لا يختلف اثنان على أن البلد يعيش أزمة اقتصادية حادّة لم يرَ لبنان شبيهاً لها، منذ عهود الاستقلال الأولى وحتى يومنا هذا. كذلك، يُجمع رجال الاقتصاد والسياسة على أن الأزمة التي نعيشها، هي نتيجة تراكمات وسياسات تمتد من الطائف حتى اليوم، ولكنّ المستجد فيها هو انعكاس الوضع الاقتصادي المتدهور على مالية الدولة من جهة، والوضع المالي والنقدي للمصارف من جهة ثانية. وكانت لاهتزاز الوضع المصرفي انعكاسات كارثية على الناس، وعلى معيشتهم وخبزهم اليومي، المتردّي أصلاً بفعل انخفاض القيمة الشرائية للّيرة، وللأزمة الاجتماعية الناتجة عن فقدان عدد كبير من اللبنانيين لوظائفهم وتخفيض معاشات القسم الباقي منهم، ما أدى إلى انخفاض مدّخرات الناس وحتى اضمحلالها. ولم تنفع مع كلّ ذلك، مقولة «قرشك الأبيض ليومك الأسود»، إذ أن الأزمة قد امتدت طويلاً منذ «الثورة»، أي منذ حوالى 100 يوم، وهي مستمرّة حتى الآن، علماً بأن الوضع لم يكن على خير ما يرام قبل 17 تشرين الأول / أكتوبر. وإذا كان الجميع متّفقاً على توصيف الحالة المتردّية، ولكن لا بدّ من التساؤل عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراءها، وهل أن الأزمة هي مالية اقتصادية بحتٌ، أم أن السياسة لها دور فيها؟
الأزمة سياسية ــ إقليمية... ولكن
ممّا لا شكّ فيه أنّ الحرب السورية كانت لها نتائجها المدمّرة على الاقتصاد اللبناني، وقد ولّدت أكثر من مشكلة وأكثر من انعكاس. فقد أدت إلى توقّف عجلة الإنتاج في الداخل السوري، ما انعكس سلباً على مداخيل التجّار والصناعيين هناك. وبالتالي، فإنّ الحركة الاستثمارية لهؤلاء في لبنان قد تقلّصت، لا بل انعدمت، وهنا نشير إلى أنّ السوريين كانوا في فترة ازدهار سوريا من أكبر المستثمرين، إن في السوق العقاري اللبناني أو في الأسواق المصرفية اللبنانية، إذ أنّ لبنان ونظامه المصرفي كانا يشكلان ملاذاً آمناً للاستثمارات السورية. والسؤال الذي لا بدّ من طرحه هو، ما الذي منع المتمولين ورؤوس الأموال السورية، إبان الحرب، من المجيء إلى لبنان، كما كان يحدث في السابق؟ في فترة الوحدة المصرية ــ السورية، والجمهورية العربية المتحدة وما تبعها من عمليات التأميم التي طاولت الملّاكين والصناعيين السوريين الكبار، وفي الفترات التي كانت تعيش سوريا خلالها، على وقع «البيان رقم واحد» والانقلابات المتلاحقة حتى مجيء حزب «البعث» الحاكم إليها، لجأ العديد من السوريين إلى لبنان حاملين معهم رساميلهم التي كان لها دورٌ كبيرٌ في إنعاش الاقتصاد اللبناني. أما لماذا لم يحدث ذلك في بداية الحرب السورية، فالجواب بسيط، وهو وجود الإرهاب كخطر محدق بلبنان واللبنانيين، وبالتالي لم يكن آمناً بالمعنى الأمني. أمّا الانعكاس الثاني للأزمة السورية، فهو عبر موجة النزوح الكثيفة التي لم يزل لبنان واقعاً تحت وطأتها. إضافة إلى ذلك، هناك عامل الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه دول الخليج، والذي حدّ من الاستثمارات الخليجية، إضافة إلى تدنّي دخل اللبنانيين في هذه الدول، ما حرم البلد من تحويلاتهم بالعملات الصعبة.
لا يمكن الحفاظ على سعر وهمي لليرة وصرف المليارات من احتياطي المركزي من العملات الصعبة لتثبيته


هناك أيضاً العامل الدولي، حيث ما زال لبنان يعاني من العقوبات المفروضة عليه، والتي لا ناقة له فيها ولا جمل، وهي ناتجة عن الصراع الأميركي ــ الإيراني. وقد دفع القطاع المصرفي الثمن الباهظ فيها، عبر إقفال «جمّال ترست بنك». كذلك، فإنّ مواقف فخامة الرئيس السيادية، والمُطالِبة بضرورة عودة النازحين ومنع التوطين الفلسطيني، وعدم التنازل عن شبر واحد من ثروة لبنان المائية والغازية والنفطية ومحافظته على حدوده البرية، أثارت حفيظة العدو الإسرائيلي وطموحاته التوسعية، فتدخّل لدى الإدارة الأميركية لفرض المزيد من العقوبات على لبنان واللبنانيين، لا لشيء إلا لكونهم لم يرضخوا للتهديدات التي ترافقت مع إغراءات لتطبيق «صفقة القرن». ولكن يبقى السؤال، ما هو دور الداخل والسياسات الاقتصادية والمالية في هذه الكارثة؟
كما كان الحال في ستينيات القرن الماضي، إبّان أزمة بنك «إنترا»، فإنّ العوامل الخارجية الرافضة لصعود لبنان كقوة مصرفية إقليمية أولى، قد تستقطب الفورة النفطية والأموال الناتجة عنها، لم تكن لتنجح في القضاء على إمبراطورية يوسف بيدس، لولا وجود علّة مالية كبيرة في المصرف المذكور، والتي تمثّلت في انخفاض كبير في الاحتياط النقدي لديه، إذ أن القيّمين على المصرف، كانوا قد استثمروا الكمية الأكبر من رساميلهم في قطاعات عدّة أهمّها الشركة الفرنسية العملاقة لبناء السفن La ciotat، وشركة طيران الشرق الأوسط، وغيرهما من الاستثمارات في قطاع السياحة والعقارات.
أما العوامل الداخلية، والتي أدت إلى الكارثة، فهي سياسة الاقتصاد الريعي، وعدم الاعتماد على الاقتصاد الإنتاجي، ويعود ذلك إلى سيطرة قطاع التجّار والمصرفيين على الاقتصاد وكل السياسات الاقتصادية، بالرغم من الدراسات والنصائح التي كان أهل الاختصاص، وحتى النقابات، ينادون بها. فلا يمكن أن يُبنى اقتصاد على الخدمات فقط، من دون دورة إنتاجية تؤمّن الحاجات الأساسية للمواطنين. ونتيجة لذلك، بلغ حجم الاستيراد حدوداً خيالية، بحيث تجاوز الـ24 مليار دولار، في عام 2018، تطبيقاً لمقولة جبران خليل جبران: «ويلٌ لأمّة تأكل ممّا لا تزرع وتلبس ممّا لا تنتج»، في وقت غابت فيه السياسات الاقتصادية التي تعطي حوافز للصناعة، وتحمي الزراعة وتوفّر لها سبل الدعم. وكانت «دراسة ماكينزي» قد شجّعت على تنمية الاقتصاد القطاعي، وأوصت بأن يتمّ دعم وتنشيط دورات الإنتاج والمؤسّسات الصغيرة، كشرط أساسي لتحقيق النمو الاقتصادي.

ماذا عن السياسة المالية؟
مقابل سياسات اقتصادية أثبتت فشلها، كانت للسياسات المالية الحصّة الأكبر في الانهيار، فلا يمكن الحفاظ على سعر وهمي لليرة وصرف المليارات من احتياطي المركزي من العملات الصعبة لتثبيته، بحجّة تأمين قوة شرائية للمواطنين، علماً بأنّ ذلك لم يمنع من ازدياد التضخّم وانخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية، ولا سيما أنّنا نعيش في ظل اقتصاد يعتمد أساساً على السلع المستوردة، بينما تشكّل الصناعة نسبة ضئيلة لا تكفي حاجة المستهلك. كذلك، كان لتثبيت سعر الصرف، طيلة سنوات، أثَره السيّئ على المؤشّرات الاقتصادية، بينما تنعكس قوّة الاقتصاد على سعر صرف العملة، وبالتالي، فإنّ عدم انخفاض سعر صرف الليرة كان يوحي بأنّ الاقتصاد بألف خير. بناءً عليه، لم يكن على الممسكين بالسياسة الاقتصادية، اللجوء إلى ما يسمى إجراء تعديلات على العوامل الاقتصادية adjustments، لنصبح بذلك مثل المريض الذي ترتفع حرارته، ونحن لا نعلم لأننا استغنينا عن ميزان الحرارة، ولا سيّما أنّ سعر صرف العملة يشكّل المؤشر على سلامة الاقتصاد من عدمه. من جهة أخرى، لا يوجد في نطامٍ اقتصاديٍ ليبراليٍ سعرٌ موازٍ للصرف وآخر رسمي، أمّا البلدان التي اتّبعت هذا النظام، كسوريا مثلاً، فقد كانت تؤمّن الدعم لسلّة كبيرة من السلع الأساسية، التي يحتاج إليها المستهلك، فكان يتم إعطاء قسائم تموينية بأسعار مخفّضة من المواد الغذائية بحسب حاجة كل فرد، فتعطى كميات مازوت للتدفئة في الشتاء وأسعار محروقات وطحين ومواد غذائية وغيرها بأسعار مدعومة. وهذا ما لا قدرة للبنان على القيام به لأسباب عدّة، لعل أهمها كون عدد القاطنين فيه أكثر من نصف عدد المواطنين، وبالتالي فإن غير اللبنانيين سيستفيدون من السلع المدعومة قبل اللبنانيين، وعندها ستختفي اللحوم على سبيل المثال، والمواد الغذائية، وغيرها من الأصناف المدعومة من رفوف المحالّ، كما كان يحدث في الاتحاد السوفياتي القديم، وغيره من بلدان المعسكر الاشتراكي، آنذاك.

المطلوب أكل العنب وليس قتل الناطور
بناءً على ما تقدّم، إذا كنّا لألف سبب وسبب، عاجزين عن تغيير الأشخاص المسؤولين عن السياسات المالية، التي أمّنت الحماية للمصارف وأصحابها على حساب اللبنانيين، فإنّ المطلوب إقناع هؤلاء بضرورة تغيير سياساتهم المالية وهندساتهم التي أثبتت فشلها، وهذا ليس بحاجة إلى برهان. كذلك، ينبغي على المصارف، التي قام أصحابها باستثمارات خاطئة، أن تدفع الثمن من رصيدها، وليس من جيوب المودعين. ومن بديهيات الاستثمار المجدي، أن لا تضع كل البيض في سلّة واحدة، وبالتالي كان على المصارف ألا تضع كل استثماراتها في سندات الخزينة، التي كانت تجني الفوائد الخيالية من عائداتها. وربما ما قام به مصرف لبنان، قد أغرى أصحاب المصارف الذين علقوا في المصيدة، وبعدما حقّقوا الأرباح الطائلة لسنوات وعقود، أصبح لزاماً عليهم أن يتحمّلوا الخسائر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وإبان انهيار عملاق الاستثمارات العقارية الأميركية Enron، تحمّلت مصارف كبيرة كانت لها استثماراتها الكبيرة في السوق العقاري، بحيث تكبّد كل مصرف أكثر من 500 مليون دولار خسائر، ومن هذه المصارف Stanly & Morgan وJP Morgan و City bank وغيرها.
هذا غيض من فيض، فالموضوع المالي بحاجة إلى أكثر من مقال وأكثر من دراسة، بينما هناك نظريات عدّة ومفردات امتلأت بها رؤوس اللبنانيين. ولكن الأهم من كل ذلك، هو رسم سياسة اقتصادية ومالية، مختلفة تماماً عمّا هو معمول به من تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا، وهذه الحكومة التي لا تملك ترف الوقت، وليس أمامها إلا خيار واحد، هو النجاح والنجاح ثم النجاح، عليها أن تسرع في اختيار السياسات الموضوعية والعلمية المناسبة ووضعها موضع التنفيذ.

*كاتب سياسي