على الرغم من عدم اكتمال الصورة بعد، إلا أنّ الخطوط العريضة لبرنامج الإصلاح المالي الذي تعدّه الحكومة، تشي بأنّ القائمين عليه يعيشون في عالم افتراضي قوامه الأرقام المجرّدة والأحلام المستحيلة، وليسوا على معرفة حقيقية بالواقع اللبناني بمعطياته وتعقيداته، ولا بمزاج الناس الذين يشعرون بالسخط والمرارة جرّاء الاستهانة بهم وتركهم فريسة الجشع المصرفي، الذي يضغط على الحكومة لاعتماد خيارات معاكسة للتي وعدت بها، والتجرّؤ مرة أخرى على إيداعات المواطنين والتراجع أمام طرفي المنظومة التي جففت السوق من الأموال، وحوّلت الدولة إلى مزرعة لصرف النفوذ ومراكمة الثروات.وبينما تسعى الحكومات في العالم، اليوم، إلى ابتكار وسائل وأساليب لحماية المواطنين وتمكينهم من مواجهة الصعوبات الاقتصادية المتزامنة مع انتشار فيروس «كورونا»، تتهيّأ أطراف حاكمة في لبنان للسطو على ما تبقى من أموال الناس، التي تبخّرت مع أموال الدولة، غير مبالين بالانعكاسات السلبية التي تزيد من مرارة عيش الطبقات الشعبية وتزيد من مخاطر انفجار العنف داخل المجتمع.
إنّ الحل الممكن للأزمة الخانقة التي يعيشها لبنان ودولته، لا يمكن في ظل الظروف والمعطيات القائمة أن يكون حلاً تكنوقراطياً بحتاً، وإنّما ينبغي أن يأتي ضمن رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية شاملة تأخذ بعين الاعتبار أهمية وضرورة فهم واقع المجتمع وأوضاعه وتطلّعاته «على صعيد كلّي كما على صعيد جزئي» ضمن الثوابت والمتغيّرات المرتقبة إقليمياً ودولياً.
فإذا كان على الدولة خدمة السوق بمعناها الواسع، فهي معنية بالمقابل بخدمة المجتمع وحمايته من الفوضى والأوبئة والاحتكار والفساد. ومن هنا، فإنّ أيّ برنامج إصلاحي عصري يجب أن يؤكد على، ويتأكد من، سلامة الإدارة وكفاءتها وقدرتها على تحقيق الإصلاح بإصلاح ذاتها أولاً، أو بفرض الإصلاح عليها من قِبل حكومة جريئة ملتزمة تسعى بجدية لتحقيق العدالة والاستقرار والتنمية المستدامة على أساس الإقرار باستقلالية القضاء واعتماد الضرائب التصاعدية وتوزيع عبء النهوض على القادرين والميسورين، خاصّة الذين استفادوا من المرحلة السابقة وراكموا الثروات الضخمة بدون جهد مقابل.
الثقة لا تُستعاد بالعويل والاستجداء وإنما بقرارات داخلية قاطعة، كقرار تعليق دفع ديون الـ«يوروبوندز» وقرار المجابهة الشاملة لجائحة «كورونا»


وإذا كانت الاستدانة مطلوبة لإحياء النظام الليبرالي القديم بكل وحشيته، فلا حاجة إليها على الإطلاق. وإذا كانت الاستدانة ستعتمد بدون إصلاحات حقيقية على الصعيدَين السياسي والإداري، فلا حاجة إليها أيضاً، لأنّ هذه الأموال ستعود لتصبّ في جيوب الطبقة الحاكمة المُتخمة بالمال المنهوب والمُثقلة بسجلّها العدلي «النظيف». أمّا إذا اعتُبرت الاستدانة خياراً للنهوض والإنقاذ، وبناء اقتصاد وطني إنتاجي جديد قائم على الكفاءة والشفافية والعدالة الضرائبية، ودعم التكنولوجيا الحديثة والصناعة والزراعة والعمل المصرفي المنضبط والإدارة العصرية الضامرة (فأهلاً بها) مع العلم بأنّ أي برنامج يمسّ ودائع الطبقات محدودة الدخل، ويمسّ الفقراء سيكون من شأنه ـــ قياساً إلى تجارب سابقة ـــ إشعال الشارع والإطاحة بخطّة الإنقاذ نفسها، هذا إذا سلّمنا بأنّ مجلس النواب يستطيع إصدار قانون كهذا، وأنّ المجلس الدستوري يستطيع ردّ الطعن فيه.
إلى ذلك، تتحدث الخطة عن إصلاح الإدارات والمؤسّسات العامة، بينما الحكومة عاجزة ـــ حتى الآن ـــ عن إصدار مرسوم التشكيلات القضائية، وعاجزة عن تعيين أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان، فضلاً عن مجالس الإدارة والهيئات الناظمة في قطاعات النفط والكهرباء والاتصالات ومجلس الإنماء والإعمار وسواها. ثم كيف نستبشر بالإصلاح وعصر النفقات، والسلطة لم تنجح في إحالة نصّاب واحد إلى القضاء بينما نجحت في غلّ أيدي قضاة جريئين بادروا إلى فتح ملفات أساسية التزاماً بالعدالة وحفظاً لسمعتها.
أما الحديث العام عن تجميد الأجور لمدة خمس سنوات، فلا يستوي ضمن الظروف القائمة التي تحتّم عدم تطبيق التجميد على الرواتب والأجور المتدنّية، وإنّما على الرواتب والأجور المرتفعة، إلا إذا كانت الحكومة ترمي من وراء ذلك إلى خفض الطلب العام وتكريس الركود الاقتصادي، واستطراداً التهيئة لانفجار اجتماعي جديد ربما يتّسم بالعنف هذه المرة، بعدما صبر الجمهور فوق طاقته، وبعدما تمادت السلطة في استهتارها.
ثمة أمور عديدة يمكن التطرّق إليها في هذه العجالة، ولكن نركّز على نقطة أساسية هي الثقة التي يرتكز إليها أي نظام اقتصادي يريد النهوض والانطلاق.
والمهمّة الأساسية التي تطرح نفسها على الحكومة، اليوم قبل الغد، هي استعادة الثقة بالدولة ومؤسّساتها الغارقة في بحر من فساد، من دون أن تكترث لسمعة لبنان أو مكانته رغم مباهاتها اللفظية بدوره المميز. واستعادة هذه الثقة لا تكون بالاتصالات الديبلوماسية وحدها، أو بإعداد الدراسات العلمية وحدها، وإنما تكون أيضاً بخطوات حازمة على الأرض تبيّن عزم الحكومة على الإصلاح ومحاربة الفساد ومساءلة كلّ من شارك في عملية النهب الواسعة للمال العام والخاص. فما لم تبادر الحكومة إلى توجيه كل الأجهزة المختصّة من قضاء وهيئة تحقيق خاصة ولجنة رقابة على المصارف وقوى أمن وإنتربول، للعمل فوراً وبفعالية على سكة استرداد الأموال المنهوبة والمهربة، والمبادرة إلى مساعدة الطبقات الشعبية مساعدة فعلية، فلن تقوم للخطة قائمة، ولن تتمكّن الحكومة من المضي في طريقها الوعر، ذلك أن الثقة لا تُستعاد بالعويل والاستجداء، وإنما بقرارات داخلية قاطعة حازمة لا تعرف التردّد أو التراجع، كقرار تعليق دفع ديون الـ«يوروبوندز»، وقرار المجابهة الشاملة لجائحة «كورونا».
* وزير سابق