لم تفلح الرأسمالية في تأبيد انتصارها كفكرة نهائية. رغم كل الترويج الإعلامي والتحشيد النظري خلال القرنين الماضي والحالي، فإنّها دائماً ما كانت تصطدم بإشكاليات الواقع وتعقيداته وتحدّياته. قدرتها على الالتفاف والمواربة والمداورة والتبرير والتوظيف، لم تحدّ من سيول التشكيك في طبيعتها العدوانية ونتائجها المتوحّشة وفي عدم ملاءمتها لجوهر الحياة الإنسانية. نمو الأدوات الرأسمالية على مستوى النقد والبورصات والتجارة والأنظمة المصرفية، كان دائماً مصحوباً باعتراضات أخلاقية عميقة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. بقعة المعاناة كانت تكبر يوماً بعد يوم، حتى داخل المجتمعات التي أنشأتها واختبرتها وذاقت طعم تمدّنٍ ما لبث أنْ انقلب على ذاته.
واحدة من الضربات الموجعة كانت من «الكينزية»، التي طرحت نفسها كبديلٍ جدّي لا تهدف إلى تصحيح خلل في مبادئ المال وقواعد الثروة فحسب، وإنّما طالبت بمحو التناقضات التي عصفت بأسس الفكرة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وذهبت للاعتراف بالدولة ودورها الرعائي «المقدّس» في ترميم الفجوات بين الطبقات.
مع «كورونا»، عادت الأسئلة حول «جائحة» الرأسمالية كنظام اقتصادي وكنمط حياة. حول الهيمنة والعنف والامتيازات من جانب، وانحدار مستويات المعيشة ومعدلات الفقر والبطالة، من جانب آخر؛ حول الأوليغارشية النافذة المرفّهة ودورها العابر للحدود والأوطان وفي المقابل، حول المعدمين المهمّشين الذين لم يبقَ في عيونهم سوى الليل. الأسئلة التي تُظهر ما في أعماق الإنسان من نزوع ورغبة أكيدة إلى التغيير، وتبحث في الكمالات «ما فوق المادية»، بعدما تبيّن أنّ الرأسمالية لا تمثّل إرادة الإنسان وحريّته واختياره وإنّما حرص الرأسماليين وجشعهم ومكرهم وحبهم المفرط للمال وانغماسهم في الأبعاد المادية في الحياة، على حساب الأبعاد المعنوية والإنسانية الأخرى. وما توجّه البشرية اليوم إلى الله، إلا لتؤكد كما يقول الشهيد محمد باقر الصدر: «رفضها المستمر لأيّ مطلق آخر من المطلقات المصطنعة والمزيفة». فالرأسمالية، رغم كلّ المحاولات العلمية لجعل قوانينها قوانين كلية لا تُخدش ولا تبور مع تقدم الزمن، إلا أنّ طبيعة التناقضات في مدخلاتها ومخرجاتها لا تعكس إلا كونها ظاهرة تملأ جزءاً من ظواهر الساحة التاريخية، ولا يمكنها البتة أن تستوعب كامل التاريخ، ولا أن تستجيب لحركة الإنسان وتطلّعاته المادية والروحية التي يجب أن تسير إليها الإنسانية. يعزّز هذا الرأي ما أدلى به، أخيراً، المفكّر الأميركي نعوم تشومسكي، إلى موقع TRUTH OUT، من ضرورة إعادة بناء مجتمع قابل للحياة بعد الحطام الذي ستتركه أزمة «كورونا»، مستشهداً بدعوة المؤرّخ فيجاي براساد الذي قال: «لن تعود الأمور إلى طبيعتها، لأنّ الوضع الطبيعي كان هو المشكلة». بمعنى آخر، يجب إعادة النظر في الفكر الرأسمالي الذي يُعلي من شأن المال ويدعو إلى تجميعه وتكديسه والتنافس فيه، واستئصال كل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي نشأت على أساس الاستغلال والطمع والتكاثر «وتعظيم الأرباح التي من شأنها أن تحطم أسس الحياة المتحضّرة»، كما هو رأي تشومسكي.
ولو كانت الرأسمالية تملك قابلية إصلاح نفسها من داخلها، كان «يجب أن يكون هناك شخص ما يلتقط الكرة ويركض بها»، لكنّ تشومسكي يحاجج بأنّ ذلك من غير المقدور عليه، بسبب أمراض هذا النظام الذي يقف وراء التعامل الفاشل للولايات المتحدة والغرب عموماً مع جائحة «كورونا».
إنّ عدم تدخّل الدولة في الاقتصاد، استناداً إلى عقيدة «الحكومة هي المشكلة»، وتقديم الربح على منع كارثة مستقبلية، وتسليم عملية صنع القرار بشكل كامل إلى رجالات القطاع الخاص، الذين لا يوجد فيهم من يهتم بالصالح العام، وتصميم السياسة لتكون لصالح أقلية صغيرة، في حين يتخبّط الباقون من الفقراء والفئات الأكثر ضعفاً، يكشف عن أنّ عقرب الأيام يقترب أكثر وأكثر من ساعة منتصف الليل. يعلّل تشومسكي الوصول إلى هذه النتيجة، إلى النسخة النيوليبرالية للرأسمالية، التي لها صلة مباشرة بما يجري اليوم، والتي ستهدّد مصير الجنس البشري.
لا شكّ في أنّ أزمة «كورونا» عرّت هذا النظام أخلاقياً، وكل الترّهات عن فردانية الفرد الرأسمالي وحقوقه الأساسية البديهية تمّت التضحية بها من أجل الربح والسوق والمصالح التجارية. سيدافع الرأسماليون حتماً، بإجابات التفافية تكلّفية على طريقة ما اصطلح عليه الدكتور عبد الله العروي عن «فكر الليل وفكر النهار». لكنّ الأزمة أكبر من أي هروب إلى الأمام. في أعماق إنسان هذا العصر، نزوعٌ ورغبة أكيدة في التغيير. تشومسكي يعتبر أنّ «الوباء يدفع الناس إلى التفكير في نوع العالم المطلوب». ويلاقيه على الضفة الأخرى كلام لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الذي يرى أن «جائحة فيروس كورونا، ستغيّر النظام العالمي للأبد»، وأنّ علينا التحضّر لنظام ما بعد جائحة «كورونا»، الذي يقرّ فيه بضرورة التعاون والتضامن الاجتماعي وتعزيز الكرامة الإنسانية، لتحقيق السلام والاستقرار العالميين. وفي هذا الموقف، تأكيد على التأثيرات الزلزالية لهذه الجائحة على العقل الغربي، الذي بدأ يبحث عن تصحيح ما تلبّس به من «وثوقية» ورهانات، شكّلت أساساً للظلم وسوء توزيع الموارد وكفران النعم. ولهذا، يشير الاقتصادي الأميركي الشهير جيفري ساكس إلى أنّ «التكلفة الإجمالية لأهداف التنمية المستدامة، تقدّر بنحو 5% من ناتجنا السنوي. ومن الجنون ألا نعمل لتحقيق تلك الأهداف». ويضيف أنّ «الفشل في تحقيقها سيؤكد أن العالم يسيء استخدام موارده، ويعني ذلك أنّ هناك توجيهاً خاطئاً بشكل كبير للموارد باتجاه الحرب، أو الأكثر ثراء الذين يشترون يخوتاً بطول 300 متر أو يشترون عدداً من البيوت لا يعرفون ما سيفعلون بها». ساكس يعتبر أنّ العالم الذي «تحكمه القوى الغربية يشرف على نهايته»، وأنّ «الوضع الوجودي في العالم» يتوقف على معالجة الاحتياج الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والقضايا البيئية والتعاون السلمي، وكلّها قضايا لا تلحظها القيَم الرأسمالية وغير مضمونة في قوانينها.
تحتاج البشرية إلى أن تدرك أكثر سرّ وجودها على الأرض، وتتحمّل مسؤولياتها في إقامة العدل وتنمية الثروة لصالح الجميع. تحتاج إلى توسيع هوية الإنسان وإخراجه من وهم الأيديولوجيات والأنانيات المدمّرة. ما فعلته «كورونا» يخترق اليوم الكثير من المفاهيم والتصوّرات. يعيد إعطاء هوية جديدة للأرض والقاطنين عليها، ينسف إرثهم وأوثانهم وأقنعتهم وقيمهم وفنون عيشهم، ومعتقداتهم السحرية. يحفّز الأسئلة التي استغرقنا قرناً أو أكثر لنحصل على إجاباتها، بغية إنقاذ الإنسان... ذلك المجهول.

* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية