تُوفي عبد الحليم خدام، غابت معه أجزاء من آلامنا... قد يبدو هذا الكلام غير مناسب لحرمة الموت، ولكن لا بأس، نتمنّى له الرحمة والمغفرة ولكلّ من غادرنا إلى الدار الآخرة، بغضّ النظر عن رأينا فيه، فقد قال تعالى: «ورحمتي وسعت كلّ شيء». لكن من شغل موقعاً مهمّاً في المسؤوليّة عن الشأن العام، تصبح حياته وتجربته ملكاً للناس، وليست له فقط. من هنا، لا بدّ من تسجيل بعضٍ من تجربتنا مع هذا الرجل الذي «حكم لبنان» بآلة تحكّم عن بعد، وذلك في فترة مهمّة وحاسمة من تاريخ لبنان المعاصر:أولاً: يطرح أداؤه تساؤلاً كبيراً حول الدور السوري في لبنان، وهو الدور الذي اختلف عليه اللبنانيون اختلافاً كبيراً، ولا يزالون. هل كان عبد الحليم خدام يمارس الدور السوري، كما خطّط له وأراده الرئيس الراحل حافظ الأسد؟ أم أنه كان يملك هامشاً كبيراً من الحرية، جعله ينحى نحو مصالح شخصية، تجلّت بوضوح صارخ مع الشهيد رفيق الحريري في أوج نشاطه وبروز قدراته المميزة؟
ثانياً: من هنا أبدأ، من آخر لقاء لنا معه. كان ذلك في أيلول 1992، حين ذهبنا مع نخبة من علماء مدينة صيدا وجوارها في مسعى يهدف إلى إدخال مرشّح «إسلامي» إلى اللائحة الانتخابية الرئيسية في الجنوب. وكان الجنوب وقتذاك، عند أول انتخابات نيابية بعد الحرب، يشكّل دائرة انتخابية واحدة (سيسامحنا الله على اجتهادنا هذا إن شاء الله). وبعد حوار طويل إلى حدّ ما، تولّى خدام الدفاع المستميت عن دور الرئيس رفيق الحريري كرجل أعمال، إذ لم يكن قد أصبح رئيس حكومة بعد. قارنت عندها بين حماسته الفائقة في الدفاع عن الرئيس الحريري رحمه الله، وبين الانتقادات الحادّة التي أدّت إلى استقالة الرئيس عمر كرامي، من دون أن يكون مسؤولاً حقيقياً عن التردّي الاقتصادي في ذلك الحين. فقد تم اعتماد أسلوب حرق الدواليب وقطع الطرقات وإحداث الفوضى وسيلة لإسقاط الرئيس عمر كرامي والمجيء برفيق الحريري (طبعاً جاء الرئيس رشيد الصلح ولم يأتِ الحريري).
وكان هذا الموقف واضحاً جداً في مقالة افتتاحية على عرض الصفحة الأولى لجريدة «السفير»، في أواخر تموز 1992، مع إغفال اسم الكاتب، والاستعاضة عنه بـ «كتب المحرر السياسي». أكّدت المقالة، بشكل واضح، مسؤولية الرئيس الحريري عن الفوضى التي أسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي، كما أشارت الصحيفة بشكل ما إلى أن مصدر معلوماتها هو الدائرة الرئيسية في القرار السوري. استناداً إلى ما عندي من معلومات، وبالمقارنة مع ما سمعناه من نائب الرئيس خدام، قلت له بشكل واضح ومن دون تردّد: «هل هذا رأي الجميع في سوريا»؟ في إشارة واضحة إلى أن موقفه الذي سمعناه يختلف تماماً عن رأي الرئيس الأسد. فغضِب لهذا الاتّهام الواضح، وردّ غاضباً: «هل نحن هنا دكاكين في سوريا؟ كلّنا بأمر الرئيس الأسد، وأنا تعرفت إلى الرئيس الحريري في مكتب الرئيس الأسد»... إلى آخر بنود لائحة الدفاع عن نفسه التي قدّمها بحماسة وغضب، ثم بدأ بعد ذلك يسترضيني ظنّاً منه ـــ استناداً إلى جرأتي في هذا الاتهام ـــ أنني على علاقة مباشرة بالرئيس الأسد، ثم لاحقاً وبعدما تأكّد كما يبدو، أن كلامي الذي واجهته به نابع من موقف شخصي، وليس بسبب علاقة خاصة مع القيادة السورية، أرسل لي عدة رسائل شفهية مع من يعرفني ممن يلتقيهم، ينتقد أسلوبي بالكلام وسؤالي الجريء.
يطرح أداء عبد الحليم خدام تساؤلاً كبيراً حول الدور السوري في لبنان الذي اختلف عليه اللبنانيون اختلافاً كبيراً، ولا يزالون


بكلّ تواضع أقول: لقد كشفت قبل حوالى عشرين عاماً، شيئاً من الخلل الذي ارتكزت إليه المؤامرة في سوريا، ونقاط الضعف التي خرقت من خلالها المؤامرة البناء السوري الصلب، كما كان يظهر من الخارج وقتها. ولقد أفصحت عن ذلك بشكل واضح في 18 نيسان 2011 في لقاء تضامني مع سوريا في فندق الكومودور في بيروت، وخلال بثّ مباشر على الهواء، من خلال الإشارة إلى أن الأزمة في سوريا سببها أمثال خدام الذين يعملون لحسابهم، من دون مراعاة المصلحة العامة والانسجام مع الأهداف الاستراتيجية الكبرى. وكان مثل هذا الكلام وقتذاك، غاية في الجرأة والوضوح، فيما كان الكثيرون يعمدون إلى التملّق ويحصرون المسؤولية بالعامل الخارجي.
هل هنالك مصلحة في ذكر هذا الكلام الآن؟ نعم، فلا يزال الدور السوري موضع نقاش يومي، رغم انكشاف المؤامرة بشكل واضح. ينبغي أن نؤكد أن سوريا أثبتت خلال العقود الماضية أن نظرتها الاستراتيجية هي الأصح والأسلم، لكن تلك الاستراتيجية المتقدمة، غطّت عليها «التكتيكات» المرحلية من وقت إلى آخر. كما كان فساد كثير من الضباط يغطي على المبادئ، فضلاً عن الإفراط في استعمال العنف، بغضّ النظر عن الأهداف. وقد نتساءل هنا عن صمود هذا النظام رغم خلل كثير، ذكرنا أمثلة عليه، ورغم أخطاء وخطايا يمكن أن تغيّر مجرى التاريخ... كأنّ القدر الإلهي أراد لهذا النظام أن يصمد رغم كلّ شيء لأنه الوحيد بين الأنظمة العربية الذي يدعم المقاومة بشكل واضح، ومن دون الدخول في الحسابات (والله أعلم).
ثالثاً: من هنا نعود إلى البداية، إلى عام 85، بعد التحرير مباشرة، أي انسحاب القوات الإسرائيلية من صيدا وأكثر الجنوب في 16 شباط 1985، حين قدَّمنا الإعلام كأبطال محرّرين، بغض النظر عن دورنا الحقيقي في التحرير والذي قد نتحدث عنه في مكان آخر.
دُعيَتْ فعاليات صيدا، وعلى رأسها سماحة مفتي صيدا الراحل سليم جلال الدين رحمه الله وأكرم مثواه، للقاء مع الرئيس حافظ الأسد كنوع من تكريم لدورهم في طرد العدو الإسرائيلي، وتحريضهم الناس على المقاومة. وتم استثنائي من هذه الدعوة، رغم أن اسمي كان الأكثر تداولاً في وسائل الإعلام في تلك المرحلة. لكنّ تقارير مخابراتية، على ما يبدو، شَوّهتْ صورتي ووضعتني في موضع الاتّهام الظالم. وكان على رأس هذه الاتهامات الباطلة أنني أنوي السيطرة عسكرياً على صيدا، وإلغاء بقية الأطراف، كما فعلت حركة التوحيد قبل ذلك في طرابلس.
ثم بعد فترة قصيرة، زعم ناقل الرسالة أن جمعيات إسلامية دُعيت هي بدورها لزيارة نائب الرئيس السوري، كنوع من النشاط الضروري في ذلك الوقت. دُعيتُ للمشاركة في هذا الوفد، فلبّيتُ، وتبين أن المقصود من دعوة هذه الجمعيات هو أن يتعرف إليّ عبد الحليم خدام في لقاء أراد أن يوجه من خلاله رسائل هي أشبه «بالتوجيهات بل والاتهام». هكذا، أهمل الجميع وحصر الحديث معي، مستهلّاً الكلام بالقول: «ظننت أنك طويل عريض من كثرة ما سمعت عنك». فقلت له مباشرة: «لست أطول مني»، كأنه أراد بذلك أن يكسر الحاجز الرسمي ليسترسل في الكلام على راحته، وكان من جملة ما تحدّث به انتقاد شخصية الشيخ سعيد شعبان رحمه الله ودوره في طرابلس. وقمت بدوري بانتقاد السياسة السورية أيّامها، متّهماً إياها أنها تداري التوازنات الدولية على حساب المصلحة اللبنانية ـــ السورية المشتركة. فقال لي: «التوازنات الدولية تحت حذائك». استعمل كلمة «كندرتك»، التعبير السوري العامي للحذاء، ثم أردف قائلاً: «هل قرأت سورة آل عمران؟». قلت نعم أحفظها. قال: «في سورة آل عمران قصة العبد الصالح الذي يعلّم موسى عليه السلام ثلاث مسائل لم يكن يعلَمها». قلت: «هذه سورة الكهف وليس آل عمران». قال: «نعم نعم».
وأراد بذلك أن يقول إننا نعلم ما لا تعلمون، فعليكم أن تستجيبوا لمواقفنا. وطال الحديث. والملخّص المؤسف أنه كان يعتمد على معلومات مغلوطة ويبني عليها. وهذه آفة أخرى في الدور السوري في لبنان الذي نعود فنؤكّد من جديد، أن الاستراتيجية السورية أثبتت فعاليتها، فلم توقع اتفاقاً مع الإسرائيليين، ولم تخضع للابتزاز الأميركي في الأمور الكبرى، ودعمت المقاومة. وكان ثمن هذا الموقف باهظاً على الدولة السورية، عبر هذه المؤامرة الكبرى التي لا تزال تدور رحاها في الشمال السوري، ونتج عنها كل هذا الدمار، وهذا العدد الهائل من الضحايا. إننا نحيي هذه الاستراتيجية، لكن معظم النار من مستصغر الشرر. ومن هذه الشرارات خدام ومصالحه الشخصية، وطموحاته الفاسدة التي جعلته في نهاية المطاف متآمراً على سوريا، بعدما كان ركناً ركيناً من نظامها، هذا فصل مؤلم ينبغي أن يتم التعبير عنه بكل وضوح، عسى أن نستفيد منه للمراحل المقبلة. فهل من معتبر؟
رابعاً: لا يمكن تلخيص دور عبد الحليم خدام بهذه الكلمات، ولا من خلال هذين اللقاءين فقط. فدوره كبير وواسع ومتعدد. لكن هذا القليل قد يغني عن الكثير، وقد نكتب كل هذه التجربة المريرة لاحقاً... ومع تكرار ما ذكرنا عن الاستراتيجية والتكتيك، يُطرح سؤال مهمّ: هل هنالك جهة من دون أخطاء ومن دون خطايا؟ هل هنالك تجربة كاملة؟ وكما يُطرح سؤال آخر في الفترات العصيبة والفتن، قد نتجاوز الكثير مقابل الهدف الأسمى... فهل هذا ينطبق على ما ذكرناه؟ وسؤال آخر لا يقل أهمية: المنتقدون الأخصام الشرسون للدور السوري هل يستطيعون أن ينتقدوا «حلفاءهم» كما نفعل؟ بل هل يرون أخطاءهم وخطاياهم؟ أم أن قدرتهم على الانتقاد وتوجيه السهام السامة تنحصر في مكان واحد، تختاره مصالحهم ونزواتهم؟ الجواب واضح.

* الأمين العام لاتحاد علماء المقاومة