الحركات التي تشهدها البلاد، حالياً، تضع لبنان أمام خيارين: إعادة صياغته على التركيبة الحالية، أو البحث عن بديل أكثر ثباتاً، وقوة، واستدامة.الصيغة الأولى، هي التي أسّسها الاستعمار الفرنسي كحلقة من حلقات «اتفاقية سايكس ــ بيكو»، تبلورت مع الوقت لتولد بصورة نهائية عام ١٩٤٣. لكنها شهدت تعثرات كثيرة، بسبب تركيبتها المصطنعة ــ القائمة على التوازن الطائفي الداخلي، والتي خُصّصت للعب دور يخدم المصالح الاستعمارية، مباشرة في حينه، ولاحقاً بصورة غير مباشرة عبر تكليف أولياء تابعين له في السلطة.
التركيبة اللبنانية الطائفية، لم تكن صدفة بالنسبة إلى الفرنسي، بل درست بتمعّن على عقود من الزمن، بداية من حلول نهاية الحرب العالمية الأولى، وبسط فرنسا وإنكلترا سيطرتهما على بلادنا، وتكليف فرنسا بالشأن اللبناني. لكن هذه التركيبة، التي افتُرض أن تلعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، حيناً، ومحطة انطلاق عدائية نحو الشرق العربي، أحياناً، كانت تهتز بصورة متواترة ومتكررة على خلفية الصراعات التي لم تهدأ في المنطقة.
هذه التركيبة الكيانية الطائفية تسبّبت في الأذى والضرر الكبيرين في كل جولة من جولات انهيارها، وقد دفع اللبنانيون إبانها الأثمان الباهظة من أرواحهم، وممتلكاتهم، كما تسبّبت في هجرات كبيرة، وتفريغ البلاد من أدمغتها، ولم يكتب للبنانيين فيها إلا الويلات المتكررة، ولم يعرف اللبناني في ظلالها حياة استقرار كبقية دول العالم ومجتمعاته. ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى كانت البلاد تقع في أحداث وتوترات خطيرة، انعكست على الحياة العامة، بكل ما هو سلبي وبشع.
تجربة الـ١٩٤٣، اهتزّت في عامي ١٩٥٢، و١٩٥٨، وأعيدت صياغة الكيان على الصورة عينها لتعود وتهتزّ أواخر الستينيات، حتى اندلاع الحرب الأهلية الكبيرة سنة ١٩٧٥، ولتستمر حتى سنة ١٩٨٩، متقطعة حيناً، ومتواصلة حيناً آخر. لكن سنوات الهدوء الكاملة كانت نادرة بين جولة وجولة. في عام ١٩٨٩، حين كان الكيان في حالة موت سريري، أعيدت صياغته بتركيبة طائفية هي عينها كالسابق، لكن بتعديل في توزيع صلاحيات السلطة. لكن الصيغة الجديدة كرّست الانقسام الطائفي، ووضعت له إيديولوجيا التنوّع في الوحدة، والانقسام في التكامل، حتى إذا وقع أول التوترات، عاد التجاذب على خلفية طائفية تقسم البلاد، وتضعها على شفير غير مستحب.
تُرجم الانقسام في محطات مرحلة الطائف، ووقع العديد من الصدامات، والتجاذبات، خصوصاً عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبروز تحالفي ٨ و١٤ آذار، وما أعقبهما من سنوات صراع، إلى أن اندلعت الأحداث السورية، فدخلها لبنان في أجواء من التوتر، والصراع الداخلي، وحبس الأنفاس، وشهد توترات أمنية مهمة على خلفياتها، إلى أن وضعت لها خطة أمنية جمّدت التوترات، وأبقتها ناراً تحت الرماد.
التركيبة اللبنانية الطائفية لم تكن صدفة بالنسبة إلى الفرنسي بل دُرست بتمعّن على عقود من الزمن


في كل هذه الجولات، كان التوتر يسود الحياة العامة، حيث مرّت استحقاقات سلطوية متعددة، وكانت تشهد تجاذبات على السلطة، وفراغات فيها، ولم تستقر الحياة السياسية في البلاد، وعاش اللبناني على التوتر الدائم، تُفاقم حياته العامة كثرة الضرائب، والديون المتراكمة، وفساد السلطة، وغياب الحياة الطبيعية بصورة عامة.
وتندلع الأحداث الحالية التي تُعرف حيناً بالحركات الاحتجاجية، وحيناً بـ«الثورة»، بعد خروج المنطقة من دائرة السيطرة الغربية الأحادية الجانب، إلى مرحلة من التوازن مع بروز محور شرقي، نما وقوِيَ عوده في ظل المعركة السورية، وقبلها في ظل مقاومة الاحتلال الأميركي للعراق.
ومع بروز الحلف الشرقي، وما تبقى من قوة للحلف الغربي، يقع لبنان على مفصل مرحلتين، وأمام خيارين: إما إعادة صياغته على النمط السابق المتكرس في صيغة ١٩٤٣ الفرنسية، أو إعادة النظر في تركيبته، وتأسيسه بطريقة مستجدة، تخرجه من توتره، واضطرابه، الدائم، وتضع حداً للمعاناة التي عاشها شعبه منذ نشأته.
مسؤولية الكيان اليوم تقع على عاتق الحلف المنتصر، ومن ضمنها لبنان المنتصر، بعد سقوط متكرّر للتجربة الأولى الفرنسية، والتي خلّفت الويلات للبنانيين. فهل يترك لمن صاغ البلاد بالخطأ والوهن والضعف والتآكل، أن يصوغه من جديد، عقب التحركات الاحتجاجية الجارية، فتعود معه التوترات والأحداث المتكرّرة لتقضّ مضاجع اللبنانيين؟ أم يوضع في حالة جديدة، يمكن أن تكون ثابتة، ونامية، ومتطورة كبقية دول العالم، فينعم شعبه بالحياة الكريمة بالحد الأدنى على غرار بقية شعوب العالم.
في هذه الظروف، يمكن القول إن من الجنون إعادة لبنان إلى صيغته السابقة المتهالكة، كي لا تفرز المآسي فيه من جديد، والصيغة الحالية في الأساس لم يخترها له حريصون على أبنائه، بل استغلوا حالته لمصالحهم، ومآربهم، ومؤامراتهم على المنطقة. ويمكن بعد المتغيرات التي فرضتها الأحداث السورية، إعادة النظر في لبنان ــ الكيان السياسي ــ ككل. هو باقٍ موطناً جميلاً، تشبع النفس منه شموساً وأنواراً، بحره يلاصق جبله، ويتبادل سكانه الحياة الهانئة في ما بينهم بعد كل جولة صراع فيه. لكن صيغته السياسية يفترض أن تتأسس على مفاهيم وقيم وقوانين جديدة، تبقي شعبه الساكن في نطاقه الجغرافي في مأمن وطمأنينة وطيب حياة، كبقية الشعوب.
اليوم، خلافاً لأي زمن سابق، يمكن للبنان اختيار مصيره بالتعاون مع أشقائه وحلفائه المنتصرين، إن في الحروب مع عدوّه الأول الكيان الصهيوني، أو في الحرب السورية وفي المقاومة العراقية، ورسم المصير بات في أيدي هذا المحور أكثر من أي وقت مضى، فيما «اتفاقية سايكس بيكو» تترنح، والوحدة تتقدم. وليكن الحل وحدوياً مع الامتداد التاريخي للوطن اللبناني، بصيغة تنسي اللبنانيين مآسيهم، وتضعهم في مرحلة من الحياة الكريمة، وصيغة موطن جديد.
لتتوحد دول المحور الشرقي، فتتحرّر من الدولار وتؤسّس عملة بديلة، أو يعتمد على العملات الوطنية، ولتفتح الحدود بين دول التحالف، وليقم سوق «شرق أوسطي» أو «شرق أوسطي ــ آسيوي» على غرار السوق الأوروبية المشتركة، ولتتكامل اقتصاداته وتفاعلاته الاجتماعية، تأسيساً لحالة عالمية جديدة، متوافرة الظروف، لم يشهدها التاريخ قبلاً.

* كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية