بعد تصويت الكونغرس الأميركي، بأغلبية ساحقة، على مشروع قانون يعترف بأن عمليات القتل الجماعي التي تعرّض لها الأرمن بين عامي 1915 و1917 هي «إبادة جماعية»، أفشل الجمهوريون التصويت على مشروع قرار مماثل في مجلس الشيوخ. إذ منع السناتور الجمهوري كيفن كرامر مجلس الشيوخ من التصويت على مشروع قانون يعترف بالإبادة الجماعية التي قامت بها تركيا بحق الأرمن، معتبرًا أن الوقت غير مناسب لإصدار تشريع يثير غضب تركيا.هي ليست المرة الأولى التي يعرقل فيها الجمهوريون إقرار هذا القانون الذي طرحه السيناتور الديمقراطي بوب مينيديز في مجلس الشيوخ. إذ سبق أن عرقل السيناتوران الجمهوريان ليندسي غراهام وديفيد بيردو تمرير مشروع القرار نفسه، معتبرين أن من غير المناسب زيادة التشنج في العلاقات مع تركيا، خصوصاً في ظل توتر غير مسبوق تشهده العلاقات التركية - الاميركية، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016، وتتابعًا قضية القس برونسون الذي اعتقل في تركيا بتهمة التجسس ومساعدة المنظمات الإرهابية، وتهديد ترامب بعقوبات اقتصادية على تركيا في حال عدم إطلاقه، إضافة الى قضية الشمال السوري والملف الكردي، ومؤخرًا قيام تركيا بشراء منظومة «أس 400» من الروس، وامتناع الولايات المتحدة عن تسليم طائرات «أف 35» كانت تركيا قد ساهمت في صناعتها.
لا ينفك أردوغان يناور في موضوع الاعتراف بالإبادة الأرمنية، ومن خلال إعادة طرح تشكيل لجنة تركية - أرمنية مشتركة للبحث في الاثباتات التاريخية، الذي أطلقه أردوغان خلال لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تشرين الثاني المنصرم، يظهر وكأنه يحاول دقّ أسفين بين الأرمن أنفسهم من خلال «تجديد دعوته» دولة أرمينيا للقيام بتشكيل لجنة مشتركة للبحث في المسألة، أي تجديد ما جاء في البروتوكولين الموقعين بين البلدين في تشرين الأول من عام 2009، حيث وقعّت تركيا وأرمينيا بروتوكولين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، ومن بنودهما إجراء دراسة علمية للمراجع التاريخية والأرشيفات للوصول الى حلّ مشترك لقضية الإبادة.
إن اردوغان المحرج داخليًا بخسارة حزبه في الانتخابات البلدية، والذي بنى سلطته ونفوذه على محاولة استعادة إرث الدولة العثمانية، ويعمل على تحويل بنية المجتمع التركي العلماني الى مجتمع اسلامي تستعاد فيه كل مظاهر الفخر بالإرث العثماني... يدرك أن الحسّ الشعبي العام والأحزاب المختلفة في تركيا لن تقبل بأي شكل من الأشكال بالموافقة على الاعتراف أو مجرد القبول بتشكيل تلك اللجنة ما يعني طرح الشكوك حول قيام العثمانيين بتلك الإبادة، وهو ما سيحرجه شخصيًا في الداخل التركي.
لكن الطرح يأتي كمناورة لإدراكه أن ما تمّ التوافق عليه بينه وبين ارمينيا يمسّ بشكل أساسي بنص الدستور الأرميني وروحه، وأنه لن يلقى قبولاً لدى الأرمن الموجودين في الشتات. فقبول السلطات الأرمينية الحالية العودة الى تفاهمات تشرين الاول 2009 مع تركيا، سيساهم في تقويض المجتمع الأرمني من الداخل وبث الخلافات في ما بينهم على قضية تعتبر من صميم وأسس الذاكرة الجماعية الأرمينية في العالم. أما موافقة أرمينيا على تشكيل تلك اللجنة فسينزع أوراق القوة من لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية في تواصلها مع برلمانات العالم. إذ سيسارع الأتراك الى التواصل مع العالم للقول «إننا نحقق في القضية وانتظروا نتائج التحقيق».
هذا في السياسة أما في القانون، فيراهن أردوغان على سوابق أخرى في القانون الدولي، ومنها سابقة الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 2007، في قضية البوسنة ضد صربيا. فرغم إقرار المحكمة بحصول «إبادة جماعية» في سربرينتشا، إلا أنها وجدت أن صربيا كدولة بريئة من «المسؤولية» في وقوع هذه الابادة ومن «المساهمة» فيها... وبالرغم من أن حكم المحكمة وجد أن صربيا مذنبة بسبب «عجزها عن منع حصول الإبادة الجماعية»، لكن المحكمة رفضت طلب البوسنة بدفع صربيا تعويضات بمليارات الدولارات لضحايا المجزرة.
إنطلاقًا مما سبق، نميل الى الاعتقاد بأن أرمينيا لن تنجرّ للعودة الى إحياء تفاهمات سابقة مع تركيا لا يريدها أردوغان أصلاً، ويمكن أن تشكّل للأرمن حساسيات داخلية هم بغنى عنها. واليوم، يمكن للأرمن في العالم أن يحتفوا بالاعتراف السياسي العالمي الواسع لقضية الإبادة الاولى في القرن العشرين. ورغم أن لا مفاعيل قانونية لهذا الاعتراف العالمي، ولا يمكنه إلزام تركيا بالاعتراف والتعويض، إلا أن التاريخ يشهد للأرمن قدرتهم على استمرار بعث الروح في قضيتهم، وهو ما لم يستطع آخرون القيام به، كاللبنانيين والأشوريين والسريان وغيرهم.

* دكتوراه في العلاقات الدولية.