يظنّ بعض اللبنانيّين أن الإعلام الغربي لا يزال يلاحق قضيّة انتفاضتهم ويواكبها أوّلَ بأوّل. ومجرّد نشر تقرير لمحطة «سي.إن.إن» (في النسخة العالمية لا الأميركية) يُنعش آمال كثيرين باهتمام العالم بلبنان. لكن الإعلام الغربي نسيَ لبنان. لم يستمرّ اهتمام الإعلام الغربي بانتفاضة لبنان أكثر من أيّام قليلة فقط. كان المُبتغى أن تكون الانتفاضة مُوجّهة ضد حزب الله، والإعلام الغربي يريد انتفاضة ضد حزب الله، ومن أجل السلام مع إسرائيل (بات الإعلام البريطاني والأميركي والألماني والفرنسي متطابقاً في تغطية الشرق الأوسط، وهو منذ الحرب السورية يتطابق إلى درجة كبيرة مع تغطية إعلام طغاة الخليج). بلغ الحماس بمراسلة «نيويورك تايمز» في بيروت، فيفيان يي، إلى درجة أنها كتبت في اليوم التالي لاندلاع الاحتجاجات، أن التظاهرات توجّهت نحو الضاحية الجنوبية واقتحمت مكاتب نوّاب حزب الله (ويي هذه، خلافاً لمراسل آخر للجريدة، بن هبرد، لا تعرف كلمة واحدة من اللغة العربية ولا خلفيّة لها في دراسة الشرق الأوسط، مثل معظم المراسلين والمراسلات الغربيات في لبنان. ولّى عهد المراسلين الغربيّين المتخصّصين من أمثال أرنولد هوتنغر وبيتر مانسفيلد وإريك رولو وتابثا باتران وهلينا كوبان). الحقيقة لا تعني شيئاً، يستطيع المراسل أن يخلقَ واقعاً يبتغيه وينشره في الجريدة، وتصبح الصورة المرسومة في الإعلام الغربي مُتفوّقة على الحقيقة. ولأن التناغم بين الإعلام الغربي والإعلام الخليجي المُسيطر، كبير إلى هذه الدرجة، فإن الاعتراض على هذا التزييف يبقى خارج السياق والنشر (كتبتُ لمسؤول الشؤون الخارجية في «نيويورك تايمز»، بحكم معرفة سابقة، معترضاً على الكذبة المفضوحة للمراسلة في بيروت، مُطالباً بتصحيح لكن من دون طائل). أراد إعلام الغرب انتفاضة ضد حزب الله وسلاحه ومناصرة للسلام مع إسرائيل. الهوس بهذا الموضوع وصل إلى درجة أن حركة «أمل» لم تحظَ بأي تغطية خاصّة بها، ولا سيما أن دورها في الانتفاضة، أو في قمعها بالأحرى، لم يَرِد إلا لماماً في الإعلام الغربي أو العربي (أو حتى اللبناني)، وكانت توصف هامشيّاً بـ«حليفة حزب الله»، كأن ليس لها تاريخ ووجود خاص بها. لكن الأمور في لبنان لم تسر كما الرغبة الصهيونية الغربية، فتحوّلت الأنظار عن لبنان، إلى أمكنة أخرى. الإعلام الغربي لا يختلف عن إعلام الأنظمة، ولا يرتقي عنه في درجة المهنية. خذوا وخُذن ما جرى في بغداد قبل أيام، عندما اقتحم محتجّون مدخل السفارة الأميركية في بغداد (وهي أكبر سفارة، وكلمة قلعة أقرب لوصفها من السفارة). فقد ثارَ كثيرون في الإعلام الأميركي والكونغرس، لأن محطة «سي.بي.إس» وصفت ما جرى أمام السفارة بـ«الاحتجاج». اعترض هؤلاء، وقالوا إن سلوك المحتجّين يخرج عن سلوك الاحتجاج. لكن قبل أسابيع فقط، عندما اقتحم محتجون القنصلية الإيرانية في النجف وأحرقوها، كانت كل عناوين الصحف الغربية تصف هذه العملية بالاحتجاج. بحسب معيار إعلام الغرب، فإن العنف ضد أعداء أميركا وإسرائيل عمل سلمي، واللاعنف ضد أميركا وإسرائيل عمل إرهابي. المقاييس والمعايير تُقرّر بناءً على ميزان الصهيونية والعنصرية ومصلحة الاستعمار الغربي.
والغرب مهووس بأمن إسرائيل واحتلالها. وعداؤه لحزب الله لا علاقة له بقمع احتجاج رياض الصلح أو صور أو النبطية أو بعقيدة ولاية الفقيه. يريد الغرب وقف أي تهديد لإسرائيل، وإزالة أي دفاع وطني في الدول المحيطة بفلسطين. كان هذا مكمن عدائهم لياسر عرفات، عندما كان لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» قوة عسكرية لا بأس بها (وإن فرّط بها عرفات وأساء استعمالها: ألم يقل فيه برجنسكي إنه لم يكن جاداً في القتال ولم يكن جاداً في الدبلوماسية؟)، وهذا مكمن عدائهم لكل من يملك سلاحاً رادعاً ضد إسرائيل (الغرب يؤيّد الجيش اللبناني، ليس لأنه يستطيع الدفاع عن لبنان، بل لأنه يعجز عن الدفاع عن لبنان). ومهمة الإعلام الغربي باتت سهلة في بلادنا، لأنهم لا يتحدّون قيم النخب الثقافية والإعلامية السائدة، بل هم يصنعونها ويتماشون معها (والطاقم المحلّي في مكاتب وسائل الإعلام الغربية، يكون إما خرّيجاً لوسائل الإعلام الخليجي أو هو في طريقه للعمل في وسائل الإعلام الخليجية، أو في محطة «الحرّة»، أي محطة البروباغندا الحكومية الأميركية الرسمية). الإعلام المحلّي قبل حرب الخليج في عام ١٩٩٠، كان إعلاماً قومياً عربياً معادياً للاستعمار الغربي والصهيونية. أما الإعلام المحلّي اليوم، فقد بات مُدجّناً وخاضعاً بدرجة كبيرة لتوجّهات ومشيئة الإدارة الأميركية (ومكتب الإعلام الأميركي في دبي «يُنسّق مع كل مدراء الإعلام في العالم العربي، ويحرص على التخفيف من اللهجة ضد إسرائيل وأميركا). يتلقّى مدير «الجزيرة» (كما أخبرني وضّاح خنفر في حينه) تقريراً دوريّاً مفصّلاً من وزارة الخارجية الأميركية في نقد تغطية «الجزيرة»، بغية تغييرها لتخفّف من إزعاجها ــ كان ذلك قبل سيطرة الإخوان على إعلام «الجزيرة». لم تعد تُسمع انتقادات لـ«الجزيرة» في الإعلام الأميركي، و«العربية» نسخة عربية من الإعلام الصهيوني الغربي، وحتى الإسرائيلي.
الإعلام اللبناني ضاعَ واضطرب في تغطية الانتفاضة اللبنانية. في اليومين الأولين لها، عبّرت المحطات اللبنانية عن قلق كبير لأن الفقراء (عراة الصدور) كانوا في طليعة الاحتجاج، وظهرت بوادر طفيفة للوندليّة (أي التخريب المتعمّد للممتلكات العامّة، والاجتراح العربي للكلمة الأجنبيّة لكميل شمعون في مطلع الحرب الأهلية في لبنان). أصاب المحطات الثلاث هلعٌ شديد في بداية الاحتجاجات، وخصوصاً محطتي «إل.بي.سي» و«إم.تي.في». كان يزبك وهبة يتجوّل في وسط البلد كأنه يجول بين أنقاض درسدن في الحرب العالمية الثانية، وكان يصف بأسى وقتامة حالة زجاج مباني بعض المصارف التي تعرّضت للكسر. كيف يتعرّض زجاج المباني للكسر؟ هذه لا تكون ثورة، لأن الثورة تحافظ على المصارف برمش العيون لأنها رمز استقرار وبحبوحة لبنان ــ أو هكذا كانت دعاية محطة بيار الضاهر على مدى عقود، وكان برنامج مارسيل غانم (قد يكون برنامجه من أفسد ما مرَّ على شاشة لبنانية منذ أن دخل التلفزيون إلى المنازل) يروّج بصورة مفضوحة ليس فقط للفاسدين من الزعماء والأمراء والنصّابين، بل كان يقتطع من وقت البرنامج «الثمين» ليروّج للمصارف وأصحابها.
وفيما باتت المحطات الثلاث شبه متطابقة في التغطية، فقد باتت «إل.بي.سي» و«الجديد» توأميْن لا ينفصلان ولا يتورّعان عن الترويج لبعضهما. وهما تضامنتا في موضوع وقف البث المجاني للمحطتيْن. والتوأمة بينهما شأنهما، لكنها تعني المشاهد في الإجابة عن أسئلة لا بدّ منها: كيف ولماذا تغيّرت «الجديد» من خط الممانعة (شبه المبتذلة حتى) إلى خط معاداة الممانعة؟ وما علاقة المصالح التجارية لصاحب المحطة بتغيير وجهة المحطة السياسية؟ وكيف انتقلت المحطة من محطة تكرّست للعداء للنظام السعودي (كان أوّل ظهور لي على «الجديد» بعد ١١ أيلول / سبتمبر للحديث في موضوع المعارضة السعودية) إلى أن تحوّلت إلى مُروّجة لسياسات النظام السعودي الإقليمية؟ وكيف تتحوّل محطة اشتهرت بصرامة موقفها ضد التعامل مع إسرائيل والتطبيع معه، إلى محطة تبثّ شريطاً ترويجياً لخلف الحبتور، واحد من أصدح المُجاهرين العرب بالتطبيع مع إسرائيل ورفض «تهمة» العداء العربي لها؟ نحن نرى الكثير من الأفراد في الإعلام العربي ــ وخصوصاً اللبناني لأن الطلب أكبر بسبب وجود حزب الله الذي تعمد دول الخليج إلى محاربته ــ يتحوّلون من الممانعة إلى نقيضها (أعرف، هناك مَن سيذكر مثال غسان جواد لأنه تحوّل من ١٤ آذار إلى الممانعة، لكن هل لديكم مثال آخر؟ مقابل كل حالة مثل غسان جواد، هناك حالات بالمئات من أناس يتحوّلون من فريق الممانعة إلى نقيضها) وهؤلاء عندما يتحوّلون بين ليلة وضحاها، لا يعرضون لنا أسباب وظروف هذا التحوّل الدراماتيكي، كأن التحوّل من فكرة إلى نقيضها رحلة ذهنية عادية تتطلّبها القراءة المعمّقة. وليس هناك مَن يشرح لماذا تكون هذه الرحلة دوماً نحو الطرف الأكثر ثراءً ونفوذاً وقدرةً في العالم العربي، والأكبر تملّكاً في حصّة الإعلام.
سطحياً، تبنّت المحطات الثلاث ما أصرّت على تسميته بـ«الثورة». لكنها لم تستعمل هذه التسمية إلا بعد تغيّر الطبيعة الطبقية للانتفاضة على الأقل في بيروت: إذ أن الفقراء (عراة الصدور) الذين يثير ظهورهم الذعر فور نزولهم إلى الشوارع، استُبدلوا بأبناء وبنات الطبقات المتوسّطة وطلاب وأساتذة الجامعات الخاصّة، الذين تعجّ بهم صفوف منظمّات المجتمع المدني التي تعكس في خطابها أقل المطالب راديكاليّة وجذريّة: من منها مثلاً طالب حتى الساعة بتأميم المصارف؟ عراة الصدور هدّدوا في ظهورهم في اليوميْن الأوليْن (عندما انضمّ جمهور حزب الله إلى صف المنتفضين في لبنان والجنوب، وضد الحليف الشيعي للحزب) مصالح المصارف ومصالح أصحاب المحطات. أصحاب المحطات لا ينتمون طبقياً إلى فئة الفقراء أو حتى إلى فئة الطبقات المتوسّطة التي طغت في الاحتجاجات في بيروت (مع أن الخلفية الطبقية للمحتجّين اختلفت بين منطقة وأخرى، لكن الطبقة الوسطى سادت في الجنوب وفي بيروت، وابتعد الفقراء عن أوساط الاحتجاجات في تلك المناطق، ربما لأن شعارات وهتافات المدنيّين المتعلّمين ذوي الثقافة الغربية ــ وبعضهم لجأ إلى تلك العادة الذميمة في رفع شعارات باللغة الإنكليزية كأن مخاطبة المراسلين الغربيّين باتت أهم من مخاطبة أبناء وبناء الوطن ــ لم تخاطبهم). أصحاب المحطات مرتبطون على مدى عقود بحاكم مصرف لبنان. وحده شارل أيّوب كان يعترف عندما كان يطرح اسم رياض سلامة لرئاسة الجمهورية، أنه مدين له لأن الأخير كان يمدّه بالمال لمعالجة ضائقة جريدته المالية (لم يسأل أحد عن علاقة حاكم المصرف بالإعلام وعن قدرته). والترويج لرياض سلامة، وخصوصاً الإعلان المتكرّر عن حصوله على جوائز، كأنه يخوض منافسة في إعداد أكبر طبق حمص، لم يكن مجانياً أبداً. كانت هناك علاقة مقايضة لا نعرف بعد كل تفاصيلها، بين الحاكم وبين أصحاب وسائل الإعلام. واحتجاجات المصرف، وهي الأكثر ثباتاً في الاحتجاجات، كانت تلقى أقل تغطية من المحطات اللبنانية ووسائل الإعلام العربية والغربية. هذه المحطات مسؤولة عن الكارثة المالية، ليس فقط لأن أصحابها هم من المتخمين بالثروات الذين أثروا على حساب الشعب اللبناني، واستفادوا من إجراءات غير قانونية، كان زعماء السلطة أو أصحاب المصارف والحاكم يقدّمونها لهم.
ومكاشفة أصحاب المحطات للناس عن ثرواتهم، تكون (خصوصاً في لحظة «الثورة» التي يتكلّمون عنها) من البديهيات، ولا سيما أن المحطات تطرح شعارات الشفافية والنزاهة والمحاسبة. كيف اغتنى هؤلاء؟ وما هي العلاقة التي جمعت بين المصارف وبين أصحاب المحطات وبين مخابرات الدولة النافذة في لبنان؟ (يوماً النظام السوري، ويوماً آخر النظام السعودي): ولقد تسرّبت وثائق عن طلب تمويل من محطة «إم.تي.في» إلى النظام الديمقراطي الثوري في الرياض. والفصل بين الكارثة الاقتصادية وبين دور رفيق الحريري كان من لازمات التغطية الإعلامية. هذه المحطات شاركت (بالمجّان؟) في الترويج الفظيع لأسطورة «الشهيد رفيق الحريري» بعد اغتياله، وهذا الترويج طمس الجرائم الاقتصادية والسياسية التي كان الحريري هذا مسؤولاً عنها، والتي استمرّت بعده، عبر ورثته البيولويجيّين والسياسيّين. إن الإصرار الشبه الديني على صفة «الشهيد» على أسوأ وأفسد زعيم مرَّ في تاريخ الجمهورية اللبنانية، هو إعلان صريح عن رفض أصحاب المحطات العودة إلى جذور الأزمة، ورفض قاطع للمحاسبة عن الكارثة الاقتصادية والسياسية التي عصفت بلبنان. إعلان شهادة رفيق الحريري عند اغتياله كانت حاجة إلى دفنه ودفن سجله. ومن مظاهر الظلم في لبنان أن رفيق الحريري (الذي تآمر على الفقراء وعلى ذوي الدخل المحدود، كما تآمر على مقاومة إسرائيل في لبنان) يحظى في نشرات الأخبار بالصفة نفسها التي استحقّها الأبطال الذين ماتوا دفاعاً عن لبنان في حروب إسرائيل ضدّه. وباتت صفة شهادة هؤلاء مثار نزاع على هذه المحطات نفسها. إن غياب رفيق الحريري عن الاحتجاجات، واختيار جبران باسيل هدفاً ــ على سوء الانعزالي والعنصري باسيل ــ كان أمراً مبيّتاً لتأريخ الكارثة، ابتداء من وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية وليس ابتداء بانقلاب الأوغاد ( بطريقة انقلاب الاستخبارات الأميركيّة لإرجاع الشاه إلى السلطة في إيران في عام ١٩٥٣) ضد حكومة عمر كرامي في عام ١٩٩٢، والذي أدّى إلى إبعاد أنزه مسؤول لبناني منذ الاستقلال، أي سليم الحصّ، عن الحكم.
وهناك تنافس على السلطة في لبنان، والذي يعبّر عنه الإعلام، كما أساتذة الجامعات الخاصّة وقيادات الـ«إن.جي.أو». هناك رسوخ لزعامات طائفيّة، وهناك مطالبة من قبل أطراف في البورجوازية، للدخول إلى السلطة (أو العبور إلى «الدولة»، على قولهم ــ حتى السنيورة أراد أن يعبر إلى الدولة). وهناك أيضاً طموح شديد للحرفيّين المدينيّين الذين يريدون أن يصلوا إلى السلطة (مثّلتهم خير تمثيل «بيروت مدينتي»). هؤلاء لا يريدون قلب النظام، وإنما تحسينه وتجميله، كما أن كمال جنبلاط لم يكن يريد تغيير النظام اللبناني قبل الحرب، وكان يسخر من «اليسار المغامِر» في أوّل الحرب، لأنه أراد هدم النظام. وأجندة الأثرياء الذين يريدون الدخول في النظام (مع تعديله)، وأجندة الحرفيّين المدينيّين، تلاقت في هذه الحملة الدعائية التي تطغى على التغطية. ومنظمات المجتمع المدني على أنواعها، كانت القائدة ليس في الاحتجاج حول لبنان، لكن في التمتّع بالمنابر الإعلامية مجاناً، وفي النطق باسم الحراك كأنّ فريقها يعاني كما يعاني الفقراء في الشمال والجنوب والبقاع وبيروت. وهذه الفئة من المعارضة في داخل النظام لا تهدّد النظام، أو المصالح الاقتصادية لأصحاب المحطات. هي تفسّر لماذا «الجديد» (التي كانت ذات لبوس يساري) استضافت (وباستفاضة)، في ليالٍ متواصلة، نديم قطيش وديما صادق وفارس خشّان ومروان خير الدين وحليمة قعقور (الأخيرة فقط لأن بولا يعقوبيان، الضيفة الدائمة على «الجديد»، زكّتها) للحديث في شؤون «الثورة»، فيما شربل نحّاس تعرّض في مقابلة مع جورج صليبي، للمقاطعة بعد دقيقتين من الحديث، عندما قال له صليبي: «وقتنا محدود». أمّا كيف أن العاملين الممتهنين في المشروع الإعلامي الدعائي لرفيق الحريري، على مدى سنوات، والذين روّجوا لأسطورته بعد وفاته أصبحوا دعاة «ثورة»، فهذا لا يشير إلّا إلى أن هناك من يقصد بـ«الثورة» شيئاً غير ما عناه ماركس ولينين وروبسبير. الثورة عند علي شعيب ورفاقه، أو عند شهيد أول حركة مقاومة لبنانية متكرّسة، رفيقي أياد نور الدين المدوّر، هي غير ما تعنيه لفريق رفيق الحريري الإعلامي الذي يريد «ثورة». هؤلاء لا يريدون أكثر من استبدال ميشال عون بغطاس خوري. هي بمثابة الثورة التي أعلنها رفيق الحريري، في عام ١٩٩٨، ضد سليم الحص. ولتكريس فهم مائع ومعتدل لـ«الثورة»، تختار وسائل إعلام الأثرياء تلك التحرّكات والشعارات والهتافات التي لا تشكّل خطراً على سلطة الطبقة الحاكمة. لهذا، فإن حفنة من الشيوعيّين اقتحموا وحدهم مداخل المصارف قبل أيّام، فيما لم يناصرهم رافعو ورافعات شعارات «ثاو، ثاو، ثورة. هاي ثورة مش حراك».
الإعلام الغربي لا يختلف عن إعلام الأنظمة ولا يرتقي عنه في درجة المهنية


وقد بات نفوذ منظمات «المجتمع المدني» كبيراً في الإعلام، وخصوصاً أن السفارات ودول الغرب باتت ناشطة كثيراً في تمويل وإنشاء مواقع إخبارية عربية (وهي لا تستقطب إلا خرّيجي الإعلام الخليجي والحريري لسبب ما)، وحتى في تمويل بعض المدوّنين (كما كشفت رانيا خالق، في مقالة لم تحظَ بأي اهتمام في الإعلام العربي، ربما بسبب مواقف الكاتبة من الصراع في سوريا). وجورج سورس (الذي يبالغ اليمين العنصري الغربي المعادي للسامية في تقدير دوره في أوروبا)، بات حاضراً بقوة في المشهد الإعلامي الإنترنتي العربي. لا يمكن إنكار ذلك. وهذا التواجد لمنظمات المجتمع المدني يضع عملها ضمن أطر مقبولة غربياً. هل هي الصدفة أنه ليست هناك منظمة مجتمع مدني واحدة تدعم مقاومة إسرائيل، أو تدعو إلى تحرير كل فلسطين؟ ماذا سيحل بتمويل أي واحدة من مؤسسات المجتمع المدني ــ من مؤسسة رينيه معوّض، العزيزة على قلب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ــ إلى منظمات ذات خطاب ليبرالي أو حتى يساري (مزيّف) لو دعت إلى مقاومة إسرائيل بغير الطناجر؟
ومواقع التواصل باتت جزءاً من شبكة الإعلام السائد: الكل يروّج لعناصر الشبكة الإعلامية: المغرّد الذي يتفق مع توجّهات المحطات الثلاث يصبح تلقائيّاً ناشطاً وضيفاً عزيزاً، والمراسل يصبح بدوره مغرّداً مُتابَعاً من الآلاف. ومنظمات المجتمع المدني تدور في هذا الفلك، بينما الكل يرسّخ صوابيّة الجزء، وهكذا دواليك. وتصبح الحقيقة حقيقة فقط لأنها تتكرّر في أكثر من منبر: هي تظهر في بيانات وتصاريح منظمة المجتمع المدني، وهي تظهر في نشرات الأخبار، وهي أيضاً ظاهرة في هاشتاغات. وكما أن حركة ١٤ آذار (وهي لا تختلف كثيراً عن الفئات النافذة إعلاميّاً في هذه المرحلة، وإن كان عداؤها ضد حزب الله يفوق عداء حركة ١٤ آذار في أوجها للحزب)، لم تكن تعتبر أن الجمهور المعارض لها لا يمتّ بصلة إلى الوطن: هم لا يشبهوننا، على قول المستوزر ديمانوس قطّار. الخارج عن خط وسائل الإعلام هو خارج عن المواطنية أو هو أزعر يسهل إخراجه من سياق بناء وطن يُقال إنه سيكون جديداً.
هل انتهت الانتفاضة أم أنها جارية؟ المحطات الثلاث، ومعها وسائل إعلام طغاة الخليج (خصوصاً في قطر والسعودية) شديدة الحماس لفكرة «الثورة». لكن متى كان طغاة الخليج من دعاة «الثورة»؟ هؤلاء دعموا أسامة بن لادن في أفغانستان، وهم دعموا الـ«كونترا» في نيكاراغوا، ودعموا القوى الأمامية القروسطية في حرب اليمن. ثورة هؤلاء هي ثورة مضادة. وهذه الجريدة خذلت «الثورة» بمقياس الكثير من «الثوار». وتعريف «الثورة» حكر على الدوحة والرياض، ووسائل إعلامهم تختار «أيقونات» الثورة. والثوريّة في قاموس منظمات المجتمع المدني لم تعد تُقاس إلا على أساس معياريْن: ١) الثوريّة هي التوافق مع إجماع النظام القطري والسعودي على قضايا في السياسة الخارجية. ٢) الثورية هي معاداة سلاح أي حركة مقاومة ضد إسرائيل، وخصوصاً حزب الله لأنها أكثرها فعالية.
الواقع هو غير ما نراه على الشاشات. هم يقولون: لبنان توحّدَ، والطائفية زالت من النفوس. لكن الشعارات الطائفية (من سنّة وشيعة ومسيحيّين) لم تختفِ ليوم واحد. يقولون إن الشعب مُجمع على المطالب. ما هي هذه المطالب؟ ولو، الكل يعرف المطالب. هل تأميم المصارف منها؟ الكل يعرف المطالب. وإذا كان الشعب متوحداً كما يزعمون، فلماذا الخشية الدائمة من الفتنة والحرب الأهلية وهي اندلعت ــ لو كان مقياسها التفلّت والصراع الحادّ على وسائل التواصل الاجتماعي. لو أتت الثورة، لأنتجت وسائل إعلام خاصّة بها، ومن دون تمويل من جورج سورس.

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)