«مؤتمر الشأن العام»، المُزمع انعقاده مطلع العام المقبل في مصر، تعترضه أسئلة جوهرية تستوجب الإجابة عنها، إذا ما أُريد له قدر من النجاح يساعد على بناء أكبر توافقات ممكنة أمام تحديات وأزمات بعضها وجودي. ما تعريف الشأن العام؟ هذا سؤال أول.ما طبيعة المؤتمر وأهدافه ونقاط التركيز فيه؟ هذا سؤال ثانٍ. ما مدى انفتاحه على الخبرات والكفاءات في مجتمعه واتّساع أفقه للتنوع الطبيعي في الاجتهادات ومواقع النظر المختلفة؟ هذا سؤال ثالث. ما حدود طاقته على تحريك المياه الآسنة في الحياة العامة ورفع منسوب الأمل بالمستقبل؟ هذا سؤال رابع. وما الإجراءات المسبقة التي تساعد في تغيير البيئة العامة المسمومة بما يتجاوز المؤتمر واحتمالات نجاحه؟ هذا سؤال خامس وحاسم حتى يكتسب الكلام جديته وحرمته.
إذا ما اتّسقت الإجابات مع التحدّيات، فإنّه مسار آمن يضمن سلامة الدولة وأمنها وتماسك مواطنيها بعيداً عن أيّة مخاوف وتساؤلات بشأن المستقبل وما قد يحدث فيه. وإذا ما خاصمت الإجابات التحديات، فإن النتائج معروفة سلفاً.
بقدر بداهة تعبير «الشأن العام» لا يوجد تعريف جامع مانع له. المقصود به كلّ ما يتجاوز الاهتمامات الخاصة إلى الشواغل المشتركة للمواطنين. كلّ ما يتحرك في مجتمع ما، مؤثراً بدرجات مختلفة بقطاعات ملموسة فيه، شأن عام.
التعبير فضفاض إلى حدّ أنه يحتمل أن تُدرج تحته كل القضايا والملفّات، باختلاف درجات أهميتها وخطورتها من أزمات الاقتصاد والإعلام والثقافة والفن والرياضة والحياة الحزبية والخطاب الديني، إلى أزمات الإقليم والنيران المشتعلة فيه والحرب على الإرهاب في سيناء وسد النهضة الأثيوبي، وصولاً إلى أزمات النظام الدولي وما يترتب عليها من انقلابات استراتيجية في هذا الإقليم الذي نعيش فيه.
بنظرة موضوعية، فإنّ الشواغل السياسية مثل أوضاع الحياة الحزبية وقوانين الانتخابات العامة لا تمثّل أية أولوية عند المواطن العادي، فالأوضاع الاجتماعية لها أولوية لا تنازع. رغم ذلك لا يوجد مدخل أهم من المدخل السياسي في قضايا «الشأن العام».
السياسة ووسائلها المفتاح الضروري لأيّ نقاش جديّ، أو أيّ تصويب ممكن في التصورات والسياسات. نصف السياسة كلام والنصف الآخر سياسات وإجراءات. إذا غابت حرية الكلام والتعبير يصعب التعرّف إلى مَواطن الخلل، وتغيب أية قدرة على التصحيح والتصويب.
عنوان «الشأن العام» يومئ إلى كلّ ما هو عام، وهذا يمسّ احتياجات حقيقية تطلب فتح المجال العام، وانفتاح الإعلام على التنوّع الطبيعي في المجتمع، وتوسيع الحريات العامة وإحياء الحياة الحزبية، التي تكاد تودَع غرف العناية الفائقة، أو تُنزع عنها أجهزة التنفس الاصطناعية التي تعيش عليها بالكاد.
تجديد الخطاب الديني استدعت أهميته فكرة المؤتمر نفسها، غير أنه لا يمثل أولوية في الشأن العام، ولا هو قضية رجال الدين وحدهم. إنه مسؤولية الدولة بالمقام الأول في تفعيل الالتزام الدستوري، بالفصل بين المقدس الديني والمتغير السياسي. بظاهر اسم المؤتمر فهو علامة على أن شيئاً يتحرك فتحاً للنقاش العام. إذا ما أُجهضت تلك العلامة فإنه إحباط جديد. هذا آخر ما يحتاج له بلد منهك يبحث بالكاد عن أمل.
بمنطوق مفهوم «الشأن العام»، فإنه يتداخل على نحو عميق مع مفهومين آخرين هما: السياسة والأمن القومي. أسوأ تعريف للسياسة، أن تلخّص في الأحزاب وصراعات السلطة، فهي باهتماماتها وميادينها ووسائلها تدخل في صلب كلّ ما يتحرك في مجتمعها من شواغل عامة. بصياغة أخرى: السياسة هي علم وفن إدارة الشأن العام. وبالقدر ذاته، فمن الخطأ الفادح النظر إلى الأمن القومي ككهنوت يصعب فك ألغازه، أو تلخيصه في الأمور العسكرية ومستويات التهديد على الحدود ومخاطر اختراق مجتمعه.
الأمن القومي باتّساع مفهومه مسألة كل مواطن، حياته ومستقبله، تعليمه وصحته، إنتاجه ومستويات معيشته وكرامته الإنسانية. إنه كلّ ما يؤكّد قوة المجتمع وتماسكه وقدرته على مواجهة تحدياته وصنع مستقبله بإرادته الحرة. بهذا المفهوم وحده، فإنّ أيّ حديث جديّ بالشأن العام هو حديث في الأمن القومي. الشأن العام مسألة بيئة عامة ومجال عام ونقاش عام، وهذا يفترض اتّساع الأفق على التنوع في المجتمع واحترام تعدديته. أي مجتمع يضيق عن التنوع الطبيعي فيه يضع مستقبله بين قوسين كبيرَين. وأي مجتمع لا يعرف كيف يستفيد من خبراته المتراكمة والكفاءات المتاحة داخله يمارس الحد الأقصى من الهدر التاريخي ويضع نفسه على منحدر.
الانفتاح على التعدد والتنوع، هو انفتاح في الوقت نفسه على العصر ودولة المؤسسات والقانون والمواطنة، التي لا يمكن أن تتأسس على إقصاء. هناك من يتصوّر أن من أهداف المؤتمر توعية الجمهور بالقضايا العامة. التوعية ضرورية لكنها لا تتأتى بلا مصداقية. هناك فارق جوهري بين التلقين والتوعية. التلقين إملاء والتوعية إقناع. في التلقين إعراض عن الحقائق، ماذا يريد الناس بالضبط؟... ما احتياجاتهم الإنسانية والاجتماعية والسياسية؟ التلقين لا يصلح في بناء الوعي العام.
في عصر السماوات المفتوحة والتواصل الاجتماعي، هذا التفكير تحليق في الوهم. الإملاء والتلقين قضية فاشلة مقدماً، والحوار والانفتاح بحرية على التنوع الطبيعي مقدمة لتجاوز أية جدران سميكة تحول دون صناعة الأمل في المستقبل. الأمل، كما الإصلاح، تصنعه الإجراءات قبل أي شيء آخر.
مشاركة النخب السياسية المدنية على تنوع اتجاهاتها، مسألة حاسمة في تقرير احتمالات النجاح والفشل. البلد يريد أن يسمع أفضل ما في نخبه العلمية والأكاديمية والأدبية والثقافية والسياسية، وأن يبث الكلام عبر الفضائيات إلى كل بيت. القضية ليست موالاة ومعارضة، بقدر حاجة البلد إلى كل صوت يلم بملفه ولديه ما يقوله ويستحق الاستماع إليه. إذا كانت هناك مشكلة في المصداقية، فلا أمل بأيّ استجابة من الجمهور العام. المصداقية تُبنى بالحوار المفتوح والحجج المتماسكة وفق قاعدة «أنت لا تقنع إلا بما هو مقنع» على ما قال لي ذات يوم الأستاذ محمد حسنين هيكل.
ردّ اعتبار السياسة يلغي أي استعصاء ويفتح المجال واسعاً للتقدم إلى الأمام بثقة. نقطة البداية الضرورية لدفع المواطنين بإرادتهم الحرة للمشاركة في صنع مستقبلهم، فتح المجال الإعلامي للحوار الموضوعي والجاد حول قضايا البلد ومستقبله والإفراج عن الشخصيات والكوادر المدنية، التي لم يعهد عنها تورط في عنف أو تحريض عليه. إذا ما جرت هذه الخطوة، التي تكاد تجمع عليها الشخصيات والنخب السياسية باختلاف مواقعها، فإن كل شيء في البيئة العامة شبه المسمومة سوف يتغير بعدها.

*كاتب وصحافي مصري