التصعيد الأميركي عبر اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، يثير البحث في الاستراتيجية الأميركية، وذلك في حال كان ترامب يسعى إلى حرب عسكرية للتعويض عن فشل حرب الضغوط القصوى لإخضاع إيران «من خلال تغيير سلوكها» والاصطفاف في صفّ «الدولة العادية»، إلى جانب معظم دول العالم الثالث المنهارة والتابعة. وفي المقابل، يحثُّ الرد الإيراني على التصعيد الأميركي بالمثل، والذي أدّى إلى عمل محور المقاومة على إخلاء المنطقة من الجيش الأميركي، على بحث أبعاد هذا الاتجاه، في أثره على مواجهة الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
(جورج دانبي)

لا تدل جريمة الاغتيال على تغيير ثابت نحو الحرب، في استراتيجية دونالد ترامب تجاه إيران والمنطقة. فهو لا يملك استراتيجية بالمعنى المتعارف عليه لآليات الاستراتيجية، وليست لديه رؤية منسجمة وسياسة خارجية، بالحدّ الأدنى. لكن بحسب تصوّراته وقراءة تقلّباته، يمكن استنتاج قواعده الثابتة ومنطلقاته، وهي: اعتقاده الإنجيلي بتفوّق العرق الأبيض الذي يرتكز على قيمة النجاح المُطلق. ومعياره التبسيطي الذي يرتكز على النجاح في صفقات الأعمال، التجارية والسياسية، بصفتهما تعبيراً عن المكانة والنفوذ ورمزاً للقوّة والثروة. لكن معتقد أساطير العرق الأبيض يقود ترامب إلى تقديس إسرائيل التوراتية، كما يدفعه إلى عدائية غريزية ضد إيران، الرافضة للخضوع للقوة ولتقديم الإتاوة من الثروة النفطية. وهو الأمر الذي يدفع به لبيع خدمات الهيبة الأميركية في السعودية ودول الخليج مقابل الإتاوة، وكذلك احتلال آبار النفط السوري في ريف الحسكة ودير الزور، والسيطرة على عائدات النفط العراقي في حساب نيويورك المقدّر بحوالى 35 مليار دولار، فضلاً عن حسابات كلفة القواعد العسكرية وعمليات غزو العراق...

شخصية بومبيو مهندس الاغتيال وحقده على إيران
جاءت مغامرة اغتيال سليماني وأبومهدي المهندس، نتيجة لهندسة «المحافظين الجدد» وسطوتهم في إدارة ترامب، والتي يعبّر عنها وزير الخارجية مايك بومبيو. فهذا الأخير، بحسب وصف صديقه الحميم قطب «المحافظين الجدد» ستيف بانون، الذي قاد حملة ترامب الانتخابية، يتحكّم في مجلس الأمن القومي الذي هندس قرار الاغتيال، وذلك بمساهمة من وزير الدفاع مايك إسبر، ومن تلميذ بومبيو مستشار الأمن القومي التلمودي المتعصّب في طائفة المورمون ديفيد شنكر، وأيضاً من الإدارية القمعية ورئيسة وكالة الاستخبارات جينا هاسبل.
ترسم مراسلة «بي سي سي» في نيويورك، سوزان كيانبور، شخصية بومبيو الحاقدة على إيران، منذ التحاقه بالأكاديمية العسكرية الأميركية في ألمانيا بين عامي 1982 ــ 1986، فتشير إلى أنه طغى عليه هاجس تفجير السفارة الأميركية في بيروت، ومقتل 241 أميركياً بينهم العديد من ضباط الاستخبارات في الشرق الأوسط. وقد عمّق هذا الهاجس، أثناء انضمامه إلى الكونغرس حتى عام 2016، عبر صلته الوطيدة مع صقور «المحافظين الجدد» في إدارة جورج بوش الأب، ولا سيّما ديفيد وورمسر، مثيل جون بولتون وأيضاً ستيف بانون، الوثيق الصلة بحزب «الليكود» والموساد الإسرائيلي. وعندما وقع الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، عام 2012، والذي أدّى إلى مقتل السفير كريستوفر ستيننغنز، تخيّل بومبيو، بتأثيرٍ من الموساد، أن وراءه إيران والشهيد قاسم سليماني، فخاض معركته ضد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، داعياً للتشدّد ضد إيران. ولم يتأخّر بومبيو في الانتقال إلى الهجوم، حين جمع وفداً من أعضاء الكونغرس الجمهوريين، في عام 2016، من أجل زيارة طهران بذريعة مراقبة الانتخابات النيابية، فطلب زيارة المواقع النووية والاطلاع على برنامج الصواريخ البالستية. لكن رفض الزيارة حمل بومبيو على التهديد بقوله: «سأضعكم نصب عينيَّ وسترون». في هذا العام، أخذ بومبيو بتوسيع ملفه الاستخباري الميداني مع ضباط الاستخبارات الأميركية في العراق، فأشار إليه الضابط مايكل بريجنت بالقول إن «سليماني أبرز شخصية بعد الخميني يمكن التخلّص منها». وقد تشبّع حقده بأبعاد صراع الحضارات في ذلك العام، حين كان يشاهد مع ستيف بانون شريط «فيلق القدس« ضد «داعش» في معركة تدمر، فنبّهه بانون إلى أن تدمر هي الطريق الفاصل في الصراع بين الرومان والإمبراطورية الفرثية الإيرانية قبل 3 آلاف عام. ولم يتغيّر هذا الأمر الاستراتيجي بحسب قوله، سوى «أننا اليوم نحن الرومان».

الباقي من استراتيجية «المحافظين الجديد»
الجانب الحربي في استراتيجية «المحافظين الجدد» لبناء عالم جديد وشرق أوسط كبير، يعود إلى القاعدة الاستعمارية الأوروبية القديمة التي عبّر عنها نابوليون بونابارت بمقولة: «المبشّر فالجندي فالتاجر». وفي أميركا، يعود الجانب الحربي إلى روبرت ماكنمارا (1916 ــ 2009)، الذي أسّس في «علوم تحليل السياسات»، نظرية الحديقة الخلفية في أميركا اللاتينية، ثم استراتيجية «شرطي العالم» في فيتنام، وإيران مصدّق. لكنّ هذا الجانب الحربي، هو جزء من كلٍّ متكامل عبّر عنه ماكنمارا في وزارة الدفاع الأميركية، لكنّه تكامل معه في ما يسمى «الإصلاح الاقتصادي»، خلال رئاسته مجموعة «ويز كيندز» ورئاسة شركة «فورد»، ثم رئاسة البنك الدولي، ووصفات «الإصلاحات» المعروفة. فعلى هذا الإرث ارتكز «المحافظون الجدد»، لكن في نظرياتهم الاستراتيجية ارتكزوا على «المبشّر»، الذي بدأه ما عُرف باسم «المؤتمر من أجل حرية الثقافة»، من المنشقّين على الستالينية، المهاجرين إلى أميركا. جمع هؤلاء حولهم غالبية المفكّرين والكتّاب في أميركا وأوروبا الغربية، والمنشقّين عن أوروبا الشرقية، بدعمٍ خفيّ من الاستخبارات الأميركية، فوضع هذا «المبشّر» الأسس النظرية الشائعة، حالياً، بين تيارات متباينة وشعبية عامة، عن «محاربة الاستبداد» والتوتاليتارية وعن الدعوة للحريات الفردية وديمقراطية حقوق الإنسان، والديمقراطية التمثيلية، التي باتت سارية معولمة في تعميم النموذج الأميركي بالقضاء، مع دور الدولة في الديمقراطية الاجتماعية والحقوق الإنسانية، بحسب النموذج الأوروبي قبل الإطاحة به منذ منتصف التسعينات. واستند «المحافظون الجدد»، في نظرية «التاجر»، إلى مدرسة شيكاغو الاقتصادية، ولا سيّما فريدريك فون هايك، أستاذ مارغريت تاتشر، التي أعادت إحياءه ونفّذت أطروحاته في بريطانيا وفي المؤسسات الدولية بدعم من رونالد ريغان، بعدما رشّت الكينزية الداعية لتدخّل الدولة الملح على أطروحات نيوليبرالية قديمة، تنتشر اليوم كالنار في الهشيم ضد دور الدولة التدخّلي والاعتماد على حرية السوق والتجارة والرأسمال الكبير والسوق العالمية ومعدلات النمو.
لم يتخلّ باراك أوباما، الذي تراجع عن إقحام الجندي في الحروب، عن المبشّر والتاجر في استراتيجية «المحافظين الجدد»، بل عزّزهما، للتعويض عن تراجع الجندي أمام نجاح تقدّمهما. لكنّ ترامب لم يجد نفسه مضطرّاً لتعزيز أي منهما، حيث باتت قيَم المبشّر الأميركي سائدة، يظنّها حتى المعارضون لأميركا قيَمهم الخاصة. وباتت قيَم التاجر الأميركي شبه عامة، يظنّها حتى المعادون لأميركا علماً اقتصادياً منزّهاً عن الغرض لرفاهية إنسانية شاملة.

الوجود الأميركي في المنطقة لا يقتصر على الجنود والقواعد
النموذج الأميركي الذي يسيطر على المنظومة الدولية، يستبدل فيه ترامب الجندي «برجل الأمن»، لكنه يتحكّم فيها عبر المبشّر والتاجر. فالعراق الذي جعله «المحافظون الجدد» حقل تجارب المنظومة الدولية الجديدة، دمّره الغزو العسكري، لكن «الانتقال إلى الديمقراطية» في ما يُسمى «العملية السياسية والدستور الحديث»، حطّمه من خلال القضاء على دور الدولة. وقضى عليه التاجر عبر تأسيس منظومة الفساد الأكبر التي أنشأها بول برايمر لتخريب الإنتاج الضعيف والزراعة، المولّد للإنتاج الحرفي والعائلي وفرص العمل والأمن الغذائي والاجتماعي.
نموذج تحطيم العراق هو الصورة الأكثر دلالة على ما آلت إليه الأزمات البنيوية المستعصية في المجتمعات العربية، وأبعد من ذلك بكثير. وقد باتت آليات تخريبها وتفتيتها، تسير من تلقاء نفسها بحسب النموذج الأميركي، من دون الحاجة الملحّة إلى التدخّل العسكري الأميركي المباشر، أو أكثر من الإشراف ورعاية تفعيل المبشّر والتاجر. فكلاهما يفيض في المنطقة، وأبعد من المنطقة، عبر قوى محلية وجمعيات ومعارضات وخبراء وتقنوقراط، وغيرها من الأساليب التي تتكفّل بالدفاع عن النموذج، للتصويب فقط على النتائج المحلية في المنظومة السياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية، من دون ربطها بالتحوّلات والأسس المؤسّسة. فما نراه في حَراكات البلدان العربية، المدفوعة بأزمات التهميش وأسباب العمران وأحوال المعاش، يطفح عليها الذين يدلون بدلوهم من مُريدي النموذج الأميركي السياسي والاقتصادي، عبر الدعوة لتغيير أشخاص الطبقة السياسية، بدعوى مكافحة الفساد ونهب المال العام وحلّ الأزمات. ومن تونس إلى الجزائر والعراق ولبنان، تفتقد المجتمعات التطرّق إلى الأسس والسياسات، التي أدّت إلى الانهيار والقضاء على دور الدولة، وبالتالي البحث في سياسات بديلة لوقف الخراب والانهيار. ولعلّ أكبر حائط تصطدم به طموحات وقف الانهيار، هو مدماك المبشّر الأميركي في زراعة الخرافات، بأن كلّ بلد يمكنه حلّ أزمة الخراب والانهيار في انكفائه على نفسه عن محيطه الإقليمي. يأتي ذلك بينما تصطدم مواجهة الوجود الأميركي في المنطقة، بالجانب الآخر من الحائط نفسه، بسبب الفصل الاعتباطي بين المقاومة العسكرية والمقاومة الاجتماعية والسياسية، في مشروع ورؤية بديلة للنموذج الأميركي في سبيل إعادة البناء. فلا تحرير للمنطقة من الوجود الأميركي، إذا لم تتحرّر من النموذج الأميركي، في مشروع نموذج بديل. ولا وقف للخراب والانهيار في أي بلد عربي، من دون تكامل في المحيط الإقليمي لتفكيك آليات السيطرة والتبعية.

* باحث لبناني