أثبتت الأيام والأسابيع الماضية من عمر الأزمة، أن مشهد الاحتجاج لا يمكنه تفادي «الخصوصية اللبنانية»، لما هي من معطىً يتجاوز طبيعة النظام السياسي نفسه، ليصل إلى العمق الاجتماعي للمشهد برمّته. في الأسابيع الأولى، جُرِّبت استراتيجية الساحات المتضامنة مع بعضها، كتعبير عن إمكانية تجاوز الحواجز التي وضعتها سوسيولوجيا الحرب بين اللبنانيين، ولكن نجاحها لم يكن كبيراً إلا في المناطق التي لا تتمتع بمركزية كبيرة، أو لا تخضع مباشرة لنفوذ الأحزاب (بيروت، طرابلس وصيدا). وحتى هذه التجمّعات، بدا تأثيرها متفاوتاً ــ باستثناء حالتي صيدا وكفررمان ــ نظراً إلى القطيعة التي يمثّلها حضورها مع نماذج التغيير السابقة التي شهدها لبنان، والتي يعتبر حضور اليسار فيها أساسياً، لجهة العمق الاجتماعي الذي يمثّله، وطبيعة المعركة نفسها، بما أنها صراع ضدّ السياسات الاقتصادية الاجتماعية لتحالف أمراء الحرب والأوليغارشية. هذه المرّة، ولأسباب موضوعية، لم تغِب المعارضة للنهج النيوليبرالي الذي أفضى إلى الانهيار والإفلاس، ولكن حضورها لم يكن مطابقاً تماماً للواقع، حيث بدت من دون أدوات فعلية للاشتباك، على مستوى التنظيم والقيادة وصياغة التحالفات مع الأطراف المتضرّرة فعلياً من حالة الإفقار العامة. غياب التحالفات الطبقية الفعلية مع البيئات المسحوقة بفعل الانهيار، جعل الكفّة تميل إلى مصلحة تنظيمات المجتمع المدني التي عملت في السنوات الماضية على ملء الفراغ الذي خلّفه اليسار، وهو ما وضعها في موقع القيادة للاعتراض بدلاً منه، على الرغم من عدم امتلاكها تصوُّراً يضاهي ما يطرحه منظِّروه لجهة تنظيم العلاقة مع الرأسمالية اللبنانية، بغية تجاوزها لاحقاً إلى ما هو أفضل.
التغيير وفقاً للمجتمع المدني
انعكس هذا الأمر خللاً في المشهد، لجهة غياب العناصر التي تربطه بالعمق الاجتماعي الفعلي للأزمة. المواجهة مع المصارف التي تسبّبت بالانهيار حضرت، ولكن كخلفية للمشهد الذي يُراد منه في شكله الحالي تجاوز الاجتماع السياسي القائم، بمجموعة من المشهديات غير المترابطة، والمنقطعة أساساً عن التراكم التاريخي للمسألة اللبنانية. انهيار التسوية الرئاسية وتوزُّع أفرقائها على طرفي المواجهة، عبر الحضور في الساحات كمشاركين في الاحتجاجات أو معترضين عليها، أضافا إلى الأزمة تعقيداً جديداً، حيث بدت السياسة كما نعرفها تاريخياً في لبنان غائبة لمصلحة مشهد لا يُعرف إن كان بالفعل تعبيراً عن واقع فعلي أم عن صورة متخيّلة له. المشهدية الجديدة أربكت الجميع، وأجبرتهم على التموضع وفقاً لمنطقها الذي يفترض التحرُّك من خارج الاصطفافات التاريخية للسياسة اللبنانية، بما في ذلك حضور اليسار نفسه. المواجهة مع السلطة بهذا المعنى افتقرت إلى الأدوات السابقة، سواءً قبل الحرب أم بعدها، وبدت خاضعة بالكامل لمنظور منظمات المجتمع المدني التي تعمل بمنطق أدوات الضغط، لا بالتحالفات السياسية أو الطبقية. العلاقة بالمجتمع هنا ليست إلزامية، سوى في حدود ما يمكن أن يمثّله من ضغط جزئي على السلطة، لجهة إقرار التشريعات أو القوانين التي تعمل هذه المنظمات لأجلها. الأحزاب، وخصوصاً في اليسار، لا تقرّ بهذا النوع من العمل، فهي بخلاف الجمعيات تملك صفة تمثيلية وتعبّر عن عمق اجتماعي يتفاوت حضوره بين مرحلة وأخرى، ولكنه يظل أساسياً حين يتطلب الأمر الدخول في معركة مطلبية جزئية أو خوض مواجهة شاملة مع السلطة. التعارُض بين المنطقين هو ما يجعل من تحالفهما الحالي أمراً مُربكاً بالنسبة إلى الأكثرية، التي ترى أنّ الدفاع عن مصالحها في مواجهة تحالف أمراء الحرب والأوليغارشية يتطلّب مواجهة من نوع آخر، وبأدوات تمثل امتداداً للصراع التاريخي مع السلطة في لبنان، لا قطيعةً معه انطلاقاً من افتراض أنّ «الخصوصية اللبنانية» باتت تمثّل عائقاً أمام التغيير.

شكليّة التعاطي مع الأزمة
غلَبَة هذا المنطق الشكلي في الصراع مع السلطة جعلت النتائج تبدو «متواضعة»، وخصوصاً بعد استقالة الحكومة، حين انتقل الزخم في غياب استراتيجية تصعيد واضحة إلى مسألة قطع الطرقات، بالتوازي مع الاستمرار في الإضرابات الجزئية والاحتجاجات أمام المرافق التي يمكن اعتبارها منهوبة أو مستولىً عليها. هذا الشقّ من التصعيد فرضه وجود اليسار في المشهد، على اعتبار أنه يمثّل استمرارية لنضاله من أجل استعادة الثروة المنهوبة من سلطة رأس المال. ولكن حصوله كان يصبّ في مصلحة منطق الجمعيات نفسها التي لا تعارض القيام بهذا النوع من الأعمال، طالما أنها لا تحدِّد الوجهة العامة للاحتجاج، وتندرج بالتالي في إطار خطّتها لتنويع أشكال الضغط على السلطة. حتى استراتيجية قطع الطرقات التي قادتها أحزاب السلطة المستقيلة، بدت في مصلحة الجمعيات أكثر من أيّ أحد آخر، على اعتبار أنها كانت تحصل في غياب فاعل واضح، وهو ما جعلها تبدو استكمالاً لمشهد القطيعة مع الاجتماع السياسي الفعلي لصالح «الواقع الشبكي» الذي تمثّله الساحات. هذا الأمر جعل التصعيد يتمحور حول القيادة التي يمثّلها المجتمع المدني، بما تقوم به من توزيع للأدوار على الفاعلين الآخرين، وبما تنتجه من أدوات لجعل الواقع يتناسب مع منطقها في العمل وليس العكس. الدفع بهذا الاتجاه من دون سواه هو ما أنتج فكرة البوسطة مثلاً، والتي بدت حتى كاستعارة مفارِقة للواقع الاجتماعي الفعلي الذي أنتج الحرب، حيث ووجهت الفكرة بالعبور من شمال البلاد إلى جنوبها بعراقيل تعبّر عن التعارض بين ما يقوله هذا المنطق التبسيطي، وما تفعله السوسيولوجيا الفعلية للبلاد من تعميق لجغرافيا الأزمة والربط بين أبعادها المختلفة. الرفض لم يكن هنا لفكرة توحيد اللبنانيين أو لجعل جغرافيتهم متصلة فعلياً، بقدر ما كان رفضاً لهذه المقاربة التي تختزل تعقيدات الواقع، وتجعله يبدو أقرب إلى «قصص الجدّات» منه إلى موازين القوى الفعلية التي أفضى إليها التراكم الاجتماعي، والتي يمكن انطلاقاً منها لا من العمل الميديائي للجمعيات تجاوُز الجغرافيا الاجتماعية الفعلية للحرب واتفاق الطائف. الاشتباكات التي حصلت لاحقاً في أكثر من ساحة (والتي يتحمل حزب الله مسؤولية عدم تفاديها)، أتت للتأكيد على هذا المعطى، حيث ما إن يتراجع زخم الاحتجاج وفقاً للمنطق الميديائي حتى تعود السوسيولوجيا الفعلية للظهور، ولكن ليس كواقع وحيد ونهائي كما كانت عليه الحال سابقاً، بل كإمكانية لمعاودة تثبيت موازين القوى السابقة في حال تراجُع الوجهة الراديكالية للاحتجاج لمصلحة الجمعيات مجدداً.

خاتمة
هذا لا يعني أن الواقع الاجتماعي سيعود إلى ما كان عليه سابقاً، وخصوصاً في ظلّ عجز السلطة المطلق عن تفادي حالة الانهيار، ولكن أقلّه في حال حصول تغيير فعلي ألا يكون ذلك وفقاً لتوازنات المشهد الحالي الذي لا يبدو حتى الآن أنه يمثّل عمقاً اجتماعياً فعلياً بالمعنى الشعبي، حيث يتطلّب الخروج من حالة المراوحة والعجز عن الحسم وجود جسم اجتماعي متماسك وكبير وراء الاحتجاجات، وهو ما لم يتحقّق حتى الآن. البقاء في هذا المربّع تحت رحمة التغيير وفقاً لمنظور المجتمع المدني يعني المزيد من العجز في استقطاب الكتل الاجتماعية الكبرى صاحبة المصلحة في القطيعة، ليس فقط مع النهج الريعي الذي تقوده المصارف، بل أيضاً مع الوجهة المستقبلية لتكريس المديونية الخارجية (أموال مؤتمر سيدر) كحلّ وحيد للخروج من الأزمة، الأمر الذي لا تزال تدفع في اتجاهه هذه المنظمات عبر اقتراح حكومة التكنوقراط. هذه الوجهة النيوليبرالية تؤكّد استحالة حصول تغيير فعلي من خارج السوسيولوجيا الحالية التي تبلورت في إطارها كلّ النضالات السابقة ضدّ التراكم الذي تحقّق للأقلية الحاكمة قبل الحرب وبعدها. الخروج من الطائف ومن الحريرية السياسية بهذا المعنى هو خروج بمعيّة الأكثرية، وليس من دونها كما تقترح الوجهة الحالية للاعتراض بقيادة المجتمع المدني، حيث لا نظام قديماً مع بقاياها، ولا نظام جديداً من دونها، ككتلة كبرى وتحالف طبقي عريض.
* كاتب سوري