرّ بالثورات في العالم العربي، إلّا إذا كانت ذات أهداف محدودة تتفق مع أغراض الغرب السياسي. جمعيّات الـ «إن. جي. أو» في بلادنا تطرح شعارات قبول الآخر ونبذ العنف والسلام والمحبة، وتطرح توابعها المحليّة نفس الشعارات والقيم. كيف كان الشعب الفرنسي تحت الاحتلال النازي ليتقبّل ضخّ شعارات عن السلام ونبذ العنف وقبول الآخر؟ ألم يكن رافعو تلك الشعارات قد لاقوا حتفهم بعد التحرير؟ لكن في لبنان هذا يسري. هل الصدفة أن من بين المئات أو الآلاف من جمعيّات الـ «إن. جي. أو» أو توابعها المحليّة (مثل «مؤسسة رينيه معوّض»، التي تتمتّع بصداقة حميمة مع داعي الإنسانيّة والمحبّة، مايك بومبيو، الذي خصّها بزيارة في جولته الرعويّة في لبنان)، لا يوجد منظمّة واحدة ترفع شعار مقاومة إسرائيل أو تحرير فلسطين أو رفض دفع الدين أو الاشتراكيّة أو التأميم؟ ولو أن التوابع المحليّة قرّرت رفع تلك الشعارات، هل يمكن أن يصلها قرش غربي؟ والأمر نفسه يسري على المواقع الصحافيّة على الإنترنت وهي تنتشر كالفطر في كل الدول العربيّة، وهي أيضاً تتلقّى التمويل الغربي. وهل الصدفة أن توجّهاتها لا تختلف عن توجّهات سياسات دول الغرب الخارجيّة؟

هذا بلد محافظ وثقافته السياسيّة مُدجّنة بسنوات طويلة من الحريريّة ومن أعمال الـ«إن.جي.أو»


وفضلو خوري وأساتذة جامعته وطلّابها يتعاملون مع «الثورة» كأم العروس. وفضلو جالَ على السياسيّين عارضاً قائمة بأسماء من يراهم كفوئين لتولّي مناصب في الدولة (لا ندري إذا كانت أسماء السنيورة وميقاتي والحريري بينهم لأنه وثيق الصلة بكل أفراد السلطة الحاكمة، وفضلو يمكن أن يثبت جديّته الثوريّة لو أنه كافح الفساد في جامعته ومنح الطلاب بعض الحقوق البسيطة وقبِل دفع الأقساد بالعملة المحليّة). لكن لو وصلنا إلى مرحلة الثورة (الحقيقيّة)، هل كان فضلو ليشعر بالارتياح لتغيير يقلب المعادلات والعلاقات الاجتماعية والاقتصاديّة ويعرض تأميم الجامعات التي تحتكر أفضل الوظائف لخرّيجها فقط، لأن الاسم الغربي والشهادة الباهظة الثمن تفرض نفسها في السوق على حساب شهادات من جامعة وطنيّة أهملتها الدولة عن قصد وأفقرتها؟الاختصاصيّون من أصحاب الشهادات ليسوا غائبين عن السلطة الحاكمة: هم في صلب حاشية الزعيم: هم جهاد أزعور وفؤاد السنيورة (عندما كان فتى) وغازي يوسف وسامي حدّاد. هؤلاء هم المرضي عنهم من قِبل المؤسسات الغربيّة التي تفرض على لبنان شروطاً اقتصاديّة وسياسيّة (أزعور انتقل من وظيفة استشاريّة في وزارة المالية إلى تولّي وزارة الماليّة ثم إلى صندوق النقد في واشنطن، وكلّ ذلك برشاقة وتكنوقراطيّة). الطبقة الحاكمة تكلّست وترهّلت وشاخت، وهناك من أبناء الطبقة المتوسّطة ممن يريدون الانضمام إلى صفوفها. وهؤلاء سيكونون أقل أزعاجاً للغرب من الطبقة الحاكمة التي ــ وإن كانت في أغلبيّتها الساحقة من حصّة الغرب والخليج ــ تمّرست في الألاعيب والحيل والقفز على الحبال.
وأين اليسار من الثورة؟ الحزب الشيوعي يبدو مرتبكاً بشيوعيّته بالرغم من نشاط الكثير من رفاقه ورفيقاته. وحنا غريب كان أفعل بكثير وأقوى عندما كان قائداً نقابيّاً. لا يبدو الحزب الشيوعي متماسكاً، وهل يمكن وصف الحزب بأنه «ثوري» اليوم؟ ليس هناك من طرح ثوري (بعد) للحزب بشأن التغيير، لكن مشكلة اليسار ليست له وحده. ليس من يسار جديد إلا اليسار الليبرالي الذي يقف ـــ منذ ٢٠٠٥ ـــ على يمين ١٤ آذار. وكيف يكون هذا يساراً والعلامة المفارقة في تاريخه لا بل في ولادته هو اغتيال رفيق الحريري؟ نفهم أن ينطلق يسار من حدث إعدام قائد شيوعي أو نقابي بارز، لكن لماذا هزّ اغتيال الحريري هذا النسق من اليسار اللبناني (النافذ في الصحافة اللبنانيّة ومنظمّات الـ «إن.جي.أو»)؟ هل مثّلَ الحريري لهم يساراً (لكن بعض هؤلاء يطلع بتخريجة أن ولادة رفيق الحريري في صيدا أرّخت لتعطيل تحليل اليمين واليسار وقضت بالضربة القاضية على الصراع الطبقي (حسب تحليل أخير لعبد الكريم مروّة، فإن الدولة الرأسمالية هي التي تحلّ المشاكل الاجتماعيّة). والحزب الشيوعي عمَّرَ بعد نهاية اليسار، أو هو يمطّ تاريخه قدر الإمكان وإن بشعارات أقل ماركسيّةً من الماضي. والحزب يفتقر إلى يسار يزايد عليه من اليسار، ولهذا فإن المزايدة عليه لا تأتي إلا من اليمين فتصيبه بحمّى الليبراليّة التي تظهر عوارضها على الجيل الجديد من الشيوعيّين اللبنانيّين (والليبراليّة ليست سبّة عند اليسار اللبناني ــ ليس بعد).
كان الشيوعيّون الإصلاحيّون في لبنان (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي) في السبعينيّات عرضةً منافسة وحتى مزايدة يساريّة من شيوعيّين ثوريّين (لبنانيّين وفلسطينيّين). وهذه المنافسة ولّدت انشقاقات ودفعت بالحزبيْن دفعاً نحو التقليل من الإصلاحيّة. كان الحزبان يرفعان شعار التغيير السلمي البرلماني، واستثمر الحزب الشيوعي في محاولة النضال من أجل الدخول إلى البرلمان لإصلاحه. ورفض الحزبان دعوات المنافسين الثوريّين للتسلّح والاستعداد لجولة قتال مع القوى الانعزاليّة التي لم تخفِ تسليحها وتدريبها منذ الستينيّات. لكن الحزب الشيوعي اللبناني يفتقر إلى هذا النوع من الحثّ من قبل يسار ثوري. والبديل الأقلّ إصلاحاً واعتدالاً من الحزب الشيوعي يتمثّل في يساريّة «حركة مواطنون ومواطنات» التي قدّمت برنامج تغيير يتفوّق بأشواط على «ورقة الكومودور» والتي حضر إعدادها الحزب الشيوعي ووافق عليها، وهي لم تتطرّق بكلمة إلى الخطر الإسرائيلي واكتفت بالإشارة العابرة إلى «المخاطر الخارجيّة» (هل هي من الهند أم السند؟)، وقيل لي إن هذه الإشارة كانت نتيجة عدم اتّفاق الحاضرين على تسمية العدوان الإسرائيلي.
والثورات لا تكون سلميّة إلا نادراً (الثورة في إيران كانت سلميّة من قبل المتظاهرين وليس من قبل نظام الشاه الذي لم يوفّر وسيلة عنف، بما فيها تفجيرات في أماكن مكتظّة). والثورة المصريّة لم تكن عنفيّة، لكن النظام الملكي أُسقط بالقوّة وليس في الشارع. وتجارب الانتفاضات العربيّة منذ عام ٢٠١١ تطرح علامات استفهام حول إمكانيّة تحقيق الثورات بالمظاهرات (وقرع الطناجر والصحون): لم يتم تحقيق ثورة في أيّ من البلدان التي شهدت انتفاضات، والنظام في تونس هو اليوم النظام السابق مُجمَّلاً. وليس من قوى يسار تطرح مشاريع الثورة المسلّحة في لبنان. وحزب الله ليس القوة المسلّحة الوحيدة في لبنان، وسمير جعجع في وثائق «ويكليكس» (كم مرّت في سمائنا بصورة عابرة) عرض على السفير الأميركي إحياء ميليشياه، كما أن النظام السعودي سلّح ميليشيا «المستقبل» قبل موقعة ٧ أيّار، إلّا أن الأخيرة لم تبلِ بلاء حسناً. وللطبقة الحاكمة أداتها للحفاظ على النظام، والجيش اللبناني اليوم باتَ أقرب إلى جيش لبنان قبل الحرب الأهليّة (لم يعد الجيش المُقاوِم كما كان في عهد إميل لحّود، الذي حرمته الحكومة الأميركيّة من التسليح والتمويل لأنه اختار أن يطبّق عقيدة مقاومة في الجيش). لكن خيار الثورة المضادة في الاستعانة بالجيش صعب المنال لأن تفسّخه طائفيّاً لما يزل ممكناً. لكن ماذا لو ارتضى كل زعماء الطوائف الاستعانة بالجيش للحفاظ على النظام؟ هذه باتت صعبة اليوم لأن الطبقة الحاكمة انقسمت إلى ٨ و ١٤ آذار كما كانت في ٢٠٠٥. وهذا الانقسام هو خيار أميركي لعزل حزب الله، لكن محاولة العزل السابقة لم تفضِ إلى نتيجة، لا بل هي التي خلقت التراصّ في بنيان الثنائي الشيعي.
الثورة، لو أتت، لن تطلّ بوجه ضاحك، ولن تظهر كما الكرنفالات في بعض مظاهر احتجاجات طرابلس وصيدا. ليس عيباً أن يحتفل الشعب ويغني ويرقص (على ألا يرقص على ألحان أحمد قعبور وأشرف ريفي)، وليس عيباً التهليل بالأعلام اللبنانيّة (وهي من تصميم المستعمر الفرنسي مع إضافات عليه من قبل سعدي المنلا وصائب سلام ــ أي رموز غير ثوريّة). وقرع الطناجر الذي كنتُ أسخر منه عبر السنوات لا يغيّر أنظمة، وهو يقلق راحة الأطفال في نومهم الهانئ بعد الساعة الثامنة مساءً. أمين الريحاني ذكّر العرب بوجه الثورة الحقيقي في قصيدة «الثورة» التي كتبها في عام ١٩٠٧، إذ قال: «هي الثورة ويومها العبوس الرهيب. ألوية كالشقيق تموج. تُثير البعيد، تنير القريب. طبول تردّد صدى نشيد عجيب. وأبواق تنادي كلَّ سميع مجيب. وعيون القوم ترمي بالرهيب. ونار تسأل هل من مزيد؟ وسيف يجيب، وهول يشيب... ويلٌ يومئذ للظالمين. ألم نقصَّ عليهم قصص باريس. يومَ دُكَّ الباستيل وزفت المحابيس. يوم قُطع رأس الملك لويس. وحُزَّت رقاب كبار الفرنسيس. ويلٌ يومئذ للظالمين، من كلّ متمرّد مدين. ويلٌ يومئذ للمفسدين، من نصر البنود الحمر المبين».

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)