تقول الدُّعابة في لبنان، إنّه في حال ضرب أحدهم على صدره وقال لك: «ما تعتل همّ»، هنا تحديداً عليك أن «تعتل همّ». هكذا حصل مع وزير الصحّة حين قال بداية اكتشاف فيروس «كورونا»، إنّه: «لا داعي للهلع». حاول الوزير بتصريحه أن يُطمئن اللبنانيين، لكن انتهى الأمر بالنتيجة النقيضة. وقعت الوزارة في فخّ «السيكولوجيا المعكوسة»، reverse psychology، حيث يكون تأثير العبارة عكس معناها.كمنت مشكلة هذا التصريح، في اعتبار الوزارة أنّها تتعاطى مع «كُلٍّ ميكانيكيّ»، إن قالت له ألّا يهلع، فلن يهلع؛ من دون أن تأخذ مسألة «العلاقات» في الحسبان، في المقام الأول، العلاقات السيكولوجية التي تحكم البشر والتي تدفعهم للتصرف بهذه الطريقة أو تلك عند سماع هذه العبارة أو تلك. وفي المقام الثاني، العلاقات الاجتماعية - السياسية التي تربط المواطنين بحكوماتهم - وهنا نتحدّث تحديداً عن مفهوم الثقة، أو بالأحرى عن غياب هذا المفهوم في حالتنا. ميكانيكيّاً، وفي حالةٍ مثاليّة، إن طلبت الدولة من مواطنيها أن يلزموا حجرهم المنزليّ، كان لهؤلاء أن يستجيبوا مباشرةً من دون تقاعس، ذلك لأنّهم على ثقة بأنّ هذه الحكومة تطلب الأصلح لهم، كذلك حصل في ووهان مثلاً. لكن بيروت، ليست ووهان، والحكومة اللبنانيّة، ليست اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي الصيني... للأسف
والمشكلة في موضوع الهلع، أنّه ينمو ككرة الثلج. بدأ مع تصريح الوزير ثم بات اليوم يبتلعنا جميعنا. لنحاول تفنيد المسألة. أوّلاً، فعلاً لا داعي للهلع، لأنّ التصرف وفق هذه الطريقة قد يؤدّي إلى المرض من دون أي سبب بيولوجي، بل فقط لأسبابٍ نفسية. هنا نتكلّم عن الأمراض النفس- جسديّة maladie psychosomatique. مثلاً، كم منّا تمكّنت منه نوبة زكامٍ في الأيّام القليلة الماضية؟ ليس السبب الحصري لهذه النوبة هو «الموسم»، كما اعتدنا أن نبرّر. يمكن أن تكون حالتنا النفسّية عاملاً مساهماً في هذه الإصابة، أي عند أبسط سعلة، نبدأ بالإفراط في التفكير بأنّنا أُصبنا بالـ«كورونا»، وتنشأ لدينا قناعة داخلية بأننا فعلاً أصبنا بها، ويبدأ جهازنا النفسي والعصبي بالتصرّف وفق هذه الطريقة إرضاءً لسيناريو رسمناه في مخيّلتنا، بسبب الهلع، مفاده أنّنا أُصبنا بالـ«كورونا». بينما المسألة في أساسها، لا تتعدّى حدود السعال البسيط، وتطوّرت بسبب وسواس الهلع إلى زكامٍ حادّ.
ثانياً، وفي السياق ذاته، يعود إلى الواجهة اليوم مصطلح «الهلع العقلاني». إن بحثنا فعليّاً في نسبة «الهالعين»، سنجد أنّ العدد ضئيل، ولو أن الظاهر يقول العكس. كيف ذلك؟ لنأخذ مثالاً التهافت على المحالّ التجاريّة للتخزين. ستبدأ بذلك شريحة قليلة من الأفراد، انتابهم الهلع. ثم سيفكّر باقي الأفراد (حتّى لو كانوا عقلانيين بكامل هدوئهم)، كالتالي: إن تأخّرنا بعد، لن يبقَ ما نشتريه - هيّا إذن نشتري سلعاً تفوق حاجتنا. ويبدو للمراقب كأنّنا جميعاً نتهافت على الرفوف بسبب هلعنا. ثم تأتي ثالثاً، وسائل الإعلام، وتصوّر المشهد، وتنشره مع عنوانٍ جذّاب، غالباً ما يساهم في تعميم حالة الهلع، من دون أن تأخذ في الحسبان الجانب الموضوعي للمسألة. ونتداول نحن الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي، وكرة الثلج تكبر وتكبر.
رابعاً، وعلى عكس الإصابات النفس - جسديّة، قد يؤدّي العامل النفسي إلى إصابات بيولوجيّة فعليّة، كالمثل التالي: يروي المواطن اللبنانيّ أدهم السيّد، من حجره في مدينة ووهان، قصّة طالبٍ زميلٍ له، شعر أنّه أصيب بالكورونا، فما كان منه إلّا أن هلع، وتوجّه إلى المشفى ليخضع للفحوصات اللازمة. فور وصوله، استهجن الأطبّاء لمغادرته حجره المنزلي وأمروه بالعودة. أُجريَت الفحوصات اللازمة وكانت نتيجتها سلبية. بعد يومين، أُصيب هذا الشاب فعليّاً بالكورونا، ليتبيّن أنّ الإصابة وقعت عند زيارته المشفى. هلعه على لا شيء في اليوم الأوّل، هو ما أدّى - بشكلٍ غير مباشر - إلى إصابته بالفيروس بشكلٍ فعليّ في اليوم الثاني.
وعلى الضدّ من الهلع، لدينا المتفائلون، أو بالأحرى أصحاب فائض التفاؤل. لا تزال شريحة من اللبنانيين تنام على سرير الـ «ما رح يصرلي شي». هكذا ظنّ روّاد الكورنيش الأسبوع الماضي. هم ليسوا «بلا مخ» كما وصفتهم وسائل الإعلام، هم مجموعة أفراد تفاءلوا بأن الفيروس لن يصيبهم. ولِمَ الاستغراب؟ كذا حال المدخّن عندما يعتبر نفسه حصراً أقلّ عرضةً للإصابة بالسرطان من غيره من المدخّنين. واقعيّاً، هو يدرك أنّ التدخين سوف يُسبّب له أمراضاً، لكنّه يرفض الامتثال لهذا الواقع ويتفاءل بأنّه سينجو وبأن مدخّناً آخر هو الّذي سيمرض. تُسمّى هذه الظاهرة «التفاؤل اللاواقعي»، وهي منتشرة بيننا بقدر ما هو الهلع. لكن وسائل الإعلام، على ما يبدو، تجد في «الهلع» مادةً أدسم، وتستغل مادة «التفاؤل اللاواقعي» لِبسط فوقيّتها على المواطنين.
ختاماً، ومن باب التفاؤل الواقعيّ هذه المرّة، تُسجّل ووهان اليوم صفر إصابة. هنا كان الالتزام، لا الهلع، حلّال المشكلة. قسّم أدهم السيد «الجبهة» التي تحارب الكورونا في الصين إلى ثلاث: «حكومة تخطّط، فرق طبية تضحّي وشعب ملتزم». في هذا الثالوث (المقدّس، وهو مقدّس كونه كان فعّالاً في مواجهة خطر يهدد البشرية)، لا مكان للهلع، ولا داعي له. فلننسَ قليلاً التصريحات والنُّكات التي تناولت موضوع الهلع، ولنراقب التجربة وآثار هذا الموضوع. هل من حالةٍ استفادت منه؟ كلّا. من هذا المنطلق: لا داعي للهلع، الداعي هو للالتزام بالوقاية وبحجرنا المنزليّ، حتّى إشعارٍ آخر.