لا ينتمي فعل إطلاق عميل مجرم وقاتل بحجم عامر الفاخوري إلى ذلك النوع الشاذ من التدابير الفردية التي تُتَّخذ بداعي الغفلة، أو الخطأ، أو التواطؤ البسيط وغير المحسوب. لو كان الأمر كذلك لكانت التنبيهات والتحذيرات المعلنة، وغير المعلنة خصوصاً، كافية لتفاديه أو لتداركه أو لاحتوائه، وبالتالي لإقفال ملفه، فلا يتداعى ولا يتمادى. ينبغي، في هذا الصدد، العودة إلى جذر المسائل والأزمات والصراعات، وفي سياقها إلى جذر المواقف والسياسات والتدخلات. هذه العودة هي أكثر من استحضار أو استذكار! إنها استئناف لمفاهيم وسياسات وعلاقات سابقة ظنَّ كثيرون أنها سقطت إلى غير رجعة، بسبب التجارب المرّة وتحولات التوازنات في لبنان والمنطقة وفي العالم.نبدأ من أن مجموعة من المفاهيم والسياسات والسلوكيات والعلاقات السابقة، لم تكن إلا جزءاً من منظومة رست عليها (ولا تزال) الحياة السياسية اللبنانية لبضعة عقود. في مجرى ذلك، جرى اشتقاق تقاليد وسياسات تتعارض، كلياً أو جزئياً، مع السائد الطبيعي من القيم والعلاقات في شقَّيها المحلي والخارجي. رغم مظاهر ازدهار مؤقتة وطارئة عاشها البلد، كان ثمة خلل يتفاقم ضرره بشكل متصاعد، ما أدى إلى نزاعات أهلية مدمِّرة كان أكبرها بين عامي 1975 و1990. تسوية «الطائف» التي تضمّنت آلية متكاملة لمعالجة متدرّجة للخلل البنيوي المشار إليه، صادفت مقاومة ضارية من الخارج ومن الداخل خصوصاً. أُهملت وعُطِّلت البنود الإصلاحية كلياً، واقتصر الأمر على وقف إطلاق النار، التي بقيت جمراً تحت الرماد ينتظر الرياح والتبدّلات ليعاود الحريق مجدداً.
في أساس الخلل، كان بناء معادلة سلطة مفكّكة وهجينة، تقوم على الشراكة الشكلية، من جهة، وعلى التفرّد والاحتكار، من جهة ثانية. اقترن ذلك، كما في مخاض مرحلة التأسيس، بالتوكؤ على قوى خارجية من أجل إدامة التوازنات أو تغييرها. المصلحة الوطنية العامة، لم تكن هي التي تحدّد وتضبط السياسيات والعلاقات، خصوصاً مع الخارج. المصلحة الفئوية هي التي كانت تقرّر ذلك، مكرِّسة آليات ومفاهيم جديدة ومستغربة! من ذلك أمر تحديد الصديق والعدو، الذي لم يعد يخضع لمقاييس موضوعية متّصلة، جوهرياً، بمصالح الشعب والبلاد، بل بمصالح محض فئوية: ودائماً، بثمن التبعية والارتهان.
في مجرى ذلك، تبلورت مفاهيم مشوهة بشأن السيادة والاستقلال والكرامة والوحدة الوطنية والمصلحة العليا... استُبدِلت هذه جميعها بصراع على السلطة تخطّى كل الحدود والضوابط ليتحوّل إلى طلب باهظ التكلفة، للدعم والاستقواء بالأجنبي. الكيان الصهيوني لم يعد عدواً، بل بات مشروع حليف يمكن الاستفادة منه، طلباً للدعم أو الحماية.
في الموقف من إطلاق عامر الفاخوري، يكمن إلحاحٌ على محاولة تأبيد الصيغة السابقة لبناء السلطة والتوازنات والعلاقات


أحداث وتطورات عديدة، دولية وإقليمية، أغرت بإعادة طرح موضوع السلطة وتوازناتها، بدءاً من الغزو الأميركي للعراق ربيع عام 2003. تُرجم ذلك في لبنان تبدلات أساسية أدت إلى فرض خروج القوات والإدارة السورية من البلاد، ربيع عام 2005. استؤنف الصراع على السلطة بـ«نصاب» سياسي كامل، بعودة من عاد من المنفى وبخروج من خرج من السجن. حفلت المرحلة بصراعات ضارية من أجل الحفاظ على المواقع أو إحداث تغيير أساسي فيها. لم يكن العنف بعيداً عن المشهد، بل كان أداة أساسية فيه. من اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، إلى عدوان تموز عام 2006، إلى اندلاع الاحتجاجات في سوريا، تجدَّد الصراع في لبنان وعليه، على أوسع نطاق. شعار «استعادة الحقوق» كان يختصر السعي لإعادة طرح أمر توزع الحصص في نطاق منظومة المحاصصة وبتعزيزها. «التيار الوطني الحر» أدار حملة ذات شقين: تأجيج التعبئة الطائفية، من جهة، والمبادرة إلى عقد تحالف ذي طابع انعطافي مع «حزب الله»، من جهة ثانية. أما الهدف فهو خوض معركة استعادة السيطرة على السلطة أو على معظمها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
الواقع أنه في موازاة جناح «اتفاق مار مخايل» مع «حزب الله»، في شباط عام 2006، كان التيار العوني يطير بجناحٍ ثانٍ (تعزَّز بمرور الزمن)، هو الإمعان في استعادة كل عدّة ما كان يسمى بالتيار «الانعزالي»؛ بدءاً من التصرّف مع مسألة المتعاملين مع العدو إثر تحرير عام 2000، وصولاً إلى المساهمة المتواصلة في إحياء ذكرى بشير الجميل باعتباره بطلاً قومياً.
ينتمي مجيء (وليس فقط إطلاق) العميل المجرم عامر فاخوري، إلى هذا النوع من السياسة والمفاهيم والعلاقات في ماضيها ومستقبلها. استُقبل الرجل كضيف مميز ومحمي. مرَّ ونُقل بالحفظ والصون الرسميين. الضجة التي أثيرت حول مقدمه واستقباله، ومن ثمَّ إخراجه إلى المستشفى وسط حملة سياسية معدة ومكشوفة لتبرئته بذريعة مرور الزمن، انخرط فيها مباشرة مسؤولون من «التيار الوطني الحر». الخاتمة بتبرئته وإطلاقه، كانت امتداداً لذلك رغم الحملة الشعبية والسياسية ورغم توريط القضاء وإحراج الحلفاء.
هذا هو السياق الأول الذي جاء في نطاقه إلى لبنان، واحتجز وأُطلق العميل المجرم عامر الفاخوري. هو سياق صراع سياسي ضار على السلطة في لبنان: من التعيينات البسيطة إلى... رئاسة الجمهورية، التي فتح الجميع التنافس بشأنها مبكراً جداً. لا توضع في هذا الصراع خطوط حمراء، حتى على العمالة للعدو! قال الفيلسوف الفرنسي باسكال (1623-1662): «الحقائق على طرفي جبال البيرينيه ليست واحدة». هكذا هو الأمر على طرفي الانقسام في لبنان، طالما استمرت وترسخت منظومة المحاصصة: أساساً للحكم وللإدارة وللاجتماع وللعلاقات.
أما السياق الثاني فمحرّكه دور أميركي ناشط تصاعدياً، بالضغط على الوضع اللبناني وقواه السياسية وخصوصاً منها «حزب الله». تعاظَمَ هذا الضغط تمهيداً لإطلاق مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعنوان «صفقة القرن». توسّلت واشنطن التهديدات، والعقوبات المالية، وقطع المساعدات، والتصنيف الإرهابي، والتهديد بعدوان صهيوني. اقترن ذلك بحملة مقاطعة خليجية، ومؤخراً بالسعي لإغراق البلاد في الفوضى عبر الأزمة الاقتصادية التي رعت واشنطن كل مراحلها! واشنطن تحاول فرض نفسها وصياً على لبنان في أزمته، وفرض العلاقة مع العدو الصهيوني شريكاً في العلاقات وصنع السياسات في ما يتصل بالوضع البناني وبوضع المنطقة عموماً.
في الموقف من إطلاق عامر الفاخوري، يكمن إلحاحٌ على محاولة تأبيد الصيغة السابقة لبناء السلطة والتوازنات والعلاقات. المعركة المبكرة على رئاسة الجمهورية ليست بعيدة من ذلك. تجميع أوراق قوة، هو دافع أساسي إلى تحديد المواقف مهما تعارضت مع المصلحة الوطنية. هذا ليس أمراً نادراً طالما استمرت منظومة المحاصصة حاكمة ومتحكمة في بلاد الأرز. واشنطن تتابع هذا الخلل، ومعه رعونة حكامنا، وتحاول استغلالهما لمصلحتها ولمصلحة أداتها الكيان الصهيوني.

* كاتب وسياسي لبناني