يُعتمد مفهوم «الاستزلام السياسي» (political clientelism)، لتفسير كيفية اشتغال الدولة المتخلّفة وتفسير سوء أدائها. وقد طبق مايكل جونسون هذه المقاربة في حالة لبنان، معتبراً أن «الاستزلام هو الظاهرة المركزية في الاقتصاد والمجتمع والسياسة اللبنانيين» (جونسون، 1986: 41). ويبدو النظام السياسي اللبناني في ضوء هذا المفهوم كنظام برلماني ــ استزلامي، حيث المنتخَبون هم «رؤساء شبكات محاسيب». يصل هؤلاء إلى البرلمان مستندين إلى أصوات ناخبين حصلوا عليها مقابل تنفيعات.
أولاً: النخبة النيو ــ باتريمونيالية
وقد فرضت المقاربة للدولة المتخلّفة بوصفها دولة نيو ــ باتريمونيالية نفسها في ميدان الأبحاث منذ الثمانينيات. وتعني النيو ــ باتريمونيالية استخدام محتلّي المواقع العامة لمواقعهم من أجل المنفعة الشخصية. وقد جرى استخدام هذا المفهوم بديلاً من مفهوم الاستزلام السياسي، لأنه أشمل ويغطي ممارسات متنوعة لا يغطيها الثاني (ميدار، 1982).
وتعود الأفضلية التي يتمتّع بها مقارنة بمفاهيم أخرى، كالمحسوبية (patronage) وتوزيع التنفيعات (prebendalism) ومحاباة الأقارب (nepotism) والقبلية (tribalism) إلخ، إلى طابعه العمومي كما سبقت الإشارة. ويمكن استخدامه للدلالة على دول نيو ــ باتريمونيالية تُغلّب كل منها إحدى هذه الآليات على غيرها في ممارستها (ميدار، 1995: 5).
تجهيز للفنان الاسباني ليدو ريكو

وهو يتيح تعريف نوع بعينه من النخب السياسية هي النخب النيو ــ باتريمونيالية. ويكون تعريف هذه النخب انطلاقاً من العلاقة التي تنسجها مع الدولة وتتلخّص بالاستخدام لمواردها للمنفعة الخاصة. ويبرّر خضوع الدولة للاستخدام الخاص لمواردها تسميتها بالدولة النيو ــ باتريمونيالية. والباتريمونيالية نمط تسلّط تاريخي، أول من عرّفه هو ماكس فيبر. ويقوم على استخدام صاحب السلطة للموارد العامة باعتبارها ملكاً له. وما يمنحه الشرعية هو الالتزام بالتقليد. أما في الدولة النيو ــ باتريمونيالية، فيستخدم صاحب السلطة الموارد العامة بالطريقة ذاتها. لكن ذلك يتمّ في إطار دولة تمتلك بنى شرعية ورسمية حديثة. وهي دولة تعتمد القوانين الوضعية وتستند إلى مرجعيات قانونية وعقلانية. ويدّعي القائمون عليها أنهم يلتزمون بأهداف بناء الدولة، ويعتمدون خطاباً حول المصلحة العامة.
ولأن منطق النيو ــ باتريمونيالية هو أولوية الاعتبارات الخاصة، أي خدمة المصالح الخاصة وليس الالتزام بالخير العام، فهي مصدر إعاقة للنمو الاقتصادي للبلد المعني، ومصدر سوء أداء سياسي وإداري للدولة. وهي دولة معادية للنمو الاقتصادي لأنّ النخبة النيو ــ باتريمونيالية تكون غير معنية بأهداف التنمية، بل بمراكمة الموارد الاقتصادية والسياسية لعناصرها. وهي بجعلها القرارات العامة خاضعة لمصالح الزعماء النيو ــ باتريمونياليين ومشيئتهم، تكون مصدر اعتباطية في القرار. وهي تخلق عدم قدرة على التوقّع لدى المستثمرين من القطاع الخاص تجاه السلطة السياسية، الأمر الذي يمنع هؤلاء من الاستثمار.
كما أنها تستولي على الموارد المخصّصة للتنمية من أجل الاستخدامات الخاصة لهؤلاء الزعماء، ولكي يستثمروها سياسياً. وقد ربطت الكتابات النظرية الأكثر حداثة بين طبيعة الأنظمة والنخب السياسية وبين الفعالية الاقتصادية لبلدانها. وأظهرت أن السياسات الاقتصادية الفاشلة والإخفاق التنموي (bad economics)، يمكن أن يكونا وسيلة السياسيين لتأمين ديمومتهم في السلطة (good politics). وحين يعمد السياسيون المنتخَبون إلى مكافأة ناخبيهم، ليس من خلال السياسات الاقتصادية الجيّدة، بل من خلال التنفيعات، تنشأ «شبكات محاسيب» ويتأسّس سوء استخدام للموارد يضرب النموّ ويلغيه (دو مسكيتا وروت، 2000: 10).
وهي دولة متخلّفة سياسياً بسبب نزع الطابع المؤسساتي عنها. وهو أمر تعكسه شخصنة السلطة التي يقوم بها الزعماء النيو ــ باتريمونياليون، ولاعتماد هؤلاء معالجات غير رسمية للأمور العامة (informalism).
وقد عاشت الإدارة العامة اللبنانية، من الأساس، التناقض بين القوانين الوضعية الرسمية وبين الواقع اليومي القائم على التدخلات السياسية في عملها. وميّز رالف كرو بين «المهام الإدارية المحدّدة رسمياً» (formal)، كما عيّنها «قانون الموظفين» لعام 1959، وبين «المسلكية غير الرسمية في الإدارة» (informal administrative behavior)، معتبراً هذه الأخيرة سبب فشل الإدارة العامة والفشل التنموي في لبنان (كرو، 1966: 181).
وهذا التعريف للدولة النيو ــ باتريمونيالية كدولة متخلّفة، يحيل إلى البديل عنها. وهذا البديل تمثّله دولة القانون الحديثة، التي تمتلك إدارة عامة شرعية وعقلانية (administration légale-rationnelle)، ويحكم أداءها الخضوع لقواعد عامة ولا شخصية (impersonal obligations). وجان ــ فرنسوا ميدار هو الأفضل في استثمار إرث ماكس فيبر النظري، لقراءة وفهم طبيعة الدولة المتخلّفة وتمييزها عن الدولة الغربية الحديثة. الدولة الغربية حديثة، لأن لديها إدارة تلتزم بحرفية النص في تنفيذ مهماتها، ولأنها محصّنة تجاه المداخلات غير الرسمية في عملها (ميدار، 1982: 27). ودولة العالم الثالث متخلّفة، لأن التدخلات غير الرسمية تطغى على عملها وتحيل النصوص الوضعية التي تحدّد مهماتها حبراً على ورق.
وتبدو مواجهة النيو ــ باتريمونيالية، من حيث هي، الانتفاع الخاص الذي تقوم به النخب السياسية المشاركة في السلطة بالموارد العامة، المسألة الأهم في عملية بناء الدولة في البلدان النامية.
من جهة أخرى، يتيح الانطلاق من تعريف الدولة اللبنانية كدولة نيو ــ باتريمونيالية، إعادة تعريف النظام التوافقي اللبناني في ضوء هذا المفهوم. ذلك أنه إذا كان الزعماء السياسيون يتوصّلون إلى تجنّب نتائج إدارتهم الكارثية للشأن العام، والبقاء في مناصبهم برغم فشلهم في تحقيق البناء الوطني، فذلك لأنهم يطرحون أنفسهم كمدافعين عن طوائفهم. يتيح لهم افتعال الصراعات على قاعدة طائفية ومذهبية، أن يفرضوا أنفسهم على جماعاتهم. وهو ما أشار إليه مايكل جونسون معتبراً الصراعات بين الزعماء كـ«بنية فوقية لنظام الاستزلام» (جونسون، 1986: 164).
ويمكن في ضوء ذلك، تعيين خاصيتين اثنتين للنظام اللبناني، هما النيو ــ باتريمونيالية والفرز العامودي (segmental isolation) للجماعات على أسس طائفية ومذهبية. ويمكن بالتالي، تحليل الطائفية السياسية في لبنان بالتعابير ذاتها التي نستخدمها لتحليل الصراعات الإثنية التي يلجأ إليها الزعماء في دول نيو ــ باتريمونيالية متعدّدة ــ الإثنية. وقد عرّف جان فرنسوا ميدار السياسة الإثنية، بوصفها تعبيراً ليس عن خلافات بين «ثقافات»، وإنما بوصفها «صراعات من أجل السلطة، أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية، ينشد أصحابها الحماية ومنع الهيمنة واكتساب السلطة مع ما يتولّد عنها من منافع» (ميدار، 1982: 19).
وربط الباحثون بين الانقسام «الإثني» في بلدان عديدة، وبين عدم الفعالية الاقتصادية فيها. يتسبّب السياسيون بانعدام هذه الفعالية حين يستخدمون الموارد العامة لإرضاء من يدعمونهم، الأمر الذي يجعل الإنفاق العام «إنفاقاً على المحاسيب» (patronage spending) (ميكال، 2005: 1). يعتمد الزعيم «الإثني» سياسات تمييزية في رصد الموارد وتوزيع المنافع، تشتمل على التوظيف في القطاع العام، ورصد الموارد العامة بشكل غير عادل بين المناطق والأقاليم، وتوفير أشكال مختلفة من الدعم (subsidizing) غير الفعّال للجمهور «الإثني». كذلك، تعكس خيار الزعماء توزيع مداخيل على شكل أجور ومرتبات، بدل الإنفاق على البنى التحتية (ميكال، 2005: 4 و19).
ارتبط استخدام مفهوم «التفتيش عن الريوع» في نظرية الاقتصاد السياسي النيو ــ كلاسيكية بنقد تدخّل الدولة في الاقتصاد


ويصبح جمهور الزعيم «الإثني» أكثر تعلّقاً به، مخافة أن يؤدّي أي تغيير للستاتيكو القائم إلى تردٍّ لأوضاعه على يد الأخصام «الإثنيين». ويكبر هذا الخوف أكثر، حين يكون الزعيم «الإثني» قد انخرط في ممارسات زادت العداء بين المكونات «الإثنية» في البلد المعني.
وفي لبنان، يُطلق على هذه الممارسات من طرف السياسيين تعبير «المحاصصة الطائفية». لكن كلّما طُرح موضوع أزمة النظام ينبري الكلّ للقول إن مشاكل هذا الأخير تتأتّى من الطائفية، وإنه بالخروج منها تجد مشاكل لبنان حلّاً لها. تغفل هذه الطريقة في التعبير، التمييز بين الطائفية و«المحاصصة الطائفية»، وبأن «المشكلة هي في نظام المحاصصة الطائفية، لا في الطائفية نفسها» (فضل الله، 2019: 2). أما الاكتفاء بالتهجّم على النظام الطوائفي، فهو غير ذي طائل لجهة مردوده في ميدان بناء الدولة، لأنّ مشكلة لبنان الفعلية هي في إدخال منطق الباتريمونيالية أي استخدام الموارد العامة للمنفعة الخاصة إلى قلب الدولة، ولأنّ التغيير يمكن أن يطال البنية الطائفية للدولة من دون أن يغيّر شيئاً في طبيعتها النيو ــ باتريمونيالية، أو القائمة على الاستزلام السياسي.

ثانياً: «نظام الزعماء»
ندين للباحث السويسري أرنولد هوتينغر باستخدام تعبير «نظام الزعماء» (za'imism)، لتعريف النظام السياسي في لبنان (هوتينغر، 1966: 97). لكنّ القارئ لنصه يبقى على جوعه في فهم طبيعة هذا النظام. استُخدم تعبير «الإقطاع السياسي» للدلالة على تحدّر الزعماء السياسيين من فئة المقاطعجيين. منذ المتصرّفية، لم يعد هؤلاء يجبون الضريبة لكنّهم احتفظوا بنفوذ محلّي استخدموه لاحتكار التمثيل السياسي للمواطنين. ساعدهم في ذلك تولية السلطنة إياهم مناصب إدارية كقائمي مقام ومديري نواحي، وقدرتهم على توزيع منافع.
واستفاد التجار والمصرفيون المحليّون من ربط السلطنة بأوروبا كمصدِّر للمواد الأولية الزراعية، وسوق مفتوحة للاستيراد. استثمروا ثرواتهم في قطاع الحرير داخل المتصرفية، من خلال تسليف المنتجين وشراء المحصول. حلّ «الخواجات» هؤلاء، كما يسميهم المؤرّخ سيمون عبد المسيح، محل «المقاطعجيين» القدامى، في اقتطاع الفائض والتصرّف به (عبد المسيح، 2014). وهو ما جعلهم قادرين على بناء شبكات محاسيب. واستقبلت النخبة كلّ قادر على توزيع منافع. أي أنّ النظام بات، منذ ذلك التاريخ، قائماً على الاستزلام السياسي. ويجب اعتماد هذا التعبير بديلاً من تعبير الإقطاع السياسي، الذي لا يدلّ بوضوح على طبيعة هذا النظام.
استخدم الباحثون مفاهيم أخرى للتعبير عن الواقع ذاته. وصف ألبرت حوراني الواقع في عموم السلطنة العثمانية، خلال القرن الأخير من عمرها، بعنوان «السياسة بمنطق الأعيان»، بمعنى رضوخ الدولة لإرادة هؤلاء (حوراني، 1968).
وأظهر باري بريسلر، أن أفراد النخبة السياسية أو الزعماء هم «أصحاب سلطة محلية» (local power holders)، لا تعمل الدولة على الحدّ من سلطتهم، بل تدأب على العكس على تأمين شروط ممارستهم لها (بريسلر، 1988: 35 و51). وأعطى مايكل جونسون تعريفاً لهم بوصفهم يعكسون وجود نظام «استزلام سياسي بطريركي الطابع» (neopatriarchal clientelism) (جونسون، 2002: 19).
ثمة تعريف إضافي يمكن من خلاله استكمال تعريف النظام السياسي اللبناني هو الذي أعطاه له مايكل جونسون. يقف على رأس هرم كلّ بنية من بنى الاستزلام التي تكوّن هذا النظام شخص أو أشخاص، هم سياسيون. وهم في الوقت عينه «أناس معنيون بالذود عن مكانتهم» (Men of Honour). أجرى جونسون، في كتابه لعام 2001، مراجعة نقدية لعمله الأول عن لبنان، الصادر في عام 1986، والذي خصّصه لتحليل النظام السياسي اللبناني بوصفه قائماً على الاستزلام السياسي. أقام مقارنة بين كالابريا ولبنان، لجهة استخدام العنف في العمل السياسي من قِبل من يسمّيهم أناساً «اكتسبوا المواقع التي لهم، من خلال استخدام العنف في صون مكانتهم الشخصية وتأكيدها» (جونسون، 2001: 109). أي أن السياسيين اللبنانيين هم، استناداً إلى هذا التعريف، مدنيون يعتمدون العنف مدخلاً للعمل في السياسة وممارسة الشأن العام.
واستخدم في الكتاب ذاته، الأدبيات الأنتروبولوجية لتعريف اللبنانيين كما العرب والمتوسطيين لجهة المشترك بينهم، وهو الدور المحوري الذي تلعبه المكانة أو الاعتبار (Honour) في حياتهم (جونسون، 2001: 100). ذهب جونسون إلى ثقافة اليونان القديمة لإيجاد جذور هذا التعريف. وقد أعادت أوروبا القرون الوسطى، اكتشاف الإرث اليوناني من خلال ترجمة العرب له. واستخرج النبلاء منه ثقافة «الدفاع عن المكانة»، لفرض أنفسهم في مواجهة القيم التي تدعو إليها الكنيسة. وعبّروا عن هذه الثقافة في ممارستهم، فكانت السلطة على الآخرين لا تُكتسب إلّا من خلال الحطّ من قيمة هؤلاء (Degradation) (جونسون، 2001: 75-85). بل إن ثقافة «المكانة» عكست نفسها في مسلكية الناس العاديين أيضاً. يعبّر هؤلاء عن ذلك بوصفهم «أناساً ينشدون الاحترام». وهم يصفون حياتهم بأنها «توازن هش بين الاحترام والمهانة» (جونسون، 2002: 15).

ثالثاً: «نظام الزعماء» راهناً
يمكن قراءة الواقع الراهن، من خلال المقارنة مع تجربة الدولة العربية. وذلك باعتماد المفاهيم التي اعتُمدت لقراءة هذه التجربة. وهي أربعة: «التفتيش عن الريوع»، والفساد السياسي والإداري، و«رأسمالية المحاسيب»، و«النخبة النيو ــ ليبرالية».
1. الاختلاف مع «دولة التجمعات المهنية» (corporatist state) العربية
سوف يصار لتشكيل وحدات سياسية، بدءاً من حقبة الانتداب استند إليها الزعماء الجدد لتوطيد سلطتهم تمثّلت بالبنى العائلية والعشائرية. أي أن العائلة أو تحالف العائلات مثّلا إطار العمل السياسي والتمثيل السياسي بدلاً من الحزب. وقد أصبحت الصراعات المحلية، منذ ذلك التاريخ، صراعات نفوذ وصراعات ذات طابع طائفي ضمن التبعيّة. ذكر بول براس كيف وفّرت سلطة المستعمِر في نيجيريا وغيرها في التاسع عشر للمتنفّذين، هويات محلية يستهلكون طاقاتهم في التقاتل حولها، مع بقائهم جميعاً ضمن حالة الارتهان للخارج (براس، 1991: 281). بقي لبنان بمنأى عن تجربة «الجمهوريات الراديكالية» العربية. وقد قامت النخب العسكرية بتغيير الدولة من «دولة ملّاك الأرض»، كما كان الأمر غالباً، إلى «دولة التجمعات المهنية، كما يسميها الباحثان احتشامي ومورفي (احتشامي ومورفي، 1996). أنشأت هذه الدولة تمثيلاً في البرلمان لمن اعتبرتهم ممثلين لتجمعات مهنية كالفلاحين والعمّال، إلخ. وقامت على نظام الحزب الواحد. وقد حمى التدخل الخارجي، عام 1958 وعام 1975، النخبة السياسية التقليدية، أي نخبة الزعماء، من تحوّلات من هذا النوع وأمّن استمرارها في الحكم.

2. التفتيش عن الريوع
وقد وضع الباحث ستيفان كينغ، التجربة العربية برمتها خلال حقبة «استبدال الواردات» والحمائية، كما خلال فترة التحرير الاقتصادي والاندماج في النظام الدولي، بعنوان واحد هو «التفتيش عن الريوع» (rent seeking) لدى النخب والعموم. لكن المستفيدين تغيّروا ولم يعودوا هم أنفسهم خلال الحقبتين (كينغ، 2009: 90). ويسمى ريعاً كلّ دخل يتأتّى من ملكية الأرض أو باطن الأرض أو من الموقع الجغرافي، الذي يوفّر مداخيل من السياحة أو الترانزيت، أو من تدخّل الدولة الذي يتيح للمنتجين تحقيق ريوع عن طريق رفع الأسعار. ويكون ذلك عبر وضع رسوم جمركية لحماية القطاع المعني، أو من خلال منح المنشأة وضعاً احتكارياً في قطاعها. في التجربة الأولى، اتّخذ توزيع الريوع من قِبل الدولة شكل توزيع الأراضي التي آلت إليها بفعل التأميمات وتوفير حماية جمركية وأشكال دعم مختلفة للقطاعات الصناعية الجديدة، والتوظيف في القطاع العام. وفي المرحلة الثانية، شكلت خصخصة الأرض وخصخصة المؤسسات الإنتاجية المملوكة من الدولة، الشكل الرئيسي لعملية توزيع الريوع على النخب الجديدة (كينغ، 2009: 90).
يحيل تطبيق مفهوم «التفتيش عن الريوع»، في حالة لبنان، إلى ممارسات متنوعة، أولها استفادة السياسيين من احتكارات قانونية. واتّخذ «التفتيش عن الريوع» في مرحلة لاحقة شكل الخصخصة، مثل خصخصة استيراد المحروقات. وعبّرت عنه ممارسات أخرى، مثل استخدام الموقع العام للانتفاع الخاص بما يتعارض مع القانون. الشكلان الأولان لا يعرّضان المستفيد للمساءلة القانونية. لكن استخدام الموقع العام للانتفاع الخاص بما يتعارض مع القانون، يعرّض المستفيد للمساءلة أمام القضاء، باعتباره شكلاً من أشكال الفساد السياسي والإداري (political and administrative corruption).

استولى السياسيون على أموال رصدتها الدولة لتنفيذ مشاريع بنى تحتية وخدمات عامة صرفت الأموال لها ولم تنفّذ


ولكلّ من السياسيين الأقطاب ثروة نقدية هائلة وحسابات في سويسرا. وهم ملّاك أرض كبار. منهم من ورث ثروة عقارية كبيرة أضاف إليها من خلال شراء أراضي المشاع والبلديات بأسعار بخسة. وهم خصوصاً ملّاك عقارات مبنية. وهم شركاء في «سوليدير»، التي استولت على قلب بيروت القديم. وكانت الدولة قد استملكت هذه البقعة بقانون لمصلحة هذه الشركة. وهناك مناطق أخرى على امتداد الشاطئ استخدم السياسيون وجودهم في السلطة لاستملاكها. وكوّن كلّ هؤلاء ثروات هائلة، من ارتفاع أسعار العقارات والعقارات المبنية. وقد استفادوا من ريوع احتكارية كمستوردين من مثل الاحتكار القانوني لاستيراد وتسويق الغاز والاحتكار القانوني لاستيراد المحروقات. ويحقّق استيراد الفيول من قِبل القطاع الخاص لشركة كهرباء لبنان ربحاً للشركة المستوردة، يساوي 500 مليون دولار تتحمّله موازنة الدولة. ومن لم يستفد مباشرة كمستورد في قطاع المحروقات، يحصل على عمولة من المستوردين للسكوت على احتكارهم. كذلك، استفادوا من ريوع احتكارية كمنتجين لبعض السلع الوسيطة كالإسمنت، ما أتاح لهم بيع إنتاجهم للمستهلك المحلي بسعر أعلى بأربع مرّات من السعر الفعلي.

3. الفساد السياسي والإداري
وقد استولى السياسيون على أموال رصدتها الدولة لتنفيذ مشاريع بنى تحتية وخدمات عامة، صرفت الأموال لها ولم تنفّذ. والأمثلة على ذلك عديدة، منها معامل إنتاج كهرباء أو شبكات مجارير لم تنفّذ. واستفادوا من القروض المدعومة التي وفرها المصرف المركزي لقطاع الإسكان بشكل مخالف للقانون. وقد دعم المصرف المركزي القروض السكنية، بحيث يدفع المستفيدون فائدة تساوي 1 % على القرض الذي حصلوا عليه. وتبيّن أن هناك سياسيين استَلفوا مبالغ بمئات ملايين الدولارات لشراء مئات الشقق الفخمة. كما أن هناك قضاة استفادوا من قروض كبيرة بفائدة 1% من المصرف المركزي، لإيداع المبالغ التي حصلوا عليها في المصارف بفائدة تساوي 17% («الأخبار»، 24/10/2019). ووفر سياسيون حماية لعاملين في الإدارة الحكومية، استخدموا مواقعهم للحصول على أموال غير قانونية. من ذلك فرض، خوات أو عمولات يدفعها المتقدّمون للحصول على تراخيص استيراد وتصدير، أو المستفيدون من تخفيضات ضريبية كمكلّفين كبار، أو المستفيدون من عمليات التجنيس. ولعل صفقات الأشغال العامة، كانت المجال الاعتيادي لقبض عمولات من المتعهّدين. كان الوزراء يأخذون 10% أو 15% من قيمة العقد، الذي يستفيد منه المقاولون المحظيون. وذلك سواء كانوا محليين كما في الأشغال العامة، أو أجانب كما في خدمات الإنترنت. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان الوزير يطلب من المقاول الأجنبي رفع سعر الخدمة التي يوفرها محمّلاً الدولة هذا العبء ويضع الفرق في جيبه.

4. «رأسمالية المحاسيب»
ارتبط استخدام مفهوم «التفتيش عن الريوع» في نظرية الاقتصاد السياسي النيو ــ كلاسيكية، بنقد تدخّل الدولة في الاقتصاد، واعتبار اتّساع مروحة تدخلات هذه الأخيرة عبئاً على الاقتصاد. وذلك لأن المستفيدين من هذه التدخلات يهدرون الوقت في انتظار الحصول على ريوع بدل العمل على تحسين فعاليتهم الإنتاجية. وارتبط استخدام مفهوم «رأسمالية المحاسيب» بتجارب البلدان النامية ومنها العربية، حيث أتاحت الخصخصة على وجه الخصوص توفير منافع للبعض. وهدف القائمون على الدولة من ورائها، إلى تكوين قاعدة اجتماعية تؤمّن لهم الدعم.
وهذا المفهوم، هو تسمية جديدة أُطلقت على الظاهرة المعروفة والتي تولّى الباحثون شرحها بالتفصيل منذ مطلع الثمانينيات، وهي «الاستزلام السياسي». لا تضيف هذه الأدبيات سوى استخدام المقاربات الرياضية، وأدوات الاقتصاد القياسي، لتتبّع هذه الظاهرة. وتقتصر الإفادة منها على ما تقدّمه من عرض للأدبيات. لكن ما تميّزت به «رأسمالية المحاسيب» هذه، هو أنها ترافقت مع ممارسات سلطوية (authoritarian) غير مسبوقة. وفي استقصاء للآراء أُجري في مصر عام 2010، قبل اندلاع الانتفاضات العربية بأشهر، جاء دور الدولة في تنفيع المحاسيب على حساب الكلّ، سبباً أول للشكوى والاحتجاج (حمودة وديوان، 2015). وذلك مقارنة بسببين آخرين جوهريين، هما غياب الديموقراطية وسوء الأوضاع الاقتصادية. أي أن السبب الأول للشكوى كان انفلات «الشبيحة» ليقتنصوا الفرص ويغتصبوا المواقع ويرهبوا الناس ويدفعوهم خارجاً.
وينتشر في ثنايا الدولة، أناس يهمهم توفير تنفيعات. بقدر ما تتراجع أوضاع الاقتصاد والمجتمع، يشعر هؤلاء أن عليهم مضاعفة الجهد من أجل البقاء (survival). يصبح التكالب على تنسيب محاسيب شغلهم الشاغل. تمتلئ بفضلهم الحياة العامة بمحاسيب من أعلى الهرم إلى أسفله. تعمل «رأسمالية المحاسيب» تدميراً في النسيج الاجتماعي وفي المؤسّسات. يعاني العاملون في المؤسسات والإدارات العامة بشكل خاص، من «التشبيح» على المواقع وترهيب العاملين فيها. تُدخل «رأسمالية المحاسيب» التعنيف قاعدة في التعاطي مع العاملين في الإدارة العامة. وهناك قاسم مشترك بين من يتم اختيارهم لتولّي المسؤوليات. وهو أنهم عاشوا تجارب فشل، أو أن لديهم ما يُسألون عنه في ملفاتهم المهنية. وهم يقومون بقهر من حولهم، ليتمكّنوا من فرض أنفسهم وإجبار هؤلاء على قبولهم والتعاطي معهم. والمطلوب في كلّ الحالات تولية الأسوأ مهنياً. وتتحوّل المؤسسات إلى بازار للتنفيعات على حساب جدية الخدمات التي توفرها وجودتها. وقد أوعز أحد أعضاء الحكومة التي استقالت، في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وهو رئيس لإحدى الكتل النيابية، إلى وزير الإعلام بإقالة أحد المسؤولين في المحطات الإعلامية بسبب نقل بعض التظاهرات. أي أن العاملين في الإدارة العامة باتوا يُرمون خارجاً لأقل سبب. وقام الوزير نفسه بإجراء سلسلة تعيينات وابتكار وظائف جديدة كتنفيعات لأناس من دائرته الانتخابية. وذلك بعد استقالة الحكومة (الأخبار، 5/11/2019).
بقي الشق الاقتصادي طاغياً في النقاش العام أثناء الانتفاضة اللبنانية. أي كيفية تمويل عجز الموازنة. طلعت الحكومة بمشروع لا يحمّل المواطنين العاديين عبء هذا التمويل. بقي خارج إطار الصورة سطو محاسيب أركان الحكم على المواقع، وممارساتهم الهمجية في هذا الإطار. وبقيت ضرورة كفّ يد هؤلاء ومحاسبتهم خارج هذه الصورة. تكتسب المحاسبة بهذا المعنى أهمية خاصة كمبرّر لديمومة الاحتجاج.

5. النخبة النيو ــ ليبرالية
نحن بصدد استكمال ما بدأ بعد عام 1990، من خصخصة للمرافق والمؤسسات الحكومية التي يدرّ استثمارها أرباحاً. وقد طالت الخصخصة مؤسسات وخدمات متنوعة. وضُربت المؤسسات الصحية، كالمستشفيات الحكومية، واستُبدلت بمستشفيات خاصة تم التعاقد معها كمستشفيات جامعية. وهناك قطاعات تثير شهية السياسيين أكثر من غيرها، كقطاع الاتصالات التي يجهد السياسيون أنفسهم للاستحواذ عليه. ينتمي العديد ممّن يعوّل عليهم الحكم إلى فئة «كارهي الدولة»، كما يسميهم مدير عام المالية آلان بيفاني. هناك فرز حاصل، حالياً، في المجتمع المدني والرأي العام، بين فئة «كارهي الدولة» هؤلاء، وبين من يريدون الإبقاء على مؤسسات الدولة وإصلاحها، لأن بقاءها هو بقاء للبنان.
ونحن في مواجهة نخبة عدمية، يهمها اعتماد مشاريع أميركية نيو ــ ليبرالية لتلميع صورتها لديهم، والحصول على مكاسب في السلطة. وكلمة عدمية، تعني أن النخبة لا تعتبر نفسها مسؤولة تجاه شعبها، وأن أي مشروع يصبح مقبولاً لديها إذا حقّق لها مكاسب، ولو كان الثمن تهجير شعبها. وقد ذهب وزير إلى أميركا وعاد منها حاملاً مشروعاً هو إلغاء كل المعاشات التقاعدية. اشترى عداوة الناس له بالجملة. واستعدى اللبنانيين ممّن يعوّلون على معاش بالكاد يساوي الحد الأدنى للأجور، لكيلا يتسولوا في الشوارع.

* أستاذ جامعي

المراجع

Abdel Massih Simon, Les moulins du capitalisme : cas de Haquel-Jbeil (1820-1920), 2014, 240 pages.
Brass Paul, Ethnicity and nationalism: theory and comparison, New Delhi, India: Sage Publ., 1991.
Bueno de Mesquita Bruce, Hilton Root, “When Bad Economics is Good Politics”, in Bueno de Mesquita B., H. Root (eds.), Governing for Prosperity, Yale Univ. Press, 2000, pp. 1-16.
Crow Ralph, “Confessionalism, Public Administration, and Efficiency in Lebanon”, in L. Binder (ed.), Politics in Lebanon, N.Y.: John Wiley and sons, 1966.
Hottinger Arnold, “"Zu'ama' in Historical Perspective", in Leonard Binder (ed.), Politics in Lebanon, New York: Wiley, 1966.
Hourani Albert, ‘Ottoman Reform and the Politics of Notables”, in Polk and Chambers (eds.), The Beginning of Modernization in the Middle East, Chicago: Univ. of Chicago Press, 1968, pp. 41-58.
Johnson Michael, “The Neo-Patrimonial Lebanese State before 1975”, Contribution to the L.C.P.S. Workshop on: “the Developemental State Model and the Challenges to Lebanon”, February, 15-16, Beirut, 2002.
Johnson Michael, All Honorable Men: The Social Origins of War in Lebanon, London: Centre for Lebanese Studies and I.B. Tauris, 2001.
Johnson Michael, Class and Client in Beirut: the Sunni-Muslim Community and the Lebanese State, 1840-1985, Ithaka Press, 1986.
Médard J.F., « L'Etat sous-développé en Afrique noire : clientélisme politique ou néo­patrimonialisme?» Centre d'Etudes d'Afrique Noire, I.E.P. Bordeaux, Travaux et Documents, 1982,n°1, 36 pages.
Médard J.-F., “Patrimonialism, patrimonialization, neo-patrimonialism and the study of the post-colonial state in subsaharan africa, contribution to the seminar on “Max Weber, politics and administration in the third world”, Roskilde University, Denmark, 11-12 December,1995.
Miquel, G. P. “The Control of Politicians in Divided Societies: The Politics of Fear”, in Review of Economic Studies, 74/4, 2005, pp. 1259-1274.
Preisler Barry Edward, Lebanon, the rationality of national suicide, Dissertation, 1988; Ann Arbor, Mich.: UMI Dissertation Information Service, 1996.
Ehteshami Anoushiravan, and Emma Murphy, “Transformation of the Corporatist State in the Middle East.” Third World Quarterly 17 (4), 1996, pp. 753–72.
King Stephen J., The New Authoritarianism in the Middle East and North Africa. Bloomington: Indiana University Press, 2009.
Chekir Hamouda, Ishac Diwan, “Crony Capitalism in Egypt.” Journal of Globalization and Development, 1, 2015, 35 pages.

عبد الحليم فضل الله، «الحراك اللبناني، والطائفية، والمقاومة»، مجلة الآداب، عدد 27/11/2019.