1
الدكتور حسني الشباب في ذمة الله
لم أزر عمان يوماً، منذ انعقاد المؤتمر القومي العربي الثاني فيها عام ١٩٩١، إلا وألتقي الراحل الدكتور حسني الشباب مع غيره من رفاق الدرب القومي، ونتداول في حال الأمة وأوجاعها وآمالها... كنت أرى "بابي كريم" ذلك المثقف الدمث والواعي والحكيم، والمناضل الصلب الثابت على المبادئ، وكنت أحرص على الاستماع إلى آرائه وتحليلاته، مقدّراً فيه التزاماً لا يصادر استقلاليته، وروحاً قومية عربية لا تلغي وطنيته الأردنية، ومبدئية لا تلغي واقعيته السياسية...
وحين انتخبه أهل منطقته في شمال الأردن نائباً، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كان يتصرّف كنائب عن كل الأردن، بل عن كلّ الوطن العربي، ومدافعاً عن كل قضايا الأمة، ولا سيما فلسطين، ثم العراق وما تعرّض له من عدوان وحصار واحتلال، منذ العشر الأخير من القرن الماضي.
بغياب حسني الشباب، تخسر الحركة الوطنية الأردنية واحداً من أبرز وجوهها المضيئة، والحركة القومية العربية فارساً من أنقى فرسانها وأصدقهم. رحمه الله، وألهم عائلته الكريمة ومحبّيه الكثُر جميل الصبر والسلوان.

2

فاروق أبو عيسى
حضور ومرونة

رحل أول من أمس وجه سوداني بارز في حياة بلاده، في المجالات السياسية والنقابية المحلية والعربية والدولية، هو وزير خارجية السودان سابقاً، الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب الأستاذ فاروق أبو عيسى. وقد أتيحت لي فرصة التعرّف إليه، في أوائل عام ١٩٨٧، حين حضرت، وأخي فيصل درنيقة، الجمعية العمومية الأولى للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في الخرطوم (وكان أبو عيسى أحد مؤسسيها) بعد اجتماعها التأسيسي في ليماسول/ قبرص عام ١٩٨٣، على هامش ندوة "الديموقراطية في الوطن العربي" التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في جزيرة قبرص بعدما تعذّر انعقادها في أي قطر عربي. افتتح الاجتماع، يومها، رئيس وزراء السودان السيد الصادق المهدي. ثم التقينا بعد ذلك في آذار/ مارس عام ١٩٩٠ في تونس، يوم تأسيس المؤتمر القومي العربي، الذي حرص مؤسّسوه، يومها، على أن يضم شخصيات ملتزمة بالمشروع النهضوي العربي من كلّ تيارات الأمة. وكان أبو عيسى من رموز التيار اليساري، كقيادي في الحزب الشيوعي السوداني الذي كان معارضاً لحكم الرئيس الراحل جعفر نميري. كذلك، انعقدت على هامش المؤتمر، يومها، الجمعية العمومية الثانية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كان لي شرف ترؤسها. ولم يحضر أبو عيسى بعدها أياً من دورات المؤتمر الـ ٢٩.
بغياب حسني الشباب، تخسر الحركة الوطنية الأردنية واحداً من أبرز وجوهها المضيئة، والحركة القومية العربية فارساً من أنقى فرسانها وأصدقهم


والتقيت أبو عيسى مرة ثالثة في دمشق، يوم تأسيس اللجنة الشعبية العربية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، ومقاومة المشروع الصهيوني في مطلع عام ٢٠٠١، أي بعد أسابيع من انتفاضة الأقصى في ٢٨ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٠، والتي ترأسها الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد. وحضرت من لبنان الاجتماع التحضيري، كما حضر من لبنان أيضاً يومها نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم.
وكنت ألتقي الراحل أبو عيسى، كذلك، على هامش اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب في غير عاصمة عربية، حيث كنت أُدعى كضيف أو محاضر.
ورغم تفاهمنا على العديد من القضايا، إلا أننا لم نكن، والعديد من زملائي، على اتفاق معه في بعض مواقفه وتوجهاته. غير أننا كنّا دائماً نقرّ له بأمرين، أولهما حضوره الفعّال والدائم في كل المحافل العربية والدولية مدافعاً عن قضية فلسطين وعن الديموقراطية وحقوق الإنسان، وثانيهما رحابة صدره وقدرته على التعامل والتفاعل مع من يختلف معه بالرأي، مجسّداً بذلك الروح السودانية المتجذّرة بحب الديموقراطية واحترام الرأي الآخر.
لقد أعطى فاروق أبو عيسى، من خلال دوره كأمين عام لاتحاد المحامين العرب وكشخصية مؤثرة في العديد من الهيئات العربية والدولية، نموذجاً للسياسي المُعارض والمبعد من وطنه، ولكن القادر بمرونته وبنقابيته على أن يؤدي دوراً متميزاً على مستوى العمل الشعبي والمهني العربي والدولي.
لقد اختلف أبو عيسى مع كثيرين داخل السودان وخارجه، لكن لم يختلف أحد على كفاءته وحيويته وفعاليته ومرونته. رحمه الله وألهم ذويه ورفاقه ومحبيه الصبر والسلوان.

3

بن بلة في ذكرى رحيله
تجربة تستحق التأمل

من قصر الشعب، حيث كان يتوافد كبار الزوار لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الرئيس الراحل أحمد بن بلة حتى مدافن "العالية" التي يدفن فيها أبرز الثوار وكبار المسؤولين، كانت جماهير الشعب الجزائري تحتشد تحت المطر على طول الطريق الممتد كيلومترات عدّة، لتودّع أول رئيس للجزائر المستقلّة، قبل أن يوارى في الثرى.
كان المشهد مبهراً في مثل هذه الأيام من عام 2012، حيث تلا الجزائريون فعل وفاء لأحد رموز ثورتهم بعد حوالي 60 عاماً على انطلاقتها، وبعد 50 عاماً على استقلالهم، مؤكدين عمق حبهم لأحد أبطال بلادهم وتقديرهم لمعاناته قبل الاستقلال وبعده.
واستعادة المشهد اليوم، والجزائر كما العالم كلّه يعيش مواجهة قاسية مع جائحة لم تميّز بين أمّة وأمّة، وكبير وصغير، وأتباع دين وأتباع دين آخر، ليس فعل وفاء لأحد أبرز قادة العرب والعالم الثالث في عصرنا فحسب، بل دعوة إلى التأمل في قسوة العلاقات بين رفاق الدرب الواحد والنضال الواحد، إذ يتحولون بين لحظة وأخرى من إخوة وقادة ورموز إلى أسرى ومعتقلين، بل إلى شهداء بيد رفاقهم.
إنها دعوة نابعة من الوجدان، وموجّهة إلى كل مناضل في سبيل القضية، من أجل أن نقرأ بتجرّد مسار العلاقات بين أبناء التجارب الواحدة أو المتماثلة، ونسعى إلى تحصينها مستقبلاً من كل جور أو ظلم أو قسوة.
تجربة أحمد بن بلة ليست فقط تجربة قائد في ثورة ضد المستعمر، بل تجربة مناضل عانى الأمرّين في بلده بعد الاستقلال، قبل أن يتم إنصافه في سنوات عمره الأخيرة.
فألف تحية إلى بن بلة، في ذكرى وفاته الثامنة، وهو الذي استقبله اللبنانيون، بكل مشاربهم، وفي قلوبهم قبل بيوتهم، في تموز/ يوليو ١٩٩٧.
والتحية موصولة إلى شعب الجزائر، الذي أثبت تفوّقه في ثورة تحرير بلاده، وفي الوفاء لرموز ثورته.

* كاتب وسياسي لبناني