إستشرف أنطون سعادة تطور المواجهة مع الغرب الاستعماري، تماما كما هو حاصل اليوم في كيانات سوراقيا. واعتبر أن لا خلاص لبلادنا من دون مقاومة فعلية، لا كلامية، لهذا الاستعمار، فأنشأ حركة فكرية ثائرة ومتمردة على الوضع القائم، ودفع حياته ثمنا لذلك.لم يستنسخ هذا المقاوم نظريات غربية أو شرقية ليفسر حالة وطننا السوراقي، بل انكب على درس واقع بلاده، واقع «سوراقيا» السياسي والاجتماعي والاقتصادي ليجيب على السؤال الاساسي الذي اعتبره سعادة أنه يساوي وجوده، ألا وهو: «ما الذي جلب على أمتي هذا الويل؟».
أشدد على مركزية سؤاله هذا في كل أفعاله وأعماله الفكرية، حتى إغتياله، لأن العديد من الكتًاب أخذ يدبج مقالات على أساس أنه فيلسوف عالمي. لم تكن هذه غاية أنطون سعادة البتة، وكل دراساته الفلسفية والاجتماعية هدفها الأول والأخير النهوض بأمته إلى مصاف الأمم الرائدة، وكل الجهود التي بذلها مذ كان يافعا، في مضمار المعرفة والحياة العملية وتأسيس حزب من الصفر، رمت الى إخراج أمته من براثن الاستعمار والهيمنة الغربية، ومن ثم، وضع القواعد الضرورية لبناء أمة حرة، كريمة بين الأمم الأخرى، فتقدم خيرة ما لديها من نبوغ وتفوق كما كان دأبها في الأزمنة الغابرة. لم يشك سعادة للحظة بالامكانات البشرية والمادية الهائلة التي تستطيع أن تقدمها هذه الأمة شرط أن تتحرر من مستعبديها.

حتمية إلغاء مفاعيل سايكس ــ بيكو
وكي يستطيع مجتمعنا السوراقي أن يقاوم بنجاح، رفض سعادة الانخراط في حركات مقاومة شعبية عفوية دخلت الميدان من دون خطة استراتيجية لمواجهة الأعداء الخارجيين، فكان نصيبها الفشل، لا بل أن فشلها أدى الى انهيار معنويات دول المجتمع السوراقي واحباطه.
ومن أجل وضع خطة استراتيجية تنجح في التفوق على استعمار غربي شرس، دأب سعادة على كتابة مقالات وأبحاث تهدف الى فهم واقع بلاده ومن ثم وضع الحلول المناسبة في مواجهة تحديين أولهما، تحصين الوضع الداخلي عبر الانتقال من الانتماء الطائفي والمذهبي والعشائري والاقطاعي الى الدولة الوطنية/ القومية الحديثة، وهذا يتطلب عملا دؤوبا لاستنهاض الوعي الوطني/ القومي الجامع للفئات المختلفة التي تتشارك أرض الوطن؛ وثانيهما، التصدي للدول الاجنبية التي تسيطر على مقدرات بلادنا عبر تقسيمها واحتلالها بشكل مباشر أو غير مباشر، عبر وضع قيادات مأجورة للغرب على رأس سلطات الكيانات المقسمة.
الاولوية بالنسة إلى أنطون سعادة كانت تحرير الارض تماما كما تفعل المقاومة اليوم، وإعادة توحيد كيانات سوراقيا التي قسمتها بريطانيا وفرنسا عبر اتفاقيات سايكس ــ بيكو، إذ أنه رأى أن لا مكان لتحرير فلسطين اذا بقينا منقسمين. العدو قسًم ليس فقط حدودنا الجغرافية، بل أيضا نفوسنا، فعمل على إثارة النزعات الدينية والطائفية والمذهبية كما العرقية، وتم إختراع لبنان الكبير عام 1920 بهوية مسيحية ليقف ضد سوريا الاسلامية. وهذه السوريا الاسلامية جُزئت أيضا الى أقاليم درزية وسنية وعلوية على أمل أن يختفي المسيحيون من سوريا وينتقلوا الى لبنان، وبدلاً من تثبيت مبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات كما تمارسه كل دول الغرب، بادرت هذه الاخيرة إلى تحويل الجغرافيا الوطنية إلى هويات جغرافية ذات تمثيل طائفي وإثني تتعارك في ما بينها على السلطة.
وتابعت الولايات المتحدة الاميركية السياسة نفسَها بعد ما ورثت تركة الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، فحافظت على حدود سايكس ـــ بيكو وعملت على إشعال البغضاء بين كيانات سوراقيا عبر دعم تبوء سني للسلطة في العراق كي يناوئ سلطة علوية في دمشق. وحين إعتلى الشيعة الحكم في العراق بعد الاحتلال الاميركي له العام 2003، فتحت الولايات المتحدة الاميركية النار على سوريا محاولة نقل السلطة فيها إلى السنة أو الاخوان المسلمين الذين سيشتبكون مع نظام شيعي في العراق.
لم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل عمد مندوبها السامي بول بريمر إلى تقسيم العراق دستورياً إلى ثلاثة أقاليم شبه منفصلة عن بعضها: من إقليم كردي في جغرافيا الشمال، إلى سني في الوسط، وشيعي في الجنوب. ما يعني إلغاء اللحمة الوطنية الضرورية للنهوض بالبلد، فلا يعود السني يأبه للمصلحة الوطنية، لأنه يعدها مصلحة شيعية طالما أن الشيعة هم الحكام، وليس السنة أو الاكراد! وها هم الاكراد يطالبون بإبقاء الاحتلال الاميركي لأرضهم كضمانة لوجودهم في عراق مقسًم.
لقد دأبت الولايات المتحدة الأميركية على منع تواصل سوريا والعراق منذ خمسينات القرن الماضي، لذلك حين فشلت في قلب النظام في سوريا وإلحاقه بالمنظومة الغربية العام 2011، عمدت إلى التدخل المباشر عبر وضع قواتها على الحدود بين العراق وسوريا لمنع تواصلهما. وما يزال المركزان الأميركيّان قائمبن في التنف، جنوب سوريا / العراق، وفي البوكمال شمالاً.
الطريق الوحيد لتحرر لبنان اقتصادياً هي فتح الحدود مع سوريا والعراق والأردن، وهذا تماما ما ترفضه الولايات المتحدة


مع مجيء عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء في العراق، حاول تغيير المعادلة وصمم على فتح معبر البوكمال ما يفتح مسار سوراقيا الاقتصادي ويمنع كياناتها من الانهيار، كما أنه أقام معاهدات اقتصادية مع الصين الطامحة لاعادة خط الحرير الذي يمر عبر دول سوراقيا وصولا الى البحر المتوسط، ومنه الى أوروبا. وهذا يمثل تهديدا كبيرا للنفوذ الاميركي، كما أنه يمثل تهديدا وجوديا للكيان الصهيوني الذي سيعجز عن مواجهة جبهة مقاومة تمتد من طهران الى بغداد ودمشق وبيروت وغزة.
عندما قصفت الولايات المتحدة الأميركية قوات الحشد الشعبي المرابض على الحدود العراقية ـــ السورية في البوكمال أواخر العام 2019، تذرعت بأنه سيتم تهريب السلاح الإيراني ألى حزب الله عبر هذا المعبر. لكن الحقيقة تكمن في أن الغرب الاستعماري في المنطقة دأب على تقسيمها وإقامة الحواجز والسواتر الجغرافية والنفسية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل الثورة الايرانية التي حصلت العام 1979. وحين كانت إيران الشاه موالية كليةً للغرب ولـ «إسرائيل»، لم تتوانَ دول الغرب عن تقسيم المنطقة ومنعها من الاتحاد بمعزل عن الدول الإقليمية المجاورة، وحجمها، وأدوارها، وتحالفاتها. كما أنه ليس صحيحا قول بعض الكتاب إن الأزمة المستفحلة في لبنان خلال العامين الماضيين هي نتيجة الصراع الأميركي ـــ الايراني على هذه الأرض.
الأزمة في دول سوراقيا، خصوصاً لبنان وسوريا والعراق هي نتيجة الصراع المحتدم بين المحور الداعم للغرب وللوجود "الاسرائيلي" المحتل من جهة، ومحور المقاومة الذي يريد تحرير فلسطين، والغاء مفاعيل تقسيمات سايكس-بيكو وبالتالي استقلال سوراقيا كليا عن المحور الغربي. وما فتئ دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الاميركية، يغري إيران بأنه سيمنحها الخيرات إن هي ابتعدت عن المقاومة. الهدف إذاً ليس إيران، إنما إنهاء المقاومة، إذ إن المعركة كما يراها ترامب ستكون لصالح الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» إذا توقّف الدعم الإيراني.
أما الذين يثيرون نار البغضاء بقولهم إن الإيرانيين يحاربون العرب، ويريدون الاستيلاء على أرضهم، فهم لا يعرفون أن العرب، لسوء الحظ، ليسوا أسياداً على أرضهم، بل تحت رحمة الأميركي والإسرائيلي. الإيرانيون يحاربون فعلياً الأميركي والإسرائيلي على أرضنا، والدليل الواضح اغتيال قاسم سليماني على أرض عراقية، من قبل دولة عظمى، لا تأبه لسيادة دولة كالعراق، وتعتبرها من ممتلكاتها، فتقيم معسكرات على أرضها، وتُملي عليها القرارات، وتغتال من يرفض الإذعان. كما انها تختار قيادات البلدان العربية، ومنها لبنان الذي لا يستطيع اختيار رئيس جمهوريته، أو رئيس وزرائه، من دون موافقة أميركية.

الاقتصاد المقاوم
هذا يقودنا الى نوع آخر من الاحتلال. فالاحتلال نوعان: احتلال عسكري واحتلال اقتصادي. لبنان يقبع تحت الاحتلال الثاني، فاقتصاده ونقده وماليته ومصارفه كلها مرتبطة بالدولار الاميركي.، بل إن ازدهار لبنان بُني على البترودولار، فتم اختياره في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي كوسيط مالي بين دول الخليج الثرية بالنفط ودول الغرب المستهلكة لهذا النفط، كما تحول مصباً للنفط الخليجي والعراقي، وتوقف كل ذلك مع بداية الحرب الأهلية عام 1975. ارتبط دور لبنان الصاعد ارتباطاً وثيقاً بمشيئة دول الغرب قاطبة التي يقوم اقتصادها على ديمومة تدفق الذهب الأسود إلى أراضيها، وبالتالي لم يكن ممكناً للبنان التحرر من التبعية الغربية.
هنا أيضاً رأى أنطون سعادة أن لبنان لن يستطيع التحرر من الاحتلال الاقتصادي، وبالتالي السياسي والاجتماعي، إلا باتحاد اقتصادي سوراقي، لأن ازدهار لبنان الاقتصادي مرتبط ارتباطا وثيقا بانفتاحه على سوريا والأردن والعراق، وهي الممرات البرية الوحيدة أمامه لنقل البضائع من موانئه. فلبنان كما صاغه الفرنسيون لمصلحتهم ليس إلا مجموعة موانئ جاهزة للترانزيت، لذلك لن تقوم قائمة لطرابلس، كما لن تزدهر عكار، إلا اذا أزيلت الحدود مع سوريا. فميناء طرابلس لا وظيفة له الا ايصال البضائع إلى البر السوري (حمص وحلب).
الطريق الوحيد لتحررنا الاقتصادي هي فتح الحدود مع سوريا والعراق والأردن، وهذا تماماً ما ترفضه الولايات المتحدة الأميركية، إذ تقيم المعسكرات على الحدود الفاصلة، لأن التحرر الاقتصادي يعني خسارة الولايات المتحدة الاميركية لهيمنتها على المنطقة.
الركيزة الاساسية بالنسبة إلى سعادة للوصول إلى الاستقلال الاقتصادي هو الانتاج، وسوراقيا لديها قدرات مادية، ومواد أولية هائلة تسمح لها، ليس فقط باستقلالها، إنما بتوريد انتاجها الى الخارج ما يؤدي إلى ازدهارها وتطورها. إذاً، الاقتصاد المقاوم هو اقتصاد مبني على الاكتفاء الذاتي عبر الانتاج الذي يتيح لنا اتخاذ قراراتنا بحرية، لا أن نكون تحت سيطرة بيوت المال الغربية التي تملي علينا مصيرنا. هذا لن يحصل إلا بالغاء حدود سايكس ـــ بيكو المصطنعة، والمدمرة، كي يتكامل انتاجنا مع بيئته السوراقية.
سياسة تدمير الانتاج المحلي هي سياسة تتبعها الولايات المتحدة الاميركية للسيطرة على العالم، ولقد مارستها بنجاح كبير في أميركا اللاتينية في أواسط القرن الماضي. خصوصاً في الارجنتين حين أوقفت انتاج السيارات، كما صناعة اللحوم والمعلبات والجلود كي تبيع الارجنتيني منتوجاتها الاميركية. كما أن تقديم الغرب للقروض ما هو الا محاولة إغراقنا في الديون لنعلن إفلاسنا، فيسطر علينا وعلى مقدراتنا.
لقد عمل أنطون سعادة جاهداً لتأمين وحدة جبهات المشرق دعماً لاستقلالية دول سوراقية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبدلاً من دعم نظرياته التي ستنقذ لبنان، ارتأى حكام لبنان المرتبطون بالغرب اغتياله. لم يدعموه، بل طعنوه في الظهر، وها هم اليوم يواجهون المصير البائس الذي استشرفه سعادة لهم إن لم يتحدوا كشرط لاستقلالهم. ظن العدو أنه بقتله الشخص سيقتل الفكرة، لكن ما حصل هو العكس تماما، اذ أن المقاومة تحيا على وقع التحديات وليس غيابها، وها هي دول سوراقيا تثأر لحريتها وكرامتها الوطنية عبر التحاق الآلاف بالمقاومة.
المقاومة فعل وطني لأنها تحرر الأرض، كل الارض الوطنية، بمعزل عن دين أهلها أو مذهبهم أو عرقهم. لذلك يعمل العدو على إلحاق الهزيمة بها عبر خلق مناخات تشكك فيها وفي أهدافها. كما أنه يتناول مذاهب أفرادها وأعراقهم لا توجهاتها وأهدافها. ولأن بنيتنا الوطنية ضعيفة جداً، ينساق الكثيرون إلى التركيز على لون بشرتنا لا على أفعالنا وأعمالنا، فيتم تصنيف المقاومة وتعييرها على أسس طائفية ومذهبية. هكذا يصرف نظر الرأي العام عن التطلع الى إنجازات المقاوم التي تتمحور حول تحرير الارض، ويتم التركيز على صفته الشخصية المذهبية. وهذا الموقف من أكثر المواقف العنصرية تطرفاً، لأن هذا المواطن يدافع عن أرضه الوطنية، لا عن عرقه أو دينه أو إثنيته.
قدم أنطون سعادة فكراً مقاوماً مبنياً على أسس مدنية علمانية. وعلى الرغم من ذلك، نبذه كثر ليس بناء على أفعاله وأعماله وكتاباته ومحاضراته، بل على أسس طائفيّة. أرادوا اختزاله الى ولادته المسيحية، علماً أنّه كان قد رفضها منذ البداية كما تشير مؤلفاته بوضوح! هنا تكمن سياسة الغرب الاستعماري، في الاستفادة من هذه التوجهات القبلية/ الطائفية، كي تستبدل النضال الوطني بحزازات بدائية، ضيقة الافق، مشرّعة على حروب أهلية مدمرة، بلا قرار. أليس هذا ما يحاول الغرب أن يفعله اليوم في لبنان والعراق بعد أن فشلت سياساته في سوريا؟

هل نسمح بمرور هذه المؤامرة؟
الحرب هي بين العرب و«إسرائيل» التي تريد الاستيلاء على أرضنا، كما استولت على فلسطين وخيراتها، وترنو اليوم الى نفط لبنان، وبحر لبنان، ومياه لبنان. والموفدون الاميركيون يأتون تباعا لإقناعنا بالتخلي عن حقول نفطنا. فهل نفعل؟
أبى أنطون سعادة إلاا أن يقود معركة الدفاع عن أرضه، وكذلك تفعل اليوم المقاومة بكل فئاتها وتشكيلاتها. فمن دون مقاومة لا أرض لنا، وكل خطابات النأي بالنفس والحياد يجب أن توجه إلى الصهيوني لأنه هو المعتدي وليس نحن. إن فعل المقاومة، بمدلوله الأساسي، دفاع عن النفس، وليس تعديا على الآخرين, وهذا هو جوهر فكر أنطون صسعادة المقاوم.

* ستاذة جامعيّة ــ النص أعلاه هو مقدّمة كتابها «فكر انطون سعادة المقاوم» الذي يصدر في بيروت عن «دار سعادة للنشر»،