«من هنا نبدأ» هو عنوان كتاب شهير للمفكر الإسلامي المصري التقدمي الكبير خالد محمد خالد (1920-1996). في مؤلفه هذا الذي أثار جدلاً كبيراً في الخمسينات، انتقد المؤلف، بحزم، الاستخدام السياسي للدين الذي هو، حسب قوله، «علامات تضيء الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم بالمجتمع والناس». خالد اعتبر الحكومة الدينية «عبئاً على الدين». ذلك رأي يخالف ما هو شائع من أن الدين يجمع بين الإيمان والسياسة وبين السلطة السياسية والسلطة الدينية.تبنّت المجتمعات المتقدّمة في ما يُسمى «العالم الأول»، عموماً، بعد مخاض وحروب ودماء، أنظمة حكم مدنية. وهي أنظمة ترجمت في إلحاحيتها، تحوّلات جذرية في الحقل الاقتصادي بانتصار الطبقة البرجوازية على نظام الإقطاع الموروث. بعض هذا العبور تمّ بشكل مرن، حيث احتفظ عدد من الدول، في العناوين السياسية، بتسميات دينية شكلية، أو بألقاب ملكية أخضعها للدستور، بعد تحويل سلطة القرار، هنا وهناك، إلى مؤسسات منتخبة. على خلاف ذلك، فالتعثّر في التقدم الاقتصادي، بسبب حقبات السيطرة الاستعمارية القديمة والجديدة، على البلدان التي كانت مستعمرة، رسَّخ فيها بنية اقتصادية تابعة ومتخلّفة، ما جعلها تراوح في انتقال بطيء نحو التطور مشوبٍ بمخلّفات البنية السابقة حيث استمرّ فيها تأثير شتّى أنواع العصبيات التي كانت قائمة قبل انتصار الثورة البورجوازية. استحضرت القوى الاستعمارية في محاولتها السيطرة على المستعمرات السابقة ما رفضته وقاومته في بلدانها من علاقات وبنى قديمة. وهذا ما حصل، بشكل خاص، في لبنان، حيث أُرسي نظامُه، برعاية وضغط من الانتداب الفرنسي، على اعتماد الطائفية السياسية أساساً للهرمية السلطوية ولتوازناتها ولتمايزها (الامتيازات) فيما بينها.
تسوية «الطائف»، بعد حرب أهلية دامت 15 سنة (وكان من أهم أسبابها الامتيازات المشار إليها والمكرّسة لاحتكار مواقع القرار في السلطة)، تعطّلت بسبب تمسّك المستفيدين والطامحين، وبرعاية خارجية دائماً، بالصيغة الطائفية للحكم ومؤسّسات السلطة، خلافاً لما أُقر في اتّفاق «الطائف» من إصلاحات أبرزها وجوب إلغاء الطائفية السياسية ضمن خطة واضحة الآلية والمراحل. أدى ذلك إلى بتر مسار تلك التسوية بعدم تطبيق إصلاحاتها، ما أقام شراكة معطّلة، وأفضى، في مناخ استمرار النهب والسيطرة على مقدرات الدولة، إلى الأزمة التي نعيشها اليوم، حيث لبنان، الآن، في قلب إفلاس شامل. إنّ الإصرار على اعتماد الكوتا الطائفية والمذهبية وتعميمها في كلّ الحقول والمجالات، قد عطَّل القرار وشرَّع الفوضى والإفلات من المحاسبة والرقابة. لقد نشأت، في كنف الدولة المركزية وعلى حسابها، عدّة دويلات متنازعة ومتنافسة وتابعة، غالباً، للخارج.
في مجرى ذلك حرصت القوى المستفيدة على تعميم نظرية «فرادة» الشعب اللبناني في التشبُّع والتشبث بالطائفية باعتبارها راسخةً في جيناته وتركيبته. وهي حاولت، دائماً، بالخداع والمناورة، حجب ما هو مبذول من جهد، وقائم من مؤسّسات، لتغذية الطائفية وإكسابها بعداً تأسيسياً ووجودياً ومصيرياً في البنية والبيئة اللبنانيتين: ليس للماضي فقط، بل للحاضر والمستقبل أيضاً.
بناء منظومة أيديولوجيا وعصبيات، واستخدام وتسخير السلطة وموارد الدولة والمؤسّسات الاجتماعية والتربوية و... رسخت هذا الاعتقاد. رسخته، أيضاً، نزاعات في هذا الاتّجاه وحروب أهلية تفاعل في تغذيتها وإطالتها العاملان الداخلي والخارجي. هذه وسواها كوّنت أجيالاً مخدَّرة بهذا الوهم وتلك «الفرادة اللبنانية» العجيبة.
الأزمة الاقتصادية التي اقترن تفاقمها بتعاظم النهب والفساد وتسخير السلطة والاعتداء على المال العام وثروات البلاد، دخلت إلى بيوت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ضمن تهديد غير مسبوق. مجمل مصير الشعب والوطن بات على المحك، أيضاً، في فضاء إقليمي مُشبع بالانقسامات والحروب ومشاريع التفتيت: بالعصبيات، وبالتدخل الخارجي، وبالأزمات والحروب الأهلية والبينية المتناسلة والجوالة في العالم العربي: دونما استئذان أو استثناء...
التراكم النضالي التقدمي في سبيل التغيير الذي ظلّت خميرته موجودة، ولو خافتة وضعيفة، تحوَّل، مع اشتداد الأزمة وتحدياتها الشاملة، إلى تحفيز صحوة واسعة في الأذهان والعقول والهمم. هذا ما حصل، منذ أكثر من خمسة أسابيع، في انتفاضة أدهشت الجميع وأربكت أطراف السلطة. وهي ما زالت مستمرّة، بزخم وإصرار، رغم التشتت وانعدام وحدة البرنامج (وبالتالي الأولويات)، وكذلك وحدة القيادة في إطار أو في صيغة تنسيق وتكامل وتفعيل.
لا يفوتنا، للحظة، أن «الصحوة» المذكورة تجري وسط صراعات ضارية، بين أطراف السلطة، على الحصص والنفوذ والسياسات. لا يفوتنا، بشكل خاص، متابعة الدور الذي تحاوله قوى خارجية، استعمارية بالدرجة الأولى، لتوجيه الانتفاضة وفق مسارٍ يخدم، في النهاية، مصالح هذه القوى وحليفها العدو الصهيوني. لكن ذلك، وإن كان يبعث على الكثير من الحذر، إلَّا أنه لا ينبغي أن يحول دون المضي في الاحتجاج إلى مداه الشعبي الممكن مع تحسين الأداء والأدوات وتحديداً الأولويات، بما يكفل تحقيق ما بات ذا أولوية مطلقة ومصيرية للحكم على النجاح والفشل والخطأ والصواب... وبشكل لا يقبل التردّد. يتمثّل ذلك، حتماً، بأولوية تحرير نظامنا السياسي من منظومة التحاصص الطائفية التي دمرت موارد البلاد وعافيتها، ومنعت قيام المؤسّسات، وأفقرت أكثرية الشعب الساحقة، ووضعت البلد على هاوية الفشل والخراب والإفلاس.
ثمّة أمر لا بدّ من التركيز عليه، وهو أن تلك «الصحوة» الواسعة أثارت، أيضاً، قلق فريق المقاومة الذي قدّم مساهمة ثمينة، ومما يزال، في حقل الصراع المفتوح مع العدو الصهيوني. هذا الطرف رتّب أموره وحساباته على أساس توازنات السلطة القائمة والتي باتت مدانة تاريخياً وسياسياً: بسبب نهبها وتفريطها بصالح البلد وشعبه، وبسبب ارتهانها السياسي والاقتصادي للغرب الاستعماري. هذه القوى مطالبة، الآن، بعد الأزمات والتحولات الانعطافية المتواصلة، بابتكار مقاربة أوطريقة جديدة في بناء الضمانات والتحالفات: بالاستناد، أكثر، إلى قوة الشعب لا إلى قوة الحاكم.
العبور إلى دولة مدنية هو جوهر كل إصلاح. كل أولوية أُخرى قابلة للضياع والتبدّد في مواجهة مناورات قوى المحاصصة المتمرسة بالمناورة والخداع. إن تبنّي هذه الأولوية، مقرونة بموجباتها الاقتصادية والمالية، هو الذي ينقذ لبنان ويعالج اختلالاته المتعدّدة. إنه، هو فقط، ما يمكن أن يجذّر الانتفاضة ويحوّلها إلى ثورة حقيقية!
* كاتب وسياسي لبناني