تعد المؤسسات المالية الدولية، معنيّة بتحقيق التعاون المالي والنقدي، وإدارة الأزمات ومعالجتها على المستوى الدولي. ويأتي على رأس هذه المؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهما مؤسستان مولودتان من رحم «بريتون وودز»، كان هدفهما الأول العولمة بكل مضامينها. راجت مفاهيم هذه المؤسسات بشكلها الواسع، في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، إبّان أزمة المديونية التي سادت آنذاك، ومن ثم أخذ دورها يتصاعد وصولاً إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، وقد تجلّى عملها في السياسات التي فرضتها تحت مسمى التثبيت والتصحيح الهيكلي.ترد عبارة التكييف الهيكلي، وشقيقه التوأم الإصلاح، دائماً في أدبيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأدبيات العولمة عموماً، فما هي هذه السياسات؟ وما هو دورها في الأزمات التي تعصف بالدول، ومنها الأزمة اللبنانية؟ سؤال يطرح نفسه في هذه المقالة البحثية، التي ننطلق منها لنقارب خطورة تدخل هاتين المؤسستين في الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان. وهذا ما نتحدث عنه من خلال ثلاث نقاط؛ الأولى، هي طرق وأساليب تطبيق هذه السياسات، ومن ثم نتطرّق إلى آثار سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي، لنتحدث في النقطة الثالثة عن الأزمة في لبنان وخيارات اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.

أولاً: طرق وأساليب تطبيق هذه السياسات
لقد أتت سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي، رداً على أزمة المديونية التي بدأت وتعاظمت في الثمانينات، وقد اعتمدتها المؤسسات الدولية المالية لمواجهة هذه الأزمة. هذه السياسات هي برامج تصحيحية معنية بإصلاح أوضاع اقتصادية غير قابلة للاستمرار، كالعجز في ميزان المدفوعات أو عجز الميزانية. وهذه السياسات على نوعين: يندرج تحت النوع الأول برامج لتثبيت الاقتصاد، وتسمى برامج الاستقرار الاقتصادي وهي معنية أساساً بتوازنات الاقتصاد الكلّي، أي توازنات العرض والطلب، وتوازن الميزانية العامة. أما النوع الثاني، فيتضمّن برامج التصحيح الهيكلي، وهي معنية بإحداث تغيّرات في تشكيلة الإنتاج والتوزيع والتجارة والمؤسسات الرسمية، والأنظمة والقوانين وحقوق الملكية، بهدف تحقيق زيادة مطّردة في النمو الاقتصادي.
وتجد سياسات التثبيت أساسها في ما نصّت عليه المادة الخامسة من اتفاقية صندوق النقد الدولي، التي تخوّله فرض سياسات على الدول المستفيدة من تسهيلاته المتنوّعة، تحت مسمّى مساعدة هذه الدول للتغلّب على المصاعب التي تعاني منها، في ما خص ميزان مدفوعاتها، كما جاءت رداً على المشاكل التمويلية التي يصعب حلّها شيئاً فشيئاً.
وهنا نشير إلى أنه كان هناك شكلان من التسهيلات التي رافقت هذه السياسات:
الشكل الأول: هو تسهيل التصحيح الهيكلي 1986، وكان الهدف المُعلن من استحداثه، مساعدة البلدان الأعضاء المنخفضة الدخل التي تعاني من مشاكل في ميزان مدفوعاتها، طويلة الأمد، على وضع برامج تكييف للاقتصاد الكلّي. ومن ثم إعطاء تكييف هيكلي متوسط الأجل، حتى تستطيع تصحيح التشوّهات في اقتصاداتها واستعادة مراكز مدفوعات سليمة، وتشجّع النمو الاقتصادي الأسرع، وقروض هذا التسهيل كانت تُعطى لمدة عشر سنوات، مع فترة سماح 5 سنوات تُسدّد بعدها على أقساط نصف سنوية بفائدة 0.5%.
الشكل الثاني: تسهيل التصحيح الهيكلي المعزّز 1987، ويُعطى لدعم برامج التصحيح الاقتصادي الكلّي والهيكلي المتوسّط المدى في الدول النامية ذات الدخل المحدود، والتي تعاني من اختلال في ميزان المدفوعات منذ مدة طويلة، ومع هذه الشروط وضع صندوق النقد الدولي حينها لائحة بـ62 دولة مؤهلة للاستفادة من هذا التسهيل، وكان الهدف هو سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي، وليس التسهيل بحدّ ذاته. ويركّز صندوق النقد في سياساته دائماً على ضرورة التكامل بين السياستين المالية والنقدية.
ويعتمد صندوق النقد الدولي في سياساته هذه على خطوات أو سياسات متعدّدة، يمكن أن نتحدث عنها باختصار على الشكل التالي:
أولاً: السياسة المالية: تستهدف التصحيح المالي في المدى المتوسط، زيادة الدخل وتغيير الإنفاق بالدرجة نفسها، وعلى اعتبار أنّ القطاع العام مسؤولٌ عن جزء كبير من الديون الخارجية، لذلك، فإن من واجبه توفير الموارد اللازمة لخدمة الدين. وتصبّ إجراءات صندوق النقد في هذا الإطار، ويمكن حصرها بالتالي:
1- تخفيض النفقات عبر تخفيض الإنفاق العام، وخصوصاً الدعم والنفقات الاجتماعية، وتجميد زيادات الأجور بشكل لا يتناسب مع ارتفاع الأسعار، ووقف التشغيل في الحكومة والقطاع العام، وغيرها.
2- زيادة الواردات عبر زيادة الوعاء الضريبي الذي يتحمّله المواطن، مثل استحداث ضرائب جديدة، وفرض رسوم على الخدمات التي كانت تؤدى مجاناً، أو زيادة الرسوم على خدمات التعليم والصحة وخدمات الإدارة العامة، وزيادة تعرفة المرافق العامة كالمياه والطاقة، وتفعيل الجباية ومحاربة التهرّب الضريبي.
ثانياً: السياسة النقدية باعتبارها جزءاً من السياسة الاقتصادية الكلية، فأهداف السياسة النقدية تختلف تبعاً لاختلاف ظروفها. هذه السياسة تهدف في الدول النامية إلى التنمية، بينما قد يقتصر الهدف في الدول الاقتصادية المتقدمة إلى استقرار الأسعار. وسياسة المؤسسات الدولية هي التركيز على تحرير السوق المالي، وذلك من أجل التصحيح الهيكلي. تمرّ هذه السياسة بمراحل عدّة، بدءاً من تقوية النظام المصرفي وتحديث المصرف المركزي وخفض العجز في الميزانية، مروراً بجعل أسعار الفائدة أكثر استجابة لتطورات السوق.
وتشمل سياسات صندوق النقد الدولي، سياسة تحرير سعر الصرف، وتحرير السياسة التجارية من القيود، والخصخصة حيث يسعى صندوق النقد والبنك الدولي إلى التصحيح المالي عبر هذا الإجراء، من أجل تخفيف الدين العام، وتخفيف حدّة الخسائر التي تتكبّدها الدولة نتيجة دعمها وتمويلها للقطاع العام، أضف إلى ذلك تأمين موارد إضافية للخزينة العامة.
ومن الوظائف الأساسية لصندوق النقد الدولي، إعطاء الدول التي تعاني من الصعوبات المالية في ميزان مدفوعاتها، القروض وفق طلبها حيث لم تجد التمويل الكافي لها، لكن ذلك يتوقّف على التزام الدولة بالسياسات والشروط التي يفرضها الصندوق، وهذه الشروط تمسّ السيادة الوطنية للدولة المعنية بشكل مباشر. أمّا آليات البنك الدولي، فقد تمثّلت بالإقراض المحدّد للدول التي ترغب بالاستدانة، حيث يمكن معها تحديد المرحلة التي تفرض بها السياسات وآليات الرقابة وعقوبات عدم إنفاذ السياسات المفروضة.

ثانياً: آثار سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي
إن سياسات الإصلاح التي يروّج لها من قبل المنظمات الدولية والدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، قد تعرّضت لنقد شديد من خلال النتائج التي وصل إليها الاقتصاد العالمي بعد تطبيقها. لقد أصبحت هذه السياسات وسيلة لتطويع البلدان النامية ذات الأوضاع الحرجة، وهي من حيث المبدأ سياسات انكماشية بطبيعتها، بسبب تخفيض الإنفاق العام الذي يؤدي إلى وقف النمو الاقتصادي، أو على الأقل تراجع معدّله. كذلك، فإنها تؤدي إلى تقلّص فرص العمل وزيادة البطالة. وهذا ما سوف يقع عبؤه على الفئات الفقيرة، ما يفضي إلى توسيع دائرة الفقر والجوع وزيادة التفاوت في توزيع الدخل والثروة.
يبدو أن صندوق النقد الدولي الذي يعدّ سيفاً أميركياً ــــ غربياً مصلتاً على رقاب الشعوب والبلدان سوف يتسلّط بشكل أو بآخر على الدولة اللبنانية


ومنذ أن ابتكر صندوق النقد الدولي وصفته، على أساس التكييف الهيكلي بالصدمة في البلدان الفقيرة، والتي هي في طريق النمو في أفريقيا وآسيا، قبلت 36 دولة من بين 79 دولة الخضوع لها. وقد لوحظ، حينها، أنّ الديون الخارجية في البلدان الخاضعة لورشة الصندوق، قد تحرّكت بالقياس للناتج القومي من 82% ما بين السنوات 1980 ــــ 1985، لترتفع إلى 154% ما بين 1991ــــ 1995، على عكس البلدان التي لم تخضع له، فكانت الزيادة طفيفة.
ويعد جوزيف ستغلتز، كبير اقتصاديي البنك الدولي سابقاً، أكثر من وجّه النقد الشديد لهذه السياسات، فقد اعتبر أنّ من نتيجة هذه السياسات بالنسبة إلى كثير من الناس كان الفقر والجوع، بينما كان الكثير من البلدان أمام الفوضى الاجتماعية والسياسية. وقد أشار إلى أن الموازنات التقشّفية بشكل أعمى في وضع غير مناسب، تزيد البطالة وتفسخ العقد الاجتماعي. وهنا، نشير إلى أن هناك نماذج كثيرة تخطّت أزماتها، من دون الاعتماد على وصفات صندوق النقد الدولي، كالهند التي تحقّق نمواً سنوياً ثابتاً وإن كان ضعيفاً، على عكس باكستان وبنغلادش اللتين خضعتا لوصفات الصندوق. كذلك، لم يكن دور صندوق النقد إيجابياً في حلّ الأزمة اليونانية، حيث يعزى جزء من المشكلة الاقتصادية إلى شروط الإقراض التي فرضتها المجموعة الثلاثية، التي تضم صندوق النقد الدولي، والمفوّضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي.

ثالثاً: الأزمة في لبنان وخيارات اللجوء إلى صندوق النقد
يبدو أن صندوق النقد الدولي، الذي يعدّ سيفاً أميركياً ــــ غربياً مُصْلَتاً على رقاب الشعوب والبلدان، سوف يتسلّط بشكل أو بآخر على الدولة اللبنانية، حيث بدأ الحديث عن ضرورة اللجوء إليه، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، منذ انطلاق الحراك في 17 تشرين الأول 2019. وينطلق ذلك من اعتبار أنّ الدول التي تواجه تخلّفاً في سداد الدين العام، وصعوبات مالية ومصرفية واقتصادية، وتجد نفسها عاجزة عن الخروج منها، تلجأ إلى صندوق النقد الدولي لحلّ أزماتها.
ويبدو أن الحلول النهائية، حالياً، بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، هي اللجوء إلى الصندوق. وعلى الرغم من المخاطر التي تحدثنا عنها آنفاً، لكنّ هذا اللجوء يكون عادةً على شكلين، يمكن اختيار الأقل ضرراً منهما في حال لم تكن هناك خيارات أخرى، وهما:
أ: الشكل الأول، من خلال طلب مساعدات تقنية كنصائح أو إرشادات أو توصيات، تتبنّاها الدولة وتبدأ العمل على تنفيذها بعيداً عن الإجراءات الحادّة. وهنا يكون دور صندوق النقد الدولي هو المواكبة فقط.
ب: الشكل الثاني، يكون عبر اللجوء الكلّي إلى صندوق النقد، في حال تفاقمت الأزمة ولم يحلّها الدور الإشرافي له. وهنا تدخل الدولة في برنامج الصندوق لمعالجة أزمتها، وفي المقابل يفرض عليها هذا الأخير شروطاً تتعلّق بكل المستويات، الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية التي أشرنا إليها.
ووفق ما تقدّم، فإن على الدولة اللبنانية تجنّب الخيار الثاني بكل الوسائل، لأنّ اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لن يكون الحل السحري للبنان، بل قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة، والانتقال إلى أزمات أعمق اقتصادياً واجتماعياً، مثل توقف عجلة النمو وزيادة نسب البطالة التي تفوق حالياً 40%، ولا سيما أنّ هناك مؤشرات سلبية في هذا الإطار، فضلاً عن إمكانية إزدياد حالة الفقر المدقع، حيث يصل عدد اللبنانيين والمقيمين الذين يرضخون تحت خط الفقر إلى أكثر من مليون شخص. كذلك، فإن هذا اللجوء يعني ارتهان لبنان وسيادته لهذا الصندوق، الذي لا ينفك عن السياسات الأميركية للهيمنة على الدول. لذلك، وفي أسوأ الأحوال، يبقى طلب المشورة أقلّ ضرراً على الرغم من خطورته والشروط التي على لبنان أن يلتزم بها لتطبيقها، علماً بأنّ الدولة اللبنانية كان بمقدورها في حال تكثيف الجهود والتضامن بين أبناء الوطن، والاستعانة بخبراتها الوطنية والعمل على تنمية قطاعاتها الإنتاجية، أن تجد حلولاً محلية للأزمة بعيداً عن اللجوء إلى الخيارات الدولية.

المراجع:
1- إبراهيم العيسى، صندوق النقد الدولي، الجزء الثاني، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة الأولى، 1997، ص 39.
2- أديب ديمتري، دكتاتورية رأس المال، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى، 2003، ص 371.
3- ايمان خزعل، لبنان والمؤسسات الدولية – سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي، رسالة دبلوم دراسات عليا في القانون العام، الجامعة اللبنانية، 2000، ص 43-44.
4- جورج ماكنري، وديفيد أورسموند، نوعية التصحيح المالي والنمو، مجلة التمويل الدولي، يونيو/حزيران، 1996، ص 21.
5- جوزيف ستيغلتز، خيبات العولمة، ترجمة ميشال كرم، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 39.
6- ريتا قسطنطين، دور برنامج الأغذية العالمي في مكافحة الجوع، رسالة دبلوم دراسات عليا في العلاقات الدولية، الجامعة اللبنانية، 2007، ص 28.
7- ريمون حداد، العلاقات الدولية، دار الحقيقة، بيروت، الطبعة الأولى، 2000، ص 514.
8- علي توفيق الصادق، معبد علي الجارحي، نبيل عبد الوهاب لطيفة، السياسات النقدية في الدول العربية، صندوق النقد العربي، معهد السياسات الاقتصادية، 1996، ص 64.
9- فاطمة كمال زعيتر، المؤسسات المالية الدولية ودورها في سياسات التثبيت والتصحيح الهيكلي، بحث دبلوم في العلاقات الدولية، الجامعة اللبنانية، 2011، ص 16.
10- مجلة التمويل والتنمية، تسهيل التكييف الهيكلي في صندوق النقد الدولي، يونيو/حزيران 1986، ص 39.
11- موقع البنك الدولي، https://www.worldbank.org/
12- موقع شركة الدولية للمعلومات، https://monthlymagazine.com/

*دكتور في العلاقات الدولية