سأنطلق للحديث عن توزيع الثروات، مرتكزاً على القانون الفيزيائي المعروف، وهو التبادل الحراري بين المواد. يقول هذا القانون: عندما نمزج مادتين أو أكثر ذوات درجات حرارة مختلفة، ومع غياب العازل بينها، تُشكل هذه المواد نظاماً في داخلها، فتنتقل هذه الحرارة من مادة إلى أخرى حتى يصل النظام إلى الاتزان الحراري.راقني هذا القانون لأُطبّقه على الصعيد الاجتماعي، وهذا ليس بغريب، فهناك العديد من النظريات والقوانين العلمية التي تم إسقاطها على النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى على صعيد التنمية الذاتية، كقانون القصور الذاتي.
أقرّت غالبية الشرائع مبدأ توزيع الثروات بين البشر والسعي لردم الفجوات بين الطبقات الاجتماعية ومستويات الأسر الاقتصادية بصيغٍ مختلفة، والإسلام، تحديداً، وجّه الأمر تحت عنوان التشريع العبادي الاجتماعي من خلال فرض الزكاة والخمس وجوباً، والعطاء والصدقة والهدية والتكفل استحباباً، وكل عطاء يدخل ضمن إطار مساعدة الغير للتخفيف من معاناتهم. ورغم كل ما جاءت به الشرائع السماوية أو غيرها، فقد طغت الرأسمالية والنيوليبرالية على سياسات المجتمعات والدول الاقتصادية، خصوصاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية عام 1989، وهذه التيارات ترتكز على الفردية الجشعة بأثواب مزركشة وتفلسفها، ولكنها رغم ذلك أظهرت عيوبها ومخاطرها الاجتماعية، وقد لفت باريتو في قانونه 20/80، والذي يقول بأن عشرين في المئة من البشرية تحتكر ثمانين في المئة من الثروات وثمانين في المئة من البشر يعيشون على عشرين في المئة من هذه الثروات (في ما يتعلق بتوزيع الثروات).
أجد أن باريتو تسامح في النسبة، إذ أعتقد أن أقل من نسبة العشرين يحوزون معظم الثروة العالمية في مشهد جشع غير إنساني، يترك الملايين فريسة الجوع والموت والمرض وكل شيء سيّئ.

دعوة للأغنياء
لن أغرق في النقاش بين الماركسيين البنيويين والذرائعيين حول أهمية وجود الدولة، وإذا ما كانت كياناً حارساً للأغنياء أو لقوانينهم، ولكني أقول، وانطلاقاً من الرؤية الإسلامية لحتمية وجود الدولة، وتفاهة مفهوم اللاسلطة، وارتكازاً على أصل وجودها القائم على أربعة أركان في مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (مقدمة عهده لمالك الأشتر):
1. "جهاد عدوّها"... الدفاع والأمن.
2. "استصلاح أهلها"... الإصلاح الاجتماعي والثقافي والعلمي.
3. "عمارة بلادها"... التنمية الاقتصادية.
4. "جباية خراجها" برنامج مالية الدولة التي تنفق على هذه الأبواب.
إذاً، وجود الدولة أساس، ولكن عن أي دولة نتكلم، الدولة العادلة المتمظهرة في عملية تقسيم الثروات والسعي لردم الهوّة بين التكتلات الاجتماعية والأفراد، وإن لم تعمل على ما سلف، فلن يكون وجودها حينها إلا لحراسة أصحاب المال، وسيكون أصحاب المال هم أنفسهم الحكّام.
ولكن، عندما تشتد الظروف، وتزيد المصاعب المادية والاقتصادية، تضاف إليها الكوارث الطبيعية والصحية وغيرها، تبدأ قوة الدولة بالتراجع لأسباب بنيوية، أو لانشغال هذه الدولة بمواجهة ما هو أولى، ويبدأ العازل الحامي لأصحاب الثروات بالذوبان، ويزداد منسوب السرقة والجريمة ومعهما الاحتكاكات والصدامات الفردية والجمعية، ونبدأ برؤية تجليات قانون التبادل الحراري وفق نظام أقرّه العوز والفقر والجوع والمرض؛ فالغني يشتد حرصاً والفقير يخرج من بيته، شاهراً سيفه، باحثاً عن قوت يومه، وما بين هذين عصابات طفيلية تنمو على هامش ضعف هذه الدولة.
وفي ظل هذا الجو المتلبّد، تخرج دعوة رحيمة وإنسانية وعلمية استباقية لتقول للأغنياء : "وفّروا علينا هذا الاحتكاك، وابدأوا بتشكيل حالة التوازن إرادياً من خلال عطاءاتكم وتقديماتكم الحقيقية والصادقة والواسعة، البعيدة عن البروباغندا والتدجيل، حمايةً لأنفسكم وللمجتمع، ودرءاً لمشكلات اجتماعية وأمنية سندفع ثمنها جميعاً، وعسى أن تجدوها في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ابدأوا الآن، وقبل فوات الأوان... والسلام

*باحث سياسي