يصعب تقييم العصور والرئاسات بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، ما لم يكن الكلام مستنداً إلى وثائق تكشف ما هو خافٍ من حقائق وتنير ما هو غارق في الظلال، فالتاريخ يُكتب بالوثائق الثابتة لا بالانطباعات العابرة. لسنوات طويلة، حاول الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يلمّ بسجل الرئيس الأسبق حسني مبارك: كيف صعد إلى رئاسة الدولة؟ ثم كيف استطاع البقاء لثلاثين عاماً؟نقّب في الوثائق التي أمكنه الوصول إليها، سأل واستقصى، بعض ما عنده تحدّث فيه على الفضائيات، وبعضه الآخر نشرته منسوباً إليه على صفحات جريدة «العربي»، وبعضه الثالث أودعه بعد «يناير» في كتابه «مبارك وزمانه ــ من المنصة إلى الميدان».
في آذار / مارس ١٩٧٥، أخبره الرئيس أنور السادات، بعد حوارات مطوّلة في استراحة القناطر الخيرية، أنه يفكّر في إسناد منصب نائب الرئيس إلى قائد سلاح الطيران الفريق حسني مبارك. كانت مثل تلك الحوارات قد اتصلت مع السادات مجدداً، بين عامي ١٩٧٤ و١٩٧٥. كان تقديره أنه لا يجد مبرراً يزكّي مبارك بالذات على قادة عسكريين آخرين لعبوا أدواراً جوهرية في «حرب أكتوبر».
كان المشير أحمد إسماعيل قد توفّي، والفريق سعد الدين الشاذلي قد أُبعد، وبقي محمد عبدالغني الجمسي ــ مدير العمليات أثناء الحرب ووزير الدفاع بعدها ــ ومحمد علي فهمي ــ قائد الدفاع الجوي ــ وفؤاد ذكري ــ قائد البحرية ــ ثم حسني مبارك ــ قائد سلاح الطيران.

لماذا مبارك؟
كان السادات حاسماً في خياره، وهيكل حائراً في أسبابه. لم تكن هناك في ذلك الوقت، معلومات كافية تفسّر اختيار السادات. كلّ ما كان يعرفه عن مبارك أنه قائد عسكري كفوء، على ما سمع من الفريق أول محمد فوزي، الرجل الذي أعاد بناء الجيش بعد هزيمة «يونيو»، عندما أسند إليه رئاسة أركان سلاح الطيران عام ١٩٦٩. رآه لأول مرة في مكتب الفريق محمد صادق، الذي حلّ مكان فوزي، بعد «أحداث مايو» ١٩٧١، وكان اللقاء عابراً، ورأى صادق فيه أنه كفوء و«مطيع لرؤسائه». لكن ذلك شيء ورئاسة الدولة شيء آخر، دوره العسكري شيء ودوره السياسي شيء آخر. لم يكن يعرف، كصحافي تعنيه الألوان والظلال في إحكام نظرته إلى الشخصية عن مبارك شيئًا يعتدّ به، وكان ظنّه أنّ أحداً آخر لا يعرف، حتى الذين يتصوّرون أنهم يعرفون. بالوثائق اكتشف ــ في الظلال الكثيفة ــ دوره في اغتيال الإمام الهادي المهدي في السودان، أثناء تمرّده على الرئيس جعفر نميري، بسلّة فواكه ملغومة، وأن الذي كلّفه بالمهمة نائب الرئيس في ذلك الوقت أنور السادات. أشار إلى القصة الموثّقة على إحدى الفضائيات، عندما كان مبارك يحكم.
نشرت «جيروزاليم بوست» تقريراً عن صعود نفوذ حسني مبارك وصراعات السلطة في مصر


وبالوثائق اكتشف ــ في الظلال الكثيفة ــ دور مبارك في مجموعة «السفاري» الاستخبارية، التي ضمت ممثلين عن فرنسا والسعودية والمغرب وإيران ومصر لتعقّب النفوذ السوفياتي في أفريقيا. اطّلع هيكل على الوثيقة الخطيرة في قصر الشاه في طهران، بإذنٍ خاص من آية الله الخميني في الأيام الأولى للثورة الإيرانية. كان أشرف مروان هو ممثل مصر في مجموعة «السفاري»، حتى حلّ مكانه نائب الرئيس حسني مبارك. وهكذا، كانت جهات عديدة في الغرب تعرف عن النائب أكثر ممّا هو ظاهر على سطح الحياة السياسية المصرية.
لم يكن هيكل مقتنعاً بأسباب السادات في حوار استراحة القناطر، عن أن جيل «أكتوبر» جاء وقته ليحلّ مكان جيل «يوليو»، تفسيراً لاختيار مبارك بالذات. بصورة ما استشعر ــ من إشارات الرئيس ــ أنها نصيحة من الشاه محمد رضا بهلوي، الذي عيّن زوج شقيقته الجنرال محمد فاطمي قائداً للطيران، «لأنه السلاح الذي يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة، لمواجهة أي تمرّد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب». سأله هيكل: «هل تلك نصيحة من شاه إيران؟». «ارتفع صوت السادات محتجّاً»: «جرى لك إيه يا محمد؟!».

لماذا «مبارك»؟
تبدّت في صباح الاثنين ٥ كانون الثاني / يناير ١٩٨١ ظلال أخرى في قصة «النائب الغامض». فقد نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية تقريراً في أعلى يسار صفحتها الأولى، كتبه محرّرها لشؤون الشرق الأوسط، عن صعود نفوذ النائب حسني مبارك وصراعات السلطة في مصر. صودرت أعداد الصحيفة الإسرائيلية، ونشرت وكالة «أنباء الشرق الأوسط» برقية موجزة تصف المعلومات بـ«الادّعاءات والأكاذيب»، من دون أن تشير إلى طبيعة مادّتها. في اليوم ذاته، قرّر السادات إنزال عقاب جماعي بالصحيفة ومحرّريها: ممنوع دخول أية أعداد منها، أو منح أي من محرّريها تأشيرة دخول. وفي اليوم التالي، الثلاثاء، اعتبرت «جيروزاليم بوست» الإجراءات بحقّها هي الأولى من نوعها ضد صحافيين إسرائيليين، منذ السماح لهم بالعمل في مصر بعد زيارة القدس. ثمّ نشرت تقريراً ثانياً للمحرر ذاته في الموضوع نفسه، أعقبه تقرير ثالث بعد يوم آخر يناقش خلافات التكتيك بين السادات ومبارك، في قضية السلام والتطبيع مع إسرائيل. ناقض الكلام الإسرائيلي كلياً الصورة التي استقرّت عن مبارك في تلك الآونة، وقلّلت من شأنه وسخرت منه، فهو قوي وينازع على السلطة وله أنصار في القصر الجمهوري. في الكلام، روايات يصعب التسليم بمبالغاتها، لكن التأكيد عليه لثلاث مرّات متتالية في أهم صحيفة إسرائيلية يشير إلى حقائق غاطسة لا نعرفها حتى الآن.
لم يقرأ السادات الغاضب ما خلف النصوص من رسائل إلى المستقبل القريب. ولم يتوقف بالتنبّه الكافي عند فقرة أشارت إلى تقرير جديد للاستخبارات الأميركية يقول نصّاً: «يكفي السادات عشر سنوات في الحكم، وعليه أن يتركه لمبارك». ذلك ما تحقّق بعد أشهر قليلة من نشر النص المثير. استحوذ على تفكير السادات هاجس هيكل، وذهب تفكيره إلى أنه هو مصدر معلومات التقرير الموسّع. فطرح هواجسه أمام وزير الإعلام والثقافة منصور حسن، الذي يعتبر محلّ ثقته. إلا أن الوزير الشاب استبعد الفكرة تماماً: «يا فندم... هيكل لا يتصل بالإسرائيليين». لكنّ هواجسه لم تغادره، فدعا وزير إعلامه إلى أن يستقصي الحقيقة بنفسه من رئيس تحرير «جيروزاليم البوست»، الذي طلب زيارة القاهرة لإنهاء الأزمة مع الرئيس المصري. عندما وصل إلى القاهرة، توجّه مباشرة إلى مكتب السفير حسن عيسى، مدير مكتب وزير الإعلام، لينتقل معه إلى منزل الوزير الذي وجّه إليه سؤالاً مباشراً: «لا أريد أن أعرف مصادر صحيفتك في القاهرة... لكن قل لي نعم أم لا.. هل هو هيكل؟». كان الرد: «لا».
لماذا تصور السادات أنه هيكل؟ وما الذي أغضبه إلى هذا الحد؟ لا بدّ أنّ شيئاً حقيقياً حوته النصوص الإسرائيلية.
استمعت إلى تلك القصة المثيرة من منصور حسن، في صالون منزله الذي يطلّ على نيل الزمالك، في أعقاب «ثورة يناير». أما هيكل الذي لم يكن على معرفة بالقصة، فقد فوجئ بها تماماً. كان ذلك داعياً لمحاولة الوصول، بكل طريقة ممكنة، إلى التقارير الإسرائيلية الثلاثة، حتى تتضح الأسباب التي دعت السادات إلى توجيه أصابع الاتهام إلى هيكل. وبما أن تلك المقالات لم تكن على الموقع الإلكتروني لـ«جيروزاليم بوست» ــ فتاريخ نشرها يسبق إنشاء الموقع بسنوات طويلة ــ فقد جرى الوصول إليها بمعاونة صحافيين فلسطينيين خلف الجدار. استرعى انتباه بعض العاملين في الصحيفة الإسرائيلية، أن هناك من ينقّب عن شيء ما في الأرشيف، وكانت هويتهم العربية كافية لطردهم، لكنّهم حصلوا على غنيمتهم بطريقة أخرى، وأرسلت على عجل إلى القاهرة عبر أمستردام.
كانت تلك القصة المجهولة موضوعاً لحوار بين الرجلين، محمد حسنين هيكل ومنصور حسن، وبعض ما ورد في الصحيفة الإسرائيلية نشرته في صحيفة «الشروق» ــ ٤ حزيران / يونيو ٢٠١٢ ــ عن «السادات ونائبه الغامض». تبدّت فرضية رئيسية، وهي أن مبارك هو خيار الولايات المتحدة وإسرائيل لخلافة السادات. لم يكن هذا الأخير شخصية سياسية، له تاريخ وعنده خيال، لكنّه بدا مأموناً وموثوقاً في ضمان المصالح الأميركية والإسرائيلية، أكثر من الرجل الذي وقّع معاهدة السلام. سألت الأستاذ هيكل: «هل كان السادات ضحية لشيء ما جرى في الظلام؟». أجاب: «لا... كان ذلك اختياره».

* كاتب وصحافي مصري