لم تكن أسباب ضمور حركات الاحتجاج، التي تزايد نشاطها في بدايات هذا العقد، موضوعية فحسب (قمع الأنظمة واستيلاء الحركات الإسلامية على المشهد)، بل أيضاً كان ثمّة خلل منذ البداية في هيكلية هذه القوى، نتيجة عدم تمرُّسها في النشاط العلني إلا في دولة أو اثنتين، واستمرارها بسبب ذلك في الخضوع لمنطق العمل السرّي. تكتسب السرية في النشاط ضدّ السلطة شرعيتها، ليس فقط من تآكل شرعية النظم، بل أيضاً من انسداد المخارج أمام الحلول السياسية والتسويات، وهو ما يضاعف من حجم هذا الحضور، ويجعله في ظلّ تزايد بطش النظم، المناط الفعلي لأيّ معارضة جادّة وفاعلة. حصل ذلك في سوريا وتونس والعراق والسودان، ولكن بنِسب متفاوتة تبعاً لطبيعة كلّ سلطة، حيث يزداد منسوب الاعتراض سرّاً كلّما كانت الثغرات في بنية النظم أقلّ، وبالتالي تصبح النظم المنغلقة بالكامل هي المرشّحة أكثر من سواها ليس فقط لمواجهة العمل السرّي من جانب المعارضة، بل أيضاً لخروج هذا العمل إلى العلن حين تخرج الأمور عن السيطرة، وتبدأ الانهيارات بالحدوث. وهو ما يفسّر بروز دور الأحزاب الشيوعية الراديكالية في المرحلتين الأولى والثانية من مراحل الاحتجاجات العربية، حيث تقدَّم الشيوعيون في تونس وسوريا (وفي السودان أخيراً) على سواهم من القوى التي تعرّضت مثلهم للقمع السياسي، ولكنّها لم تصل إلى ما وصلوا إليه من قدرة على التشبيك وتنظيم الاعتراض، قبل أن يعلو منسوب «الأسلمة»، وتبدأ طاحونة الصراع بين النظم والإسلاميين في حصد الجميع على خلفية انهيار الإقليم.
شرعية المعارضة الشيوعية تاريخياً
تصدُّر الشيوعيين للمشهد في هاتين المرحلتين كان طبيعياً، ليس لأنهم الأكثر تمرُّساً في مواجهة النظم فحسب، بل لأنّ شرعيّتهم تقوم أساساً على هذا الشكل من المواجهة، حيث لم يتعرّض أيّ فصيل سياسيّ طوال الحقبة التي أعقبت الاستقلالات لما تعرّضوا له من بطش على أيدي النظم العسكرية العربية. استثناؤهم من العملية السياسية التي نهضت عليها شرعية هذه النظم، جعلهم البديل الوحيد الممكن عنها حين تنهار أو تتعرّض لموجات اعتراض متوالية. القوى الأخرى كلّها جرى احتواؤها، وخصوصاً عندما بدأت شرعية الاشتراكية العربية بالتقوّض بعد وفاة عبد الناصر، حيث لم يكن ثمة بديل عنها سوى توسيع القاعدة التمثيلية للنظم، عبر ضمّ المعارضة إليها، سواءً في صيغة ائتلافية جديدة كما في سوريا، أو عبر الاستمرار في صيغة الائتلاف الحاكم بعد تغيير بنيته وتحالفاته (الحزب الوطني في مصر). في الحالتين، كانت الحركة الشيوعية العربية عبر أجنحتها الأكثر راديكالية، هي التعبير الوحيد عن استمرارية المعارضة لهذا الانتقال السياسي من الاشتراكية العربية إلى حكم الريع، ولكن من دون أن تكون الاستمرارية بالضرورة تعبيراً عن الالتزام بالمبادئ الشيوعية. في هذه المرحلة تحديداً، بدأت حركة المراجعات داخل الأجنحة التي لم تمتثل لهذا الاحتواء، ومع أنها لم تكن عامّة ولم تشمل غالبية تيارات الرفض الشيوعية العربية، إلّا أنها أفضت، وخصوصاً في هذا المفصل، إلى تغيير كبير في مقاربتها ليس فقط للعملية السياسية، بل أيضاً للمسألة الاقتصادية الاجتماعية. جَعَلَها ذلك تقف في كثير من الأحيان على يمين النظم، لجهة تبنّي الخطاب النيوليبرالي، واعتبار الدمقرطة شرطاً ليس فقط للتغيير السياسي، بل أيضاً للتراجع عن جلّ الطروحات التي صنعت «خصوصية» الحركة الشيوعية العربية. اختزال النشاط المعارض بالمواجهة الأمنية مع السلطة عبر العمل السرّي، أفضى إلى تعارض واضح بين شكل المواجهة واتّجاهاتها العامة، حيث لم يجرِ الانتباه إلى أهمية الحفاظ على البنية الأيديولوجية أثناء المواجهة، لا بل اعتُبرت أحياناً من أسباب التراجع أمام السلطة، على اعتبار أن القمع يجري بداعي الحفاظ على النظام الاشتراكي. لم تكن الاشتراكية، حينها، الغطاء للقمع، بل اعتُبرت كذلك من جانب الأجنحة الشيوعية العربية (جناح الحزب الشيوعي السوري ــ المكتب السياسي تحديداً) التي اتّخذت من المواجهة مع النظم ذريعة للتراجع عن الماركسية اللينينية لمصلحة ديموقراطية ليبرالية منفصلة عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي العربي.

تغيير التحالفات الطبقية
حصول المراجعات في مرحلة انحسار الاشتراكية العربية، جعلها تصبّ في مصلحة التوجّه النيوليبرالي الذي كانت تقوده دول الخليج مع السادات في مصر. لم تنتبه الأجنحة الشيوعية الراديكالية، وهي تتبنّى الديموقراطية الليبرالية كبديل من الماركسية اللينينية، إلى أنها تفعل ذلك في ظلّ متغيّر إقليمي سيستفيد من أيّ حراك ماركسي ضدّ السوفيات وحلفائهم في المنطقة. الموقف من التبعية الشيوعية العربية للمركز السوفياتي لم يكن سوى ذريعة، لأنّ نقدها لم يحصل في سياق التشديد على الموقع الطبقي لهذه الأجنحة، بل جرى بالتزامن مع التخلّي عن كلّ المرجعيات الفكرية والأيديولوجية التي تجعل منها بالفعل أحزاباً للطبقة العاملة، سواء منها الفلاحون أم العمال. الصراع على السلطة كان بهذا المعنى مدخلاً لتغيير التحالفات الطبقية لهذه الأجنحة، حيث يتحوّل العمل السري ومعه كلّ العدّة النضالية المماثلة إلى رصيد في مصلحة الفئات المستفيدة من الدفع بالأجندة النيوليبرالية. على هذا الأساس، اتُّخذ الموقف بالتضامن مع الإسلاميين في مواجهة السلطة السورية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، فـ«الإخوان» لم يكونوا مجرّد ضحية أخرى من ضحايا النظم، بل مثّل صعودهم هنا ابتداءً من أواسط الستينيات تعبيراً عن معارضة الفئات التي تضرّرت من إصلاحات «البعث» وقبله عبد الناصر، لجهة الإصلاح الزراعي وإلغاء الملكيات الكبرى والتأميم.
حصول المراجعات في مرحلة انحسار الاشتراكية العربية جعلها تصبّ في مصلحة التوجّه النيوليبرالي الذي كانت تقوده دول الخليج مع السادات في مصر

هذا بالإضافة إلى كونهم جزءاً من التحالف الإقليمي الذي تصدّى منذ البداية لمشروع الاشتراكية العربية، عبر استخدام أكثر القوى رجعيةً في مواجهته، وهي لا تقتصر عليهم وحدهم، على اعتبار أنها تضمّ مروحة واسعة من الفئات التي تعتبر امتداداً للمصالح الطبقية التي كانت قائمة قبل حصول ثورة يوليو. الموقف من القمع هنا ــ رغم أحقيته مبدئياً ــ ينحاز إلى المنظور الليبرالي الذي لا يرى بحكم محدوديته الطابع الطبقي للصراع، وبالتالي تصبح المجاهرة به من موقع المعارضة الجذرية للسلطة بمثابة اعتراف غير معلَن بأحقية الفئات التي يمثّلها «الإخوان» وفلول النظام القديم باستعادة امتيازاتها على حساب أكثرية الفئات الاجتماعية التي أنصفتها قوانين التأميم والإصلاح الزراعي. في هذه المرحلة، كانت السلطة نفسها قد بدأت بالتراجع عن هذه الإصلاحات لمصلحة تحالف جزئي مع البورجوازية وبقايا الإقطاع السياسي، ولكنها لم تصل إلى الحدود التي وصلت إليها بعض الأجنحة الشيوعية في التخلّي عن كلّ تحالفاتها الطبقية لمصلحة وجهة لا يُعرَف إن كانت بالفعل تخدم صراعها ضدّ السلطة على المدى البعيد.

عدم الوضوح تجاه المسألة الاقتصادية الاجتماعية
في الحقبة التي تزايدت فيها المواجهة بين السلطة و«الإخوان» نتيجة هذا الصراع الصفري على النفوذ والامتيازات، بدأت المعارضة الشيوعية بمراجعة خياراتها عبر كسر الاحتكار الذي كان يمثّله التوجه النيوليبرالي بقيادة الحزب الشيوعي ــ المكتب السياسي. الاصطفاف إلى جانب «الإخوان» في مواجهة السلطة، أضعف الشرعية التاريخية لهذا الفصيل الذي بدأ منذ ذلك الوقت رحلة النكوص والتراجع ضمن القواعد التي تبنّت خيار الماركسية العربية المستقلّة عن موسكو. كان لا بدّ في ظلّ هذا الانحسار الواضح للتيار الذي احتكر معارضة السلطة طيلة عقدين تقريباً، من صعود بديل يملء الفراغ، ويكون في الوقت ذاته تعبيراً عن توجُّه جديد داخل الحركة الشيوعية العربية، لجهة تبنّي مقاربة واضحة ليس فقط تجاه الصراع بين السلطة و«الإخوان»، بل أيضاً بالنسبة إلى الموقف من التراجع عن الماركسية اللينينية لمصلحة ليبرالية اقتصادية منحازة للأغنياء والطبقة الوسطى العليا. إدانة الاستقطاب الحاصل بين السلطة و«الإخوان» وضع إطاراً جديداً لعمل المعارضة الشيوعية، ولكنّه لم يتحوّل إلى وجهة عامة نتيجة لعجز هذا الجناح أيضاً ــ والذي يعدّ أفضل بكثير من سابقه ــ عن حسم المسألة الطبقية، وبقائه عند حدود الكلام العام وغير الواضح عن العدالة الاجتماعية. هذا التخبُّط في تحديد أساس المشكلة الاجتماعية الاقتصادية، لم يكن فقط نتاج فقدان الحركة الشيوعية العربية لهويّتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل لأنّ ثمة جذراً ليبرالياً هيمن على خطابها وخصوصاً في سوريا، حتى حينما لم يكن ثمّة اتّجاه عام تقوده الليبرالية الاقتصادية في الإقليم على أنقاض الاشتراكية. في التسعينيات، تفاقمت هذه المشكلة أكثر، نتيجةً لانحصار المواجهة مع السلطة في الشقّ السياسي ــ الأمني فقط، وبالتالي هيمنة الخطاب الحقوقي تحت تأثير النزعة الليبرالية، التي تعتبر أن ليس ثمّة حقوق اقتصادية يمكن الدفاع عنها بالتوازي مع تبنّي الشقّ السياسي الحقوقي من المواجهة. وهو ما جعلها في النهاية ــ رغم أحقّيتها الأخلاقية لجهة تضحيات المعارضة ــ معركة بين نُخَب، واحدة في السلطة تدافع عن امتيازاتها بعدما بدأت شرعيتها الاشتراكية بالتقوّض، وثانية في المعارضة، تبحث عن مبرّر لوجودها خارج عباءة المسألة الاقتصادية الاجتماعية التي قضت عمرها في المنافحة عنها. في الحالتين، لم يكن حضور الفئات الاجتماعية التي يدّعي الطرفان الدفاع عنها أساسياً، لأن الحضور هنا هو حضور للشرعية الشعبية التي بدت غائبة في هذه المرحلة عن خطاب كلّ من السلطة والمعارضة، حيث تراجعت أولوية تمثيل هذه الفئات والدفاع عن مكتسباتها لمصلحة اتّجاه سيقود البلاد لاحقاً بعد انحسار الصراع جزئياً بين الطرفين إلى تبنّي النيوليبرالية كوجهة عامة للمرحلة بدلاً من الاشتراكية.

* كاتب سوري