في تحرّك كبير وواسع، مستمر منذ حوالى مئة يوم (ابتداءً من 17 تشرين الأول / أكتوبر الماضي)، دفعت الأزمة التي عصفت بلبنان وبشعبه، مئات آلاف المواطنين إلى المشاركة في احتجاجات غير مسبوقة. الأزمة ذات طابع جذري، يقع مصدرها في صلب النظام السياسي ــ الاقتصادي اللبناني نفسه الذي تبلور، تباعاً ودائماً، تحت عنوان «الصيغة الفريدة»، إلى منظومة محاصصة طائفية مذهبية زبائنية تهيمن على كامل الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد. لم تتوانَ القوى التي تشكّلت منها تلك المنظومة، وبهدف ترسيخها وتعميمها، عن استخدام أيّ من الأدوات السياسية أو المادية أو الإعلامية أو الثقافية أو الفنية والرياضية... فضلاً عن العصبيات وبقايا الموروثات القديمة، إلى انتهاك الدستور والقانون. لقيَت «الصيغة الفريدة» تلك، رعاية ودعماً خارجيين دائميين. ورغم ما رافقها من توترات وحروب أهلية مدمّرة، حاول أقطاب الهيمنة الاستعمارية تصويرها كنموذج قابل أن يُحتذى أو يُعمّم: تسهيلاً لوضع يدهم على مصائر المنطقة وشعوبها وثرواتها وأسواقها.في مجرى ذلك، نشأت نظرية سياسية، وإعلامية متكاملة، لتسويق فكرة أن فرادة وتميّز صيغة نظام الحكم، إنما هما عامل تكويني في لبنان وشعبه وفي استمرارهما، وأن الكيان اللبناني وتلك الصيغة وجهان لحقيقة واحدة، يبقى أو يزول أحدهما، ببقاء أو زوال الآخر. طبعاً، لم يصمد ذلك التزوير المتمادي أمام الأزمات المتعدّدة، التي عصفت بلبنان والمنطقة في الحقول كافة. البلد لم يتمكن من أن ينعم، يوماً، بالوحدة والاستقرار والاستقلال والتنمية. احتكار السلطة وتسخيرها ونهب موارد الدولة، كلّها عوامل فاقمت من التفاوت الاجتماعي، وحصرت الثروة بشكل متصاعد في جيوب الطبقة المسيطرة التابعة، سياسياً واقتصادياً، طبقة الـ1% من اللبنانيين. النهب الشامل للعام والخاص، وانتهاك الدستور والقانون والفساد والجشع والاستهتار، كلّها عوامل دفعت الأزمة إلى حدودها القصوى: الانهيار والفشل والخراب...
خلال عقود طويلة، نجحت المنظومة المسيطِرة، بالإضافة إلى تأثير الحرب الأهلية وعوامل أُخرى خارجية، في إضعاف حركة الاعتراض وفي عرقلة تطورها. لكنّ تعاظم الأزمة، في السنوات الماضية، ودخول ضررها إلى كلّ بيت، حوّلاها إلى عامل لا يمكن السيطرة عليه. اختبر اللبنانيون، في تلك السنوات خصوصاً، أشكالاً متواصلة من الأزمات السياسية والمعيشية والبيئية والإدارية والخدماتية. لكنّهم كانوا غير مسلّحين بالأدوات الضرورية للتعامل مع هذه الأزمات: بسبب ضعف وتشتّت قوى التغيير (غالباً)، وافتقارها إلى المبادرة والبرامج المباشرة، وبسبب ما تراكم في سجلّها من الإخفاقات، الأمر الذي أفقدها القدرة على أن تكون مرجعية للتغيير وأداة لإحداثه. هكذا، في مقابل أزمة قوى السلطة، كانت تحضر أزمة قوى التغيير. ثمّ إنه رغم تقدّم الأزمة الاقتصادية ــ الاجتماعية إلى واجهة المشهد، خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أنّ قوى التغيير لم تنجح في الارتقاء إلى مستوى ما تطرحه الأحداث من مهمات ومبادرات وبرامج وصيغ وممارسات. ذلك أن النجاح كان، ولا يزال، وفق المنطق والمستجدات والتحولات وحتمية التمرحل، مرهوناً بإعادة تأسيس قوى التغيير نفسها وفق متطلبات ومهمات الزمن الراهن وأولوياته، وعلى أساس خبرة الأحزاب نفسها، وخبرة التجارب الجبهوية، بنجاحاتها وإخفاقاتها.
كان على المبادرين إلى التحرّك والدعوة إليه، من بين القوى المتضرّرة، إذن، أن ينطلقوا بشكل «عفوي»، أي بما ملكت أيديهم. وهو ليس بالكثير، لناحية البرامج والتوجهات والأسس الفكرية والشمولية والحد الضروري من التنظيم. حصل ذلك في محطات عدّة، في عامَي 2011 و2016، وفي السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ 17 تشرين الأول / أكتوبر الماضي. أما بعض قوى التغيير، فحيث أقدمت، كان تحرّكها منفرداً وحذراً وفئوياً غالباً. فلم يكن مناسباً أبداً الانعزال عن الناس بالشعارات والرايات، التي أضفت على شأنٍ وطني عام طابعاً حزبياً وخاصاً (تُذكر هنا التحركات بشأن الموازنة).
اندفعت إذاً، تحت تأثير التدهور الاقتصادي الخطير، أعداد كبيرة من الناس في كل المناطق. اكتفت هذه الفئة بطرح معاناة، من دون أن تطرح حلولاً أو برامج أو أولويات. تميّز خطابها بعفوية تنمّ عن عدم النضج، وعن حذر حيال كل أشكال التنظيم ووحدة الموقف والقيادة والتحرّك. وقد شمل الحذر، بشكل غير عفوي دائماً، قوى التغيير نفسها . شعار «كلّن يعني كلّن» شكّل مظلّة للإمعان في بلبلة المشهد، وتعبيراً عن عدمية أسقطت التفاوت في المواقف العامة من الصراعات، وعدم التساوي في المسؤوليات والارتكابات. وهو شكّل، أيضاً، أساساً لتسلّل قوى مغرضة إلى الاحتجاجات من أجل توظيفها، بشكل فئوي، في الصراعات بين أطراف السلطة، أو مشبوه في خدمة أهداف خارجية.
أما قوى التغيير، فقد آثرت المساهمة عبر الالتحاق، بعدما فقدت ميزة المبادرة منذ الانطلاق. وهي، فوق ذلك، عملت متفرّقة ومتنافسة. بعضها رفض، حتى مجرّد اللقاء والحوار في ظرف استثنائي يفرض تجاوز كل ما سبق من خلافات وتباينات. وهكذا، فشلت كلّ المحاولات التي انطلقت في خدمة هذا الغرض.
في هذا الخضم، استمر تيار المقاومة الأساسي يُقلّل من شأن القضية الاقتصادية ــ الاجتماعية. وهو ظلّ حتى اللحظات الأخيرة (ولا يزال ربما)، يبحث عن أوهام حلول في جعبة أبطال الأزمة نفسها! بل أكثر من ذلك، فإن قيادة المقاومة بالغت، لدرجة إضفاء الشبهة على كامل الانتفاضة الشعبية وأهداف تحرّكها، وهي بالغت إذ قدمت نفسها أحياناً، بشكل مباشر، حامية لقوى النهب والفساد: حليفة كانت أم معادية للمقاومة.
طبيعي أنه، برغم تفجّر الأزمة وشمول أضرارها للأكثرية الساحقة من المواطنين، فإنّ المجابهة كانت أقل من المطلوب. لكنّها رغم ذلك، لم تكن بدون نتائج إيجابية، لقد طرح موضوع التغيير على أوسع نطاق. استقالت الحكومة وشُكِّلت حكومة جديدة مختلفة إلى حدٍّ ما، رغم إصرار قوى المحاصصة (معظمها جديد) على تكريس مبدأ المحاصصة، ولو عبر انكفاء الأصيل. الشارع مارس دوراً غير بسيط في تقديم مبدأ المحاسبة والمساءلة على ما عداه. جرى الربط، بشكل مبشِّر، بين النهب والفساد وغياب المحاسبة، والطائفية. تمَّ ابتكار كثير من أشكال الاحتجاج التي افتقرت، مع ذلك، إلى التدقيق والتحسين والتنظيم والتصاعد. تمَّ فضح الكثير من أشكال النهب. تم أيضاً كسر محرَّمات وقدسيات زائفة.
شكلت الانتفاضة، رغم كل السلبيات، حدثاً تاريخياً. لكن انتفاضات أهم وأكبر بكثير، سقطت في أيدي قوى منظمة معادية للهدف الشعبي، بسبب «العفوية» وعدم التنظيم، كما حصل في مصر وتونس. من استخلاص دروس الانتفاضة، يبدأ الفعل الثوري التغييري الحقيقي: الأزمة والمعركة مفتوحتان، وتعميق الحوار بشأنهما أيضاً. هي معركة تحرّرية دائماً بشقّيها الوطني والاجتماعي. لا مبرّر لأي تردّد أو خطأ بعد الآن!

* كاتب وسياسي لبناني