لم ينتهِ القرن العشرون، إلا واكتمل انفتاح اقتصادات دول وشعوب الأرض على سوق مشتركة عالمية تمدّها حرية حركة الأفراد ورؤوس الأموال والسلع والخدمات، بشبكات متزايدة الترابط من التواصل والاتصالات والمعلومات والمبادلات. فلم يعد من الممكن لأي دولة مهما عظم شأنها، أن تستقل عن غيرها من الدول استقلالاً تاماً، بمعنى أنه لم تعد توجد اليوم دولة تكفي نفسها بنفسها. وهكذا، باتت العولمة التي صنعها الغرب الأوروبي ــ الأميركي، تلك الظاهرة الأساسية التي أرخت بمفاعيلها المستجدة والعميقة، لا على العلاقات الدولية اقتصادياً وسياسياً وحسب، بل أيضاً على العلاقات المجتمعية والثقافية بوجه عام.
في المشهد الجغرافي العام
قد توحي العولمة للوهلة الأولى، بأن دخول شعوب كوكب الأرض في علاقات جديدة كثيفة، من شأنه أن يجعل الأمور تبدو كأن سكان الأرض يعيشون في عالم على قدر كبير من التجانس في معظم شروط معيشتهم، لكن الواقع هو على غير ذلك، إذ إنه ينطوي على مفارقة متمثلة في ما يقود إليه تصاعد تشابك العالم، من إنتاج التناقضات المتفاقمة والذاهبة به إلى استفحال التفاوتات بين الفقراء والمحرومين من جهة، والأغنياء والمترفين من جهة من جهة ثانية، وكذلك بين الأمكنة التي تتوافر فيها الخدمات بأبهى حللها، والأخرى المهمّشة أو المستبعدة والفاقدة لأدنى شروط العيش الكريم.
كشفت العولمة، نهاية القرن العشرين، عن توزّع المجال الجغرافي الأرضي على عالمين، «شمال» غني فاعل ومقتدر، يتقدمه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً الغرب الإمبريالي الأميركي ــ الأوروبي، و«جنوب» فقير ضعيف، ومسلوب الإرادة، وبينهما علاقة يحكمها انعدام شبه شامل في التوازن، أفضى إلى تبعية مرهِقة من قبل الجنوب لمراكز القرار الاقتصادي والسياسي في الشمال، لا سيما الغربية الأميركية ــ الأوروبية منها.
غير أن العلاقات الاقتصادية المعولمة، والتي راحت تتدرج نحو التحرّر من القيود الحمائية بين الدول وتداخلها الشديد، في ظل التنافس الرأسمالي الحاد، دفعت بالمجمّعات الصناعية الكبرى إلى افتتاح فروع عديدة لها في دول الجنوب الفقيرة، بهدف التقليل من التكلفة الإنتاجية لها. في المقابل، تمكّنت دول من الجنوب من تحقيق قفزات نوعية على طريق النهوض الاقتصادي والتنموي البشري، فلم ينتهِ العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، إلا وكانت العلاقة بين الشمال والجنوب قد بدأت تشهد تحوّلات، أتاحت لهذه الدول الناهضة، في مقدمها الصين ومعها الهند وماليزيا وتركيا والمكسيك والبرازيل... لا أن تعيد بعضاً من التكافؤ مع الشمال وحسب، بل أن تتمكن من لعب أدوار مؤثرة وفاعلة في المجالات الاقتصادية لدوله، وذلك بعدما صارت سلع الجنوب تغزو أسواق هذه الأخيرة، بتكلفة متدنية، ما أدّى في نهاية الأمر إلى إجبار العديد من المصانع فيها، إما على الإقفال وإما على الانتقال بدورها إلى الجنوب. وقد عنى ذلك تسريح أعداد متزايدة من اليد العاملة، بمن فيها الماهرة منها، ما استولد في الشمال أزمات اقتصادية متلاحقة.
في هذه الأثناء، كانت الولايات المتحدة، وكذلك دول أوروبا الغربية، تشهد تدريجياً انحسار مساهمة القطاعات الصناعية الاستهلاكية في الناتج المحلي الإجمالي الذي بات يعتمد بشكل أساسي على الاقتصاد ما بعد الصناعي، المتمحور حول التكنولوجيا الرفيعة وتطبيقاتها في ميادين الاتصالات، والروبوتات، والمعلوماتية، وفي الخدمات العليا الطبية والتعليمية، والسياحية، وتفعيل شبكات التواصل الإلكترونية. ميزة هذا الاقتصاد هي في اعتماده على الكوادر الكفوئين، من دون الحاجة إلى العديد من العمالة، كما في الصناعات التقليدية. وهو جعل من بلدان عالم الشمال، لا سيما الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، مجالاً استقطابياً للأنشطة الرأسمالية.
في مختلف الأحوال، لم يمضِ وقت طويل حتى تدفقت إلى الشمال موجات بشرية قادمة من الجنوب، يحكمها ما يشبه قانون الأواني المستطرقة في الفيزياء الخاص بالحاويات المتصلة بما فيها من سائل متجانس: في الشمال، ثروة وخدمات مع نقص ديموغرافي، في الجنوب فقر، وبؤس، وحروب، مع فائض ديموغرافي.
أثارت موجات الوافدين، منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، ردود فعل متنامية السلبية على المستويات الثقافية، والهوياتية، والأمنية. ومذّاك، حتى اللحظة، وعلى رغم جميع العوائق التي صارت ترفع في وجههم، فإن الوافدين كانوا وما زالوا يستميتون، بالمعنى الحرفي للكلمة، للوصول إلى البلدان التي يحلمون بها؛ فمنهم من يقضي غرقاً في البحر المتوسط لدى عبوره إلى أوروبا، ومنهم من يتعرّض لمختلف أنواع الإساءات من قبل القوى الأمنية في البر الأوروبي، أو في البر الأميركي، جنوب الولايات المتحدة.
وعليه، فإن عامل نهوض بعض دول الجنوب بقدراتها التنافسية المؤذية لاقتصاد الغرب الأوروبي ــ الأميركي من جهة، وعامل الهجرات الوافدة إليه من جهة أخرى، طرحا جملة من التحديات، بدّلت من موقف أهل الغرب الأوروبي ــ الأميركي إزاء العولمة، بحيث أدت بمجموعات وازنة من سكان دوله إلى ارتيابٍ متنام بشأن نتائجها.

تراجعات في المسار الأوروبي
منذ انهيار جدار برلين ومعه الاتحاد السوفياتي، نشطت آليات العولمة من دون عوائق تذكر، لصالح الغرب الإمبريالي، غير أن ما أفضت إليه بعد أقل من عقدين من الارتياب المشار إليه أعلاه، أسهم في تنمية تيارات سياسية فيه كانت حتى وقت قريب تعاني من التهميش والعزلة. اتسمت هذه التيارات، التي يصفها خصومها باليمينية المتطرفة أو الشعبوية، بالدعوة إلى الانكفاء عن الخارج واتخاذ مواقف معادية للعولمة وآلياتها. وبدت هذه التيارات، وكأنها تعبّر عن شكل خاص للقومية يمكن أن ندعوه «القومية الانطوائية»، وهو شكل مختلف عن شكل «القومية الأصلية الجامعة»، إذا جاز التعبير، أي القومية التي تأسّست عليها الدولة المعاصرة في العالم الغربي.
منذ انهيار جدار برلين ومعه الاتحاد السوفياتي نشطت آليات العولمة من دون عوائق تذكر لمصلحة الغرب الإمبريالي


تميزت القومية الانطوائية بهاجس التأكيد على الهوية الوطنية والانكفاء إلى داخل حدود الدولة في معالجة المسائل الاقتصادية، السياسية والمجتمعية، والدعوة إلى التشبث بأوجه الحياة الغربية وأنماطها المعيشة، في مواجهة ثقافة الوافدين. وقد تحوّل ذلك في ما بعد إلى مواقف سلبية إزاء شرائح اجتماعية واسعة من أصول أجنبية، ما أدى إلى بروز قدر معيّن من التنابذ بين فئات المجتمع الواحد في الدولة الواحدة. هذا الشكل من القومية الانطوائية، بدا في حالة متباينة مع بنية الدولة الغربية المعاصرة، القائمة على القومية الأصلية، أي القومية التي تصدّت للاستبداد الماضي، إبان حكم الملك والدين والإقطاع، وأقامت الدولة على مبدأ إرادة الأمة العامة والجامعة.
أنتجت القومية الانطوائية جملة من التوترات الهوياتية، وأعادت طرح السؤال الخاص بالهوية الوطنية. ففي فرنسا على سبيل المثال، دارت، ولا تزال، نقاشات واسعة بشأن من هو الفرنسي ومن هو غير الفرنسي، في مشهد يذكّر بشعوب ودول عالم الجنوب المتأخر عن مواكبة الحداثة في المجال السياسي لجهة الهوية القومية. وقد ازداد النقاش احتداماً وتوتراً في أوروبا، مع دخول العامل الديني المتمثل في الإسلام، وما يواكبه من مظاهر ثقافية مغايرة لما هو سائد فيها، فضلاً عمّا علق في الأذهان من صلته بالتشدد والإرهاب. وعلى هذا، انعكست التشققات الهوياتية سلباً على ثقة المواطنين في قدرة الدولة على الجمع بين مواطنيها في مجتمع موحّد الهوية القومية.
إلى ذلك، قادت عولمة الرأسمال في سياقات التنافس الحاد الملازم لأنشطته، إلى إنتاج تناقضات مكانية أسهمت في نمو هويات جهوية، انطلاقاً ممّا يمكن أن تضيفه هذه المنطقة أو تلك، من قيم تجارية على منتجاتها مستمدة من هويتها الجغرافية. فقد استحدث اقتصاد السوق الرأسمالي ظاهرة «البيانات الجغرافية وتسمية المنشأ» بالنسبة إلى السلع ذات العلاقة المباشرة بالعناصر الجغرافية الطبيعية أو البشرية أو الاثنين معاً. وتتمثل هذه «البيانات الجغرافية» بإشارة توضع على السلع تحدّد منشأها الجغرافي، بما له من صفات تعبّر عن جودة وسمعة تُعزيان إلى مكان المنشأ، وما يوفره من عوامل طبيعية، من تربة ومناخ... وأخرى جغرافية بشرية، من حرفية ومهارات يتميّز بها أهل المكان المعني، على أن يؤدي كل ذلك إلى تسابق اقتصادي بين المناطق يبدو كأنه تعبير جغرافي عن قانون التنافس المعمول به في النظام الرأسمالي، وهو قانون يسهم حكماً في تشكل شخصيات جغرافية محلية متمايزة، على حساب الشخصية الوطنية الجامعة.
في مختلف الأحوال، أفضت العولمة خلال العقدين الأخيرين، في أوروبا، إلى جملة من الانعكاسات السلبية، تمثّلت في أمور عديدة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، تعثّر الاتحاد الأوروبي، وتفكك أواصر العلاقات بين دوله، ثم تراجع دورها السياسي والدبلوماسي على المسرح الدولي، فضلاً عن خروج بريطانيا من الاتحاد، وما قابله من إصرار اسكتلندا على البقاء فيه، في ظل فوضى سياسية تتحكم أكثر فأكثر في العاصمة لندن. وتضاف إلى كل ذلك، بوادر صعود حركات سياسية انفصالية، أعنفها محاولة استقلال كاتالونيا عن إسبانيا، الأمر الذي سبقه إفلاس دولة اليونان وصعوبات اقتصادية متنامية في مناطق عديدة، لا سيما من دول أوروبا الجنوبية، لم ينفع معها «الصندوق الأوروبي للتنمية المناطقية»، الذي أنشأه الاتحاد الأوروبي بغية تحقيق التجانس في النمو الاقتصادي.

تحويلات في المسار الأميركي
في التسعينيات من القرن العشرين، بدت التكتلات الاقتصادية بين الدول كأنها من متطلبات العولمة، وعلى هذا أقدمت الولايات المتحدة على تنفيذ مشروعٍ هدفه جعل أميركا الشمالية سوقاً موحّدة، فأنشأت «منظمة التجارة الحرة لأميركا الشمالية» ــ الـ«نافتا»(NAFTA . North American FreeTrad Agreement)، حيث دخلت قرارات المنظمة حيّز التنفيذ عام ١٩٩٤، عندما تمّ إلغاء التعرفة الجمركية عن نصف السلع المتبادلة بين دول أميركا الشمالية الثلاث ــ كندا، الولايات المتحدة، والمكسيك ــ على أن تُلغى بالكامل، بحلول عام ٢٠١٠. وقد أطلقت المنظمة حرية حركة رؤوس الأموال والسلع والخدمات، والسكان... وخلال التسعينيات أيضاً، برز في موازاة الـ«نافتا» تكتّل ضمّ معظم دول أميركا الجنوبية، بإنشاء «السوق الأميركية الجنوبية المشتركة» ــ «ميركوسور» (MERCOSUR. Mercado Comun Del Sur)، حيث تمّ الإقرار، عام ١٩٩٥، بالعمل على تحرير المبادلات التجارية بين الدول الأعضاء، وتوحيد التشريعات المتعلقة بالسياسات الاقتصادية. لكن سرعان ما راح تكتل «ميركوسور» يتعرّض للضغط من قبل الولايات المتحدة، بقصد إنشاء منطقة للتبادل الحرّ تشمل القارة الأميركية بأكملها (باستثناء كوبا). لم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل عمدت إلى إلحاق الـ«نافتا» بتجمّع «التعاون الاقتصادي للدول المطلة على المحيط الهادئ» ــ «أبيك» (APEC . Asiatic Pacific Economic Coorporotion)، حيث راحت تدفع باتجاه تسريع عملية تحرير المبادلات عبر المحيط الهادي لخلق منطقة تجارية حرّة، تشمل القارة الأميركية وآسيا الشرقية، على طريق التحرير الكامل للتجارة العالمية. ثم، وسّعت الولايات المتحدة من ضغوطها، لتحرير التجارة الدولية وإلغاء السياسات الحمائية، في سياق العمل على تحرير مختلف الأنظمة الاقتصادية في إطار عولمة الرأسمالية. غير أنه لم يمضِ العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، إلا وكانت الولايات المتحدة قد بدأت بإعادة النظر في اتفاقيات التكتلات الاقتصادية المشار إليها أعلاه، ثم ما لبثت أن فرضت قيوداً زاجرة، على المبادلات التجارية وعلى حركة رؤوس الأموال الأوروبية، وعلى رؤوس أموال الدول الناهضة من عالم الجنوب، كما راحت تتشدّد إزاء الوافدين إليها، لا سيما من أميركا اللاتينية.
تضافرت عوامل خارجية وداخلية عديدة في دفع الولايات المتحدة، أدت إلى تحويل مسارها بشأن العولمة، حيث وجدت أن الثمار الاقتصادية الناتجة منها، تحوّلت بجزء كبير إلى غيرها من دول الجنوب الناهضة، كما أن حرية حركة السكان أنتجت، كما في أوروبا، إشكالات داخلية أيقظت التصدعات الاجتماعية العرقية المؤذية.
خارجياً، أدى فتح الأسواق وسيولة المبادلات المعلوماتية والتكنولوجية، في إطار العولمة، إلى إتاحة الفرص أمام فاعليات اقتصادية من عالم الجنوب، لا سيما الصينية منها، لا لمواجهة الهيمنة الاقتصادية الأميركية وحسب، بل أيضاً للدخول معها في تنافس اقتصادي شرس على الأسواق العالمية، في ما دُعي بالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. هذا وقد أسهم التقدم التجاري الصيني على الأرض، والحضور الفاعل لدول أخرى من الجنوب على المسرح الدولي، في جعل الولايات المتحدة تنتهج أسلوباً يتّصف بالصلف والعدوانية في علاقاتها الخارجية، فلم تتردّد في إطاحة المواثيق الدولية، وفي إلغاء اتفافيات سبق أن أبرمتها، كما حصل مع إيران بشأن الاتفاق النووي، أو في إلغاء بنود اتفاقيات من صُنعها، على ما جرى عندما أعادت التدابير التجارية الحمائية، بعدما فرضت الرسوم الجمركية على المستوردات الأوروبية وغيرها، وكذلك عندما أقدمت على نقض اتفاقية منظمة الـ«نافتا»، التي أشرفت على تأسيسها.
هذا على الصعيد الخارجي، أما على الصعيد الداخلي، فقد عملت الولايات المتحدة، بموجب بنود الـ«نافتا»، خلال التسعينيات من القرن العشرين، على استقدام المزيد من اليد العاملة المكسيكية الرخيصة، بعدما استحدثت المدن الاقتصادية الحدودية المشتركة، الـ«ماكيلادوراس» (Maquiladoras)، بإدارة رؤوس أموال أميركية ومكسيكية، لكن بأُجراء مكسيكيين بقصد تخفيض الكلفة، ما تسبّب تدريجياً في تدفّق موجات من الوافدين اللاتينو ــ إسبان من أميركا الجنوبية، أفضت إلى توترات عرقية وتشققات اجتماعية هوياتية، كما في أوروبا، فكان ردّ الفعل المثير والمستغرب، إقدام الحكومة الأميركية على بناء جدار عملاق يفصلها عن المكسيك، بحيث بدا كأنه يمثل الرمز المادي الأعنف لرفض ما آلت إليه نتائج العولمة من ارتدادات على صانعيها.
أما هل سيستمر ارتداد العولمة على صانعيها؟ فهذا موضوع آخر!

* أستاذ جامعي