خرجت تظاهرة في العراق تجاوز عدد المشاركين فيها المليون شخص، في 24 كانون الثاني/ يناير 2020، تطالب بخروج القوات الأميركية من بلاد الرافدين. هي أول حركة احتجاج شعبي تحدث في المنطقة العربية، أو في قلب منطقة الشرق الأوسط بحسب التصنيف الأميركي، وتتجه مباشرة إلى القواعد العسكرية الأميركية، التي تطالب بإقفالها.تعود حركة الاحتجاجات ضد القواعد العسكرية الأميركية إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حين انتشرت وتكاثرت وتموضعت في المناطق ذات البعد الاقتصادي والجيوبوليتيكي الفاعل والحاسم في السياسة والاقتصاد الدوليين، وعلى المفارق التجارية الدولية، حيث توجد الثروات العالمية. وعبّرت حركة الاحتجاجات عن نفسها من خلال المنظمات السلمية التي تخطّت حدود الدول، لتلامس البعد العالمي عبر العديد من الفعاليات والمؤتمرات والتظاهرات والندوات والمحاضرات المناهضة لتلك القواعد، وعبر الكشفت عن التهديد الذي تشكّله على السلم والأمن الدوليين، والضرر والخطر الذي تُلحقه على السكان والمناطق والبيئة المجاورة.
شملت حركة الاحتجاجات مختلف القارات، وحرّكت الشعور الوطني الداخلي لشعوب الدول المضيفة، حتى أنها وصلت إلى معظم الدول التي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية مثل إسبانيا، اليابان، الأكوادور، تركيا، إيطاليا، البارغواي، قرغيزستان، الفيليبين، أوزبكستان، كوريا الجنوبية، بورتوريكو، غوام، وكوبا... وما زالت تلك الاحتجاجات مستمرّة إلى الوقت الحاضر، بشكل متفاوت ومتقطع وفي مناسبات محدّدة، وفي معظم الدول التي توجد فيها قواعد عسكرية أميركية.

أكبر دولة تملك قواعد عسكرية
تمثّل الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم، التي تملك أكبر عدد من القواعد العسكرية خارج حدودها، وهناك دول أخرى تملك قواعد عسكرية خارج حدودها، مثل بريطانيا وفرنسا وروسيا، ولكن لا يمكن مقارنتها من حيث الحجم والدور والحركة الاقتصادية بتلك الأميركية. وتستضيف القواعد العسكرية الأميركية ثلاثة أنواع من الدول: النوع الأول، دولٌ ضعيفة تابعة للولايات المتحدة الأميركية، حيث لم تظهر حركات احتجاج شعبي منظّم. وينطبق ذلك على معظم دول المنطقة العربية والإقليم. والنوع الثاني، دولٌ تربطها علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة، ما يدفعها إلى السماح للقوات الأميركية ببناء منشآت عسكرية على أراضيها، لغاية التجسّس أو تنفيذ أعمال حربية أو غيرها من الأعمال القتالية. وفي هذا النوع من الدول، وجدت حركة الاحتجاجات، لكن تأثيرها لم يكن حاسماً، ويشمل ذلك دولاً مثل بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا. أما النوع الثالث، فهي دولٌ خسرت حرباً رئيسية كانت الولايات المتحدة مشارِكة فيها وانتصرت، فقامت بفرض إرادتها عليها، وجعلت من بنيتها الاقتصادية جزءاً من البنية الاقتصادية لحركة الرساميل الأميركية، كما ربطتها بالمفاهيم الأميركية لآليات الصراع الدولي. في هذه الدول، توجد القواعد العسكرية الأميركية بأعداد كبيرة وضخمة، ومنها انطلقت الاحتجاجات الكبرى والتظاهرات التي حرّكت أنظار العالم إلى التهديد والخطر الذي تمثّله تلك القواعد. وتأتي ألمانيا واليابان وإيطاليا وكوريا الجنوبية كنموذج عن هذه الدول، حيث اتّخذت الاحتجاجات في بعضها طابعاً عنفياً، كما حدث في ألمانيا في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين.
يمكن النظر إلى رفض وجود القواعد العسكرية الأجنبية، وخصوصاً الأميركية، عبر مجموعة من العوامل والدوافع التي تتعلّق بالشعور الوطني والقومي، الذي تمتلكه شعوب العالم، إضافة إلى أن المواقع والمنشآت العسكرية لها وظيفة قتالية وترتبط بالعمليات الحربية والاستعداد للحرب، فتزيد العنف في العالم، كما تعمل على تقويض السلم والأمن الدوليين، وتعرّض المناطق التي توجد فيها لعدم الاستقرار، نتيجة استخدام تلك القواعد في الحروب والنزاعات القائمة. هذا ما حدث، فعلاً، عندما استخدمت الولايات المتحدة قواعدها العسكرية الموجودة في ألمانيا ودييغو غارسيا ودول الخليج العربي في عدد من الحروب التي خاضتها، وهذا ما دفع مجموعات من المجتمع المدني والمنظمات المناهضة للحروب، وتلك التي تعمل على السلام بين شعوب العالم، إلى الاعتراض عليها وتنظيم التحركات المناوئة لها.
فضلاً عمّا تقدّم، تخلق القواعد العسكرية الكثير من المشاكل البيئية والاضطرابات الاجتماعية في الأماكن المحيطة بها، بفعل تحرّكات الجنود واحتكاكهم بالبيئة المحلّية. وقد حصل العديد من عمليات الاغتصاب والاعتداء على السكان المحليين، التي ارتكبها جنود أميركيون الذين ينتشرون في اليابان وكوريا الجنوبية. وتصبح الأمور أكثر تعقيداً عندما يتمتّع الجنود الذين يرتكبون تلك الأفعال بالحصانة، بفعل الاتّفاق الذي أنشأ تلك القواعد. وبفعل طبيعتها، وسبب وجودها، تطغى على القواعد العسكرية الأميركية الحركة المستمرّة والدائمة، إضافة إلى تنفيذ العديد من المناورات العسكرية. كذلك، تستخدمها الدولة التي تشغّل القاعدة لتخزين كل أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة النووية. والأخطر من ذلك، أنها تُستخدم للقيام بعمليات تجسّس، سواء على الدول الأخرى أو على المجتمع المحلّي. الأمر لا ينتهي عند هذا الحدّ، فقد تُستخدم هذه القواعد كسجون، حيث يُعتقل العديد من الأشخاص وتُمارس في حقّهم عمليات التعذيب.
يمكن النظر إلى رفض وجود القواعد العسكرية الأجنبية، وخصوصاً الأميركية، عبر مجموعة من العوامل والدوافع التي تتعلّق بالشعور الوطني والقومي


وقد دفعت كل الأخطار والضرر التي تخلقها القواعد العسكرية الأجنبية إلى خلق فعاليات عالمية تنتمي إلى منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات حماية البيئة، وجمعيات تناهض نشر أسلحة الدمار الشامل، وقوى وطنية محلية تعمل من أجل إغلاق القواعد العسكرية الأجنبية في العالم. وتشكّلت، في عام 2007، مجموعة تطلق على نفسها No Basses Network، تعمل على إزالة القواعد العسكرية الأجنبية في العالم، وهي منظمة غير عنفية، من أبرز أهدافها مقاومة عسكرة الولايات المتحدة الأميركية للعالم. وشمل عمل هذه الشبكة أميركا اللاتينية، أوروبا، اليابان، كوريا، الفيليبين، أستراليا، نيوزيلندا، وآسيا الوسطى، والأقاليم التابعة للولايات المتحدة الأميركية.
لا توجد في المنطقة العربية ــ أو في الشرق الأوسط بحسب التصنيف الجغرافي الأميركي ــ حركة احتجاج شعبية ضد القواعد العسكرية الأميركية، رغم الوجود العسكري الأميركي الكثيف على أراضي دوله. ويعود ذلك إلى طبيعة البنية والتركيبة الاجتماعية لأنظمة المنطقة «الشرق أوسطية»، حيث تكثر الصراعات الداخلية والانقسامات الأهلية الحادّة، وبالتالي لم تتبلور حركة احتجاج مدني لها حيثية شعبية فاعلة ومؤثّرة، تتشابك مع الحركة العالمية المناهضة للقواعد العسكرية الأميركية في العالم. وهناك بعدٌ آخر لعدم بروز حركة احتجاج، مرتبط بواقع الأنظمة السياسية القائمة على مساحة الإقليم، حيث تؤمّن تلك القواعد حالة من الحماية للأنظمة القائمة، ولا تكاد تُذكر على المنابر وفي المنتديات العامة، إلّا بحدود مرتبطة بالولايات المتحدة أو بالدولة التي تدير القاعدة العسكرية، حيث تضعها الأنظمة الرسمية ضمن المسائل الأمنية المرتبطة بمسألة الأمن القومي وأسرار الدولة.
دولة الكويت، مثلاً، تتعامل مع القواعد العسكرية الأميركية، بناء على واقع أن الولايات المتحدة هي التي حرّرت الكويت من الجيش العراقي وأعادت الأمن والاستقرار إلى البلاد، وبالتالي فإنّ الوجود العسكري الأميركي هناك عملية طبيعية، فضلاً عن أنه يؤمّن لها الحماية ويمنع عنها أطماع الدول الإقليمية. وما ينطبق على الكويت يشمل دول مجلس التعاون الخليجي جميعها، التي تعتبر نفسها في مواجهة إيران، بينما الوجود العسكري الأميركي يجعل منها محصّنة ومحمية.

اتجاهات حركات الاحتجاج
يمكن تصنيف حركة الاحتجاج العالمي ضمن ثلاثة اتجاهات: اتجاه أيديولوجي يتبنّى فيه المحتجّون الفلسفة السياسية والعقيدة كمحرّك لهم؛ اتجاه وطني يتعلّق بالسيادة يحمل فيه المعارضون الأساس الثقافي والحضاري في بنية حراكهم؛ اتجاه واقعي عملي ينظر إلى القواعد العسكرية من خلال وظائفها وطريقة عملها، ويرفع في حراكه مسائل التلوّث البيئي، وارتكابات الجنود وجرائمهم، والأضرار المختلفة التي تقع بسبب تلك القواعد.
هذه الاتجاهات الثلاثة احتوتها الحالة العراقية، التي تشكّل نموذجاً في زمن الإنترنت و«السوشال ميديا». ذلك أنه يمكن خلق أنشطة وفعاليات مناهضة ورافضة للقواعد العسكرية الأميركية، تستقطب مختلف الشرائح العالمية المعارضة للسياسات الأميركية. ويعتبر التحرك العراقي خطوة وحيدة وأولى في مواجهة القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة العربية، وهو تحرك يحمل الوجه الرسمي، أي الشق المتعلق بالدولة، والوجه الشعبي، أي أن له طبيعة مدنية. تضافر الطبيعتين سيضاعف من شرعية التحرّك، ويسحب من اليد الأميركية المناورات التي تمارسها تجاه الحكومة العراقية، والتي ترفع فيها ورقة الأقاليم والمكوّنات الطائفية.
يشكّل الدمج بين الطابع الرسمي والحكومي، ومواكبة ذلك بالتحرّكات والفعاليات الشعبية، وربط كلّ ذلك بالتحرّكات العالمية المناهضة للقواعد العسكرية الأميركية ضمن خطة مدروسة، أداة لها فعل التغيير، ستجعل من القوى الناعمة العراقية والعربية أداة قاسية على المشروع الأميركي في الإقليم، وستدفع بالقوات الأميركية إلى الانسحاب. وإلّا فإن القواعد العسكرية الأميركية ستتحوّل إلى قواعد عسكرية استعمارية مخالفة للإرادة السياسية العامّة للشعب العراقي.
يشكل العراق مركزاً متقدماً في العقل الاستراتيجي الأميركي، وهو من دول الإطار عند نيكولاس سبيكمان، ويعوم على احتياطي نفطي يتجاوز 140 مليار برميل. أمّا الأهم فهو الاحتياطي النفطي غير المؤكد، والذي يقدّر بحوالى 360 مليار برميل نفطي ويتميز بسهولة وكلفة متدنية، وعنصر بشري يتمتع بكفاءة عالية في عملية الإنتاج. لم تقتنع الولايات المتحدة بعملية انسحابها من العراق عام 2011، فعادت عبر ما يسمى بـ«التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش» عام 2014، وأنشأت مواقع عسكرية جديدة لها على الأراضي العراقية، كما استخدمت مواقع الجيش العراقي وطورتها وأضافت عليها ما يتلاءم وحركة الجنود الأميركيين المنتشرين بشكل رئيسي في قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار، وقاعدة القيارة التي تقع جنوب مدينة الموصل، وقاعدة التاجي التي تقع شمال بغداد، إضافة إلى قاعدة أربيل عاصمة إقليم كردستان ــ العراق، وقاعدة بسماية التي تبعد حوالى 10 كيلومترات جنوبي مدينة بغداد.
المهم في كلّ ذلك، أن القواعد العسكرية الأميركية لن تنتهي في العراق، أو أي دولة أخرى، إلا بفعل تغيّر استراتيجي يتعلّق بالدولة المضيفة، أو بفعل تطوّر داخلي يرتبط بالدولة صاحبة القاعدة العسكرية، أو نتيجة الاحتجاجات والرفض الشعبي لها وإجبارها على المغادرة.

*أستاذ جامعي