ليس بالضرورة أن تُخاض المواجهات المعاصرة بمنطق الحروب الصناعية الصرفة. تبدّلات كثيرة طرأت على هياكل الحروب وأدواتها مع دخول التكنولوجيا ووسائل الإكراه الناعمة. ما كان يحتاج إلى عمل عسكري حاسم واحد، أصبح اليوم تدابير كثيرة للإنهاك والإضعاف. اختفت النهايات الفرضية والنتائج المطلقة إلى حدّ كبير. كلّ الدول وحتّى التنظيمات «غير الدولتية» تطوّر آليات للتأقلم مع «الحروب المهذبة» التي تستخدم وسائل لا عنفية لتنفيذ أهداف استراتيجية.ولهذا، تتّجه حقول النزاع في العالم إلى مزيد من التعقيد والغموض، بفعل متغيرات تصوريّة فكريّة ضمن وعاء عجيب غريب من التنوعات النفسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية تدلّنا على اختلاف الحروب في سماتها وأدواتها بين الأمس واليوم. ووسط الناس، تجري اليوم الكثير من المعارك، فهُم الوسيلة من جهة لتغيير موازين القوى، وهم الهدف من جهة أخرى للسيطرة على عقولهم وتبديل مقاصدهم بأدوات التأثير المختلفة.
في الحالة اللبنانية التي بدأت منذ السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، نشبت معركة لامتناظرة مع حزب الله وحلفائه للفوز بالناس، وللتمكّن لاحقاً من تغيير المعادلات وموازين القوى الداخلية التي تشكّلت بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016، وإثر الانتخابات النيابية التي جرت عام 2018 وجاءت بأغلبية مؤيّدة للمقاومة عكست نفسها بصورة أو بأخرى على خيارات لبنان السياسية والاقتصادية. وتحديداً في مسائل العلاقة مع سوريا، وعودة النازحين، ورفض صفقة القرن، وترسيم الحدود البرية والبحرية، وفي إصلاح السياسات الداخلية التي من شأنها إحداث تحوّل في إدارة الشأن العام وتحسين الخدمات للمواطنين. تفوُّق حزب الله وحلفائه، زاد من الفجوة مع أخصام الداخل والدول المناوئة في الخارج. دوافع كسر هذه المعادلة كانت تكبر يوماً بعد يوم، والمواقف السياسية بدأت تخرج عن ميلها الطبيعي ومنطقها التسووي، لدرجة كان من الصعب ضبط جنوحها، وهذا ما رجّح لاحقاً وجود مخطّط كبير متلائم مع حجم الانفعالات والإثارات والتناقضات التي حصلت في الشارع منذ ذلك التاريخ، وخروج أصوات تطالب، بدفعها لا إلى إيقافها، وتسخينها لا إلى تبريدها!
ولإبطال تفوّق حزب الله وحلفائه، كان لا بدّ من حرب ليست أبداً عملاً حماسياً محدوداً، بل حرباً خفية حذرة ماكرة متعارضة مع العنف، ولكنها أعظم شأناً وتأثيراً!
1. لو عدنا قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى شهر آذار/ مارس 2019 عندما توّج وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو سلسلة من الزيارات التي قام بها موفدون من الإدارة الأميركية إلى بيروت، وكان هدفها الضغط على المسؤولين اللبنانيين لتوقيع اتفاقية مع الكيان الصهيوني لترسيم الحدود البحرية وفق تصوّر الدبلوماسي الأميركي فريدريك هوف. ما سمعه من مواقف في بيروت، دفعه لتسريب كلام مفاده أنّ اللبنانيين أمامهم خيارين لا أكثر: «إمّا التخلّي عن دعم حزب الله ومواجهته، وإمّا تحمّل الضربات الأميركية التي سترتفع وتيرتها». ثم أشار إلى أنّ «كلّ الشعب اللبناني بات تحت المجهر الأميركي».
وخلال المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره اللبناني جبران باسيل، سأل: «كيف يمكن أن يقوي تخزين آلاف الصواريخ في الأراضي اللبنانية لاستخدامها ضد إسرائيل هذه البلاد؟ حزب الله يقوم بهذه النشاطات الخبيثة نيابة عن النظام الإيراني... إنّ الأمر يتطلّب شجاعة من الشعب اللبناني للوقوف بوجه إجرام حزب الله وتهديداته...»، واعداً بالاستمرار «باستخدام جميع الأساليب السلميّة المتاحة لنا لتضييق الخناق على التمويل والتهريب وشبكات الإرهاب الإجرامية، وإساءة استخدام المناصب والنفوذ الذي يغذّي عمليات إيران وحزب الله الإرهابية». وختم بالقول إنّ لبنان وشعبه يواجهان «بصراحة خيارين، إمّا المضيّ قدماً كشعب أبيّ، أو السماح لطموحات إيران وحزب الله السيئة بأن تسيطر وتهيمن عليه».
وخلال لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحدّث بومبيو عن العقوبات، مُبرّراً بأنها «تهدف إلى منع تمويل حزب الله»، فردّ رئيس المجلس النيابي بالقول إنّ «العقوبات التي تفرضونها تطاول كلّ لبنان واللبنانيين، وتؤثّر سلباً على الوضع الاقتصادي والمالي».
2. في شهر أيلول/ سبتمبر، بدأ مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، الذي خلف زميله ديفيد ساترفيلد، المكلّف بمتابعة مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان والكيان الصهيوني، جولة التقى فيها الرؤساء الثلاثة طرح معهم «ضرورة إنجاز عملية ترسيم الحدود خلال مهلة ستة أشهر، من دون السماح بالمماطلة أو التلاعب بالوقت، وكذلك أثار مع المسؤولين ملف القرار 1701، وضرورة الالتزام به وتطبيقه ومنع حصول أيّ تصعيد في نطاق عمله».
وخلال حديث مع قناة «إل بي سي»، اعتبر شينكر أنّ «حزب الله حزب غير لبناني الانتماء ولا يخضع للسيادة اللبنانية... وفي المستقبل سنعلن ضمن العقوبات عن أسماء أشخاص جدد يساندون حزب الله بغضّ النظر عن طائفتهم ودينهم».
ودعا شينكر إلى «وجوب تعزيز دور اليونيفيل بحيث يُسمح لها بالدخول إلى ما يسمّى بالأملاك الخاصة، وهي بالفعل أملاك تابعة لحزب الله»، معتبراً أنّ «الحزب يزعزع الاستقرار ويعرّض لبنان للخطر، وامتلاكه الأسلحة الدقيقة».
وقال: «لدينا علاقة مهمة مع لبنان وأقول وبصفة رسمية إنّنا لن نكرّر ما حصل عام 1991 عندما أخطأت الولايات المتحدة في حساباتها مع لبنان وتم تسليمه إلى سوريا».
3. وقبل يومين من اندلاع الاحتجاجات في لبنان في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مقالةً بعنوان «سوريا ضاعت. لننقذ لبنان» للكاتب ديفيد إغناتيوس. لفت إغناتيوس الوثيق الصلة بدوائر القرار الأميركي إلى أنّ مسؤولين أميركيين يعتبرون بيروت «قضية خاسرة أصلاً»، بحجة أنّ «حزب الله يمثّل القوة السياسية المهيمنة في لبنان». وفي تعليقه، يقول إغناتيوس: «لتقلق إيران بشأن انهيار لبنان». ويتابع أن «هذا العذر خاطئ، لا سيما في الوقت الراهن». قائلاً: «دولة منهارة جديدة هي آخر ما يحتاج إليه الشرق الأوسط، لا سيما إذا كانت هذه الدولة تقع على الحدود مع إسرائيل». أضاف: «من شأن دولة لبنانية قوية أن تؤذي حزب الله بدلاً من مساعدته».
ولكن كيف ستبدو الدولة اللبنانية القوية؟ في ردّه على هذا التساؤل، قال إغناتيوس: «إنّها ستكون أقدر على تثبيت سيادتها. ولهذه الغاية، دعا واشنطن إلى الضغط لاستئناف المفاوضات عبر القنوات الخلفية لترسيم الحدود بين لبنان وسلطات الاحتلال من جهة، وإلى مساعدة لبنان على مكافحة التهريب بشكل فاعل على الحدود السورية من جهة ثانية». إغناتيوس رأى أنّ «الوقت قد حان لإحداث تغيير»، معتبراً أن «حزب الله عدوّ للبنان».
4. اندلعت الاحتجاجات، لكن لم يصدر أيّ موقف عن الإدارة الأميركية على خلاف احتجاجات أخرى في المنطقة والعالم. كان ذلك محلّ استغراب من قِبل المراقبين، لكن بعدما كادت تحوّلات ومعطيات داخلية تُخمد ما يجري في الشارع، سارع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى تحذير القادة السياسيين في لبنان، وطالبهم بـ«الإسراع لتشكيل حكومة جديدة إثر استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري». وقال بومبيو في بيانه الأول: «وجّهت التظاهرات السلمية والتعبيرات عن الوحدة الوطنية في الأيام الـ13 الماضية رسالة واضحة. الشعب اللبناني يريد حكومة كفوءة وفعّالة وإصلاحاً اقتصادياً».
خلال لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري تحدث بومبيو عن العقوبات مُبرراً بأنها «تهدف إلى منع تمويل حزب الله»


وأكد أنّ «أيّ أعمال عنف أو تصرفات استفزازية ينبغي أن تتوقف»، داعياً «الجيش والأجهزة الأمنية اللبنانية إلى مواصلة ضمان حقوق وسلامة المتظاهرين». ولمزيد من التأجيج، صرّح في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بأنّ على الولايات المتحدة الأميركية «مساعدة شعوب العراق ولبنان على التخلّص من النفوذ الإيراني وتحقيق تطلعاتهم».
5. ثمّ جاءت في العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر شهادة سفير ​الولايات المتحدة السابق في لبنان ​جيفري فيلتمان، خلال جلسة للجنة الشؤون الخارجية في ​مجلس النواب الأميركي، ناقشت الأسباب التي أدّت إلى انطلاق موجة ​التظاهرات في لبنان، معتبراً أن «الأمر الأهم هو أننا نقوم بتقويض حجة حزب الله»، في إشارة منه إلى دعوى حزب الله بأنّه يحمي لبنان. في شهادته، كرّر فيلتمان كلمة حزب الله 49 مرة. واعتبر أنّ «ما يحدث مرتبط بالمصالح الأميركية».
إذاً، في الجلسة التي كانت بعنوان «ما هو التالي للبنان؟ دراسة الآثار المترتّبة على الاحتجاجات القائمة»، نبّه فيلتمان إلى مجموعة من الأمور وحدّد مجموعة أخرى من الأهداف وهذه أبرزها:
- يجب أن لا تظهر الاحتجاجات وكأنّها متعلّقة بالولايات المتحدة الأميركية.
- يُعدُّ لبنان قاعدة أمامية خطيرة لإيران، تهدّد المصالح الأميركية في المنطقة وخارجها.
- تأليف حكومة تكنوقراط وليست سياسية.
- إضعاف حلفاء حزب الله في أيّ انتخابات مقبلة.
- يجب إسقاط دور إيران الإقليمي «الخبيث»، الذي يمثّله حزب الله والذي يمتلك قدرات متقدّمة لتهديد إسرائيل.
- دور حزب الله، كدور الجماعات السنية المتطرّفة الإرهابية، خطر على استقرار لبنان.
- لبنان مكان للمنافسة الاستراتيجية العالمية، وإذا تنازلنا عن الأرض، سيملأ الآخرون الفراغ بسعادة.
- الاحتجاجات تفوق بأهميتها ما جرى في 14 آذار/ مارس 2005، لأنّ الشيعة انضموا إليها هذه المرة.
- يخضع النظام السياسي اللبناني برمّته لنقد علَني عدائي من الجمهور الغاضب، وحزب الله هدف لهذا النقد.
- لم يعد في إمكان حزب الله أن يدّعي أنه «نظيف»، بعدما انخرط في العملية السياسية، التي جعلته يهبط إلى مستوى الأحزاب اللبنانية الأخرى المشكوك فيها.
- فشل (السيد) نصر الله «الذي يروّج لنظريات التدخل الأجنبي» في إنهاء الاحتجاجات، وتمّ دحض روايته من قِبل المحتجين.
- الولايات المتحدة الأميركية حثّت اللبنانيين على مواجهة حقيقة أنّ حزب الله وصواريخه يخلقان خطر الحرب مع إسرائيل بدلاً من توفير الحماية منها.
- الاحتجاجات تتقاطع مع المصالح الأميركية.
- التظاهرات الحالية تقوّض «بشكل بنّاء» الشراكة بين حزب الله والتيار الوطني الحر.
- لا يمكن إغفال دور التيار الوطني الحر ودور وزير الخارجية جبران باسيل في تمكين حزب الله وتوسيع نفوذه داخل المؤسّسات الحكومية.
- «يجب أن ندرك أنّ علاقة القوات المسلحة اللبنانية وحزب الله ليست قصة حبّ أبدية».
- المستثمرون والسيّاح لن يعودوا إلى لبنان بأعداد كبيرة طالما أنّ الحزب قادرٌ على أخذ البلاد إلى الحرب، من دون الالتفات إلى الرأي العام أو العودة إلى الحكومة.
- جذبُ المستثمرين الغربيين ودول مجلس التعاون الخليجي سيظلّ بعيدَ المنال في ظلّ غياب التغييرات، ورضا اللبنانيين عن كونهم جزءاً من المحور الإيراني ــ السوري.
- قد لا يتمكّن الناخبون اللبنانيون من تجريد الحزب من ترسانته بين عشيّة وضحاها، لكن يمكنهم اغتنام الفرصة الانتخابية المقبلة لتجريده من الشركاء البرلمانيين الذين يستخدمهم لتأكيد إرادته السياسية.
- احتجاجات عام 2005، نجحت في إجبار الجيش السوري على مغادرة لبنان، بعد اجتماع المبادرة المحلّية مع الدعم الخارجي. وكما في عام 2005، يمكن أن يُحدث الاهتمام المتواصل اليوم من قِبَل الكونغرس والإدارة الأميركية ومجلس الأمن الدولي فرقاً، خصوصاً أنّ التظاهرات لا يمكن أن تستمرّ إلى أجل غير مسمى.
- لن يكون من الحكمة التدخل مباشرةً في القرارات السياسية اللبنانية، والتي من شأنها أن تجعل من السهل على نصر الله (أو سوريا أو إيران أو روسيا) تشويه سمعة المتظاهرين ومطالبهم.
- يجب ألّا يُنظر إلى أنّ الولايات المتحدة هي من تفرض اختيار رئيس وزراء لبنان المقبل أو وزراء معيّنين في الحكومة المقبلة، بل يجب أن تظهر بكونها قرارات لبنانية حصرية.
- يجب الإفراج سريعاً عن المساعدة العسكرية للجيش اللبناني، حيث تتّجه شعبية الجيش إلى التصاعد مقارنة بتراجع سمعة حزب الله.
- من شأن إطلاق المساعدة أن يقوّض المحاولات المستمرة التي يقوم بها الحزب وإيران وسوريا وروسيا لجذب اللبنانيين إلى مداراتهم من خلال التشكيك في صدقية الولايات المتّحدة.
- يجب أن يكون موقفنا واضحاً بأننا لا نريد أن نرى الانهيار المالي أو السياسي للبنان، خشية أن توفّر الفوضى والحرب الأهلية المزيد من الفرص لإيران وسوريا وروسيا للتدخل.
- على اللبنانيين الذين عاشوا لفترة طويلة بالرضا مع تناقض الهوية الذاتية مع الغرب «أثناء إيوائهم لشركة فرعية إرهابية إيرانية ــ حزب الله»، فهم الآثار المترتّبة على المسار الذي يختارونه.
يمكن للبنان أن يستعيد عافيته واستدعاء الاستثمارات المالية الخليجية والغربية، مع وجود الأشخاص المناسبين والسياسات المناسبة، لكنّ العبء يقع على كاهل المسؤولين اللبنانيين للتغلّب على الشكوك المحلّية والدولية، من خلال اختيار وجوه وسياسات ذات مصداقية لمجلس الوزراء المقبل.
- استمرار المحسوبية والفساد وتدليل حزب الله، سيؤدي إلى الهبوط المتواصل، في حين أن الإصلاح والاعتماد على المؤسسات الوطنية بدلاً من الحزب، يمكن أن يجتذب نوع الدعم الذي يؤدي إلى وجهة أفضل، حيث تقدم الولايات المتحدة وغيرها الدعم والشراكة.
6. في الحادي والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، تلقّى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون برقيّة تهنئة لمناسبة الذكرى السادسة والسبعين للاستقلال من نظيره الأميركي ​دونالد ترامب، جاء فيها: «إنّ الولايات المتحدة الأميركية مستعدّة للعمل مع حكومة لبنانية جديدة تستجيب لحاجات اللبنانيين».
7. في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، أكد وزير الخارجبة الأميركية مايك بومبيو مجدّداً أن «الولايات المتحدة مستعدة للعمل مع حكومة لبنانية جديدة تستجيب لاحتياجات مواطنيها»، مشيراً إلى «أننا نقف بفخر مع الشعب اللبناني في تظاهراته السلمية».
8. في الثالث والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، عاود السفير جيفري فيلتمان في مقابلة مع جريدة «الشرق الأوسط»، القول إن «سمعة ​حزب الله تآكلت خلال المظاهرات التي يشهدها لبنان، ولم يعد نظيفاً لأنّه أصبح جزءاً من المشكلة السياسية في البلد»، مشيراً إلى «أننا رأينا واستمعنا إلى خطابات الأمين العام لحزب الله ​السيد حسن نصر الله​، التي طالب فيها المتظاهرين بالعودة إلى منازلهم لكنهم لم يعودوا، وعندما طلب من ​الشيعة مغادرة الطرقات، بعضهم استمع إليه لكن كثيراً منهم لم يعيروه أيّ اهتمام، وهذا أمر لم يشهده لبنان من قبل». وذكّر فيلتمان بأن السياسة الأميركية مهمّة لأنّ ​الولايات المتّحدة تستطيع أن تساعد لبنان لإنهاضه من أزمته الاقتصادية.
9. في السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، أكد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ​ديفيد شينكر أن «الولايات المتحدة تدعم المطالب المشروعة للشعب اللبناني بتشكيل حكومة... وسنرى ماذا سيحدث». وتابع: «ندعم حق الشعوب في ​العراق ولبنان وإيران بالتظاهر السلمي وإسماع صوتهم من دون خوف من الانتقام و​العنف، ويجب أن تُحترم حقوق المتظاهرين والصحافيين والنشطاء وألّا تُخرق هذه الحقوق».
10. في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر، اعتبر وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو أنّ «المتظاهرين في لبنان يريدون أن يخرج ​حزب الله و​إيران من بلادهم ومن نظامهم الذي يمثل قوة عنيفة وقمعية».
11.في الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر، اعتبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أنّ «واشنطن سترى تشكيل الحكومة اللبنانية قبل الاستجابة لطلبات الدولة»، معلناً «تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية، واستعداد واشنطن لمساعدة الشعب اللبناني للتخلّص من الوصاية الخارجية».
12. في الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر الحالي، أكدت المندوبة الأميركية الدائمة لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت، أن «الاضطرابات ستتواصل في لبنان وسوريا واليمن، وفي أيّ مكان توجد فيه إيران ما لم تؤتِ حملة الضغط الأميركية ثمارها».
13. في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر، أكد وزير الخارجية الأميركي ​مايك بومبيو، في تغريدة له، «أننا قمنا اليوم بتصنيف رجلَي أعمال لبنانيَّين قاما بدعم ​حزب الله من خلال أنشطة مالية غير شرعية». ولفت بومبيو إلى «أننا سنواصل استخدام كلّ إمكاناتنا المتاحة لمواجهة التهديد الذي يمثّله حزب الله».
14. في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر، أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، في حديث إلى قناة «العربية»، أن «منظمة حزب الله الإرهابية تعتمد على التمويل الخارجي وغسل الأموال». مشيراً إلى أنّ «الحزب تسبّب بمشاكل اقتصادية للبنان»، ومؤكداً أنّ «أشخاصاً من المذاهب والأديان كافة متورّطون بتمويل حزب الله». كذلك، شدّد على أنّ «كلّ من يتورّط في تمويل هذه المنظمة الإرهابية معرّض للعقوبات».
هذا السياق من المواقف الأميركية، وإذا أضفنا إليها ما صدر عن الجهات الرسمية الإسرائيلية باعتبار ما يحصل فرصة لإضعاف حزب الله، يكشف أنّ التدخل الخارجي لم يكن مساراً وهمياً على الإطلاق، وإنما مسار حقيقي واقعي كان يهدف إلى الدفع باتّجاه خيارات سياسية، عبر استغلال الشارع وجوع الناس. فالنضال اللاعنيف، الذي بدأ في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، فتح المشهد اللبناني على ثلاثة خطوط: إمّا استبدال السلطة بكّل مكوناتها بسلطة جديدة، وهذا ما هدف إليه شعار «كلن يعني كلن». أي استقالة الحكومة، ثم أعضاء المجلس النيابي وأخيراً رئيس الجمهورية، بالإجبار والضغط الجماهيري الصاخب. وإمّا دفع الدولة والمجتمع إلى التفكّك والفوضى وانهيار الدولة. وإمّا تسوية سريعة يجريها أركان السلطة تقتضي الاستجابة للشروط الخارجية فيتوقف عندها كلّ شيء. الخطّ الأول إجباري، والثاني تفكيكي، والثالث تسووي. وكلّ هذه الخطوط تشتمل في تدابيرها على زيادة الشلل السياسي في مؤسّسات الدولة. تعطيل المصالح الحيوية، قطع وسائل المواصلات، إضرابات على قضايا اجتماعية وتعليمية وسياسية، لا تعاون مع أركان السلطة وعقوبات مالية واقتصادية خارجية... كلّها إجراءات تمكّن القوى الخارجية من قلب المشهد السياسي اللبناني وتغيير المعادلات الداخلية، وبالتالي إعادة إنتاج سلطة لا يكون فيها لحزب الله وحلفائه نفوذ وتأثير فيها.
صحيح أنّ هناك تداخلاً بين الحسابات الداخلية والحسابات الإقليمية والدولية، لكن ما سبق سرده من مواقف لمسؤولين أميركيين لا يدع مجالاً للشك في أنّ ما فشلت أميركا وحلفاؤها في المنطقة في تحقيقه، عبر القوة الصلبة والعقوبات المشدّدة على أفراد حزب الله وكياناته، يحاولون تحقيقه عبر الوسائل الليّنة.
مطالعة السياق السابق للتصريحات الأميركية، تساعد في استكشاف ثلاث فرضيات لما كان يبحث عنه المسؤولون الأميركيون في مواجهة حزب الله.
الأولى: إنّ التشدّد في العقوبات ضدّ حزب الله والدولة، سيفعل فعله مع الوقت. أي سيرضخ حزب الله ويتراجع عن مواقفه وسياساته ودوره العسكري في الميدان اللبناني والميادين الأخرى في المنطقة.
الثانية: الضغط عبر الآليات الشعبية والسياسية والاقتصادية سيدفع حزب الله إلى ردود فعل عالية، (التصعيد العنفي في الشارع ــ حكومة مواجهة...)، وهذا ما سيمكّن أميركا من إعادة بناء مناخ دولي وداخلي يسمح بتجريم حزب الله.
الثالثة: المزيد من الضغط المعنوي والسياسي والمالي لدفع حزب الله لتليين تصلّبه في مواقفه تمهيداً لجذبه إلى طاولة المفاوضات، والنتيجة تغيير سلوكه ودفعه للتساكن مع واقع لبنان الجديد، بناء على مندرجات صفقة القرن وترتيباتها.
على هذا الأساس، يمكن القول إنّ السياسة الأميركية اختفت تحت هذا النوع من الحروب، ولم يكن ذلك بعيداً عن فطنة الأمين العام لحزب الله، لكنّه آثر عدم الحديث عنه في خطاباته الأولى لئلّا يستثير الشارع الواقع تحت ضغط الحماسة والعاطفة، ولئلّا يحجب الدوافع المحلية للاحتجاجات. لكن مع توالي المواقف الأميركية العلنية وانكشاف المشهد بصورة أجلى، خرج الأمين العام ليشرح ويوضح ويعلّق، بعدما بات يملك الحجة والوثيقة التي تتفق مع ما قاله يوماً الأستاذ محمد حسنين هيكل: «ليس كلّ التاريخ مؤامرة، ولكن المؤامرة موجودة في التاريخ»!

* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية