اختبرت المنطقة العربية محاولات تغيير باحتجاج شعبي، صاخب وغير مسبوق، في أكثر من بلد عربي، في مشرق المنطقة ومغربها. آخر المحاولات حصل في كل من السودان والجزائر، ويمكن إضافة لبنان إلى المحاولتَين الأخيرتين. لا يتّسع المجال، هنا، للذهاب عميقاً في تناول كلّ تلك المحاولات، قديمها والجديد، بيد أنّه لا يمكن، في المقابل، تجاهل الأساسي من خلاصاتها، ودروسها في التعامل مع الحالات المستمرة والمتوقعة، ومنها الحالة اللبنانية.سادت بشأن الاحتجاجات الواسعة والهائلة، التي اندلعت ابتداءً من تونس وصولاً إلى مصر وسواها، نظريتان مبالغ بهما: الأولى، تقدّس الحدث تحت عنوان «الربيع العربي»، وتعتبره مساراً ينبغي تعميمه في معظم البلدان والحالات. والثانية، تشيطن تلك الاحتجاجات، وترى فيها عملاً تخريبياً مدّمراً، للإجهاز على كل ما تبقى من قوى مقاوِمة للمشاريع الأميركية والصهيونية والرجعية في المنطقة. تعاظم هذا التقييم، خصوصاً، بعد انطلاق الاحتجاجات في سوريا، في آذار من عام 2011، وقبلها في ليبيا، في تاريخ ليس ببعيد. النظريتان اتّسمتا بالتناول الجزئي والذاتي، ففي حين رحّبت السلطة السورية وحلفاؤها بما جرى في تونس ومصر، رفضت، بالمطلق، الاحتجاجات ضد سلطة العقيد معمّر القذافي في ليبيا. حصل عكس ذلك تماماً بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، التي أزعجها كثيراً الحدثان التونسي والمصري، بينما أطلقت أبواق ترحيبها بالاحتجاجات الليبية والسورية، محرّضة على التدخّل المباشر في الأزمة السورية، الأمر الذي حصل، فعلاً، على النحو المعروف طيلة سنوات الأزمة وحتى يومنا هذا.
رغم التباين الهائل اجتمع الفريقان، أيضاً، على اختصار الاحتجاجات بنتائجها، وبانعكاساتها على لوحة الصراع العام في المنطقة، وعلى السلطة نفسها في البلدان المعنيّة أو المتصارعة. لكنّهما افترقا بالكامل بشأن الدورين، المحلّي والخارجي في الاحتجاجات. ذلك أن الفريق المرحِّب بالاحتجاجات حاول (تبعاً للبلد المعني) حصر أسبابها بالعامل الداخلي فحسب، بينما ركَّز الفريق الثاني على الدور الخارجي، بوصفه قوة التحريض والتحريك والاستثمار الحاسمة.
الواقع أنّ كلا الفريقين تعامل، أكثر مع النتائج، دون الأسباب. مقياس الحكم تركَّز على مآلات الأمور والطرف المستفيد في نهاية المطاف. هكذا، فإنّ الحكم تبدّل، غالباً، بحسب المصلحة، ولو انطوى الأمر على تناقضات فاضحة، لجهة أنّ الدول الأكثر ترحيباً بالاحتجاجات عموماً، كانت دولاً محافظة متشدّدة ضد وجود أي رأي آخر، فضلاً عن افتقادها لمجرّد وجود الدساتير، حيث يختصر القرار فيها بإرادة ملكية «سامية»!
لم يتح لوجهة نظر موضوعية، بشأن الانتفاضات، أن تحجز مكاناً ملحوظاً في مجرى التطورات. الواقع أنّ التغيير باتجاه العدالة والحرية وحقوق الإنسان، كان حاجة ملحّة وشاملة، خصوصاً في البلدان التي ظلّت نسبياً بعيدة عن الاحتجاجات المباشرة. لكن، أيضاً، الدور الخارجي كان كبيراً وخطيراً. وهو تجلّى أكثر ما تجلى، في تقرير كامل النتائج السلبية التي انتهت إليها «الثورات»، والتي ما زالت ارتداداتها مستمرّة في تخريب بلدان بكاملها: ليبيا وسوريا بالدرجة الأولى...
ما يجب التوقف عنده، هو أنّه قد جرت الاستفادة من دروس التجارب السابقة في الاحتجاجات المشابهة الجديدة، في كلّ من السودان والجزائر. صحيح أنّ النجاحات هنا محدودة، لكن الخسائر، أيضاً، قليلة نسبياً. نضوج العامل الداخلي في شقّيه الموضوعي (الظروف الدافعة المشحونة بالتناقضات والانعكاسات)، والذاتي، لجهة بلورة مسار ووجهة وأولويات وإطار قيادي مناسب، هذا النضوج، ولو في حدّه الأدنى، هو أمر جوهري في التأثير بالمسارات والنتائج. لكن العامل الخارجي حاضر دائماً أيضاً: سواء في البدايات أو في المجريات. والخارج هو، غالباً، إقليمي ودولي، بالإضافة إلى العدو الإسرائيلي الذي هو، دائماً، مراقب ومتربّص ومتدخّل للاستثمار وتحقيق المكاسب. بديهي أنّ العامل الخارجي، وخصوصاً عبر تفاعله مع قوى داخلية، سيزداد تأثيره على صعيد حسم النتائج. هذا ما حصل في مصر، التي افتقر حراكها الشعبي إلى قيادة وبرنامج ومسار تنظيمي، ما جعل «الإخوان المسلمين» يقطفون نتائج الثورة في مرحلتها الأولى، والجيش في مرحلتها الثانية، ودائماً برعاية أميركية مثابرة ومباشرة!
لا شك في أنّ لكلّ حالة ظروفها وشروطها الخاصة بها، لجهة نسبة حضور العوامل الداخلية والخارجية ومستوى تأثير كلّ منهما. هذا شأن ينطبق طبعاً على الوضع اللبناني. هو وضع معقّد، بلغت تناقضاته (بسبب النهب والفساد وسوء النظام والإدارة) مستوى غير مسبوق، مطاولاً كتلة شعبية هائلة ما لبثت أن نزلت إلى الشارع كردة فعلٍ طبيعية، بسبب ما لحق بها من خسائر فادحة، وما يتهدّدها من مخاطر كوارثية. يأتي ذلك وسط تفاعل مجموعة من السلبيات الإضافية في الوضع اللبناني، الذي لم يُتَح له أن ينعم بالاستقرار، بسبب الخلل الجوهري القائم في منظومة حكمه، التي استقرّت على محاصصة طائفية فئوية شاملة وتابعة. عطّلت المؤسسات، وأقامت عوضاً عنها مزارع ودويلات تعتاش على حساب الدولة والمواطن. أملى ذلك أنّ التغيير في لبنان بات عملية معقَّدة (وسط تدهور وانهيار مروّعَين) ينبغي أن تقترن بإعادة تأسيس شاملة، وليس بمجرّد إصلاحات جزئية، كتغيير أشخاص أو زيادة الرقابة وتحسين الأداء...
لكن في لبنان، أيضاً، تجربة مهمّة وفريدة، هي تجربة المقاومة وحضورها المنتصر في ساحة الصراع اللبناني ـــ الصهيوني، وفي مشهد الصراع العام في المنطقة. هذا الأمر يضاعف من الاهتمام الخارجي بالوضع اللبناني، وهو هنا، اهتمام متآمر أميركي ـــ صهيوني وعربي ملتحق، لضرب المقاومة بأي شكل ممكن، بما في ذلك عبر الأزمة الاقتصادية، وما يمكن أن يدور بشأنها من صراعات ومناورات، سعياً إلى إغراق البلاد، ومعها المقاومة، في فوضى تمنعها من الفعل والتأثير والاعتراض (خصوصاً على الخطة الأميركية ـــ الصهيونية التصفوية باسم «صفقة القرن»).
في المشهد اللبناني، أيضاً، إنّ قوى منظومة المحاصصة متمرّسة وممسكة بناصية السلطة والاقتصاد والأمن والإعلام والعصبيات والعلاقات الخارجية... أما في المقابل، فقوى التغيير الجذري التقليدية القديمة، ضعيفة ومشتّتة ومأزومة في علاقتها بأكثرية اللبنانيين، وخصوصاً بالجيل الشاب منهم. بسبب ذلك، كانت القوى المبادرة للاحتجاج والمثابرة عليه قوى عفوية عموماً، دفعت بها الأزمة إلى الشارع بغير أن تمتلك الأدوات الضرورية لقيادة الاحتجاج بشكل سليم. هذه العفوية المقرونة، غالباً وبشكل غير عفوي، بأحكام مسبقة عن «خطر» التنظيم وعن البرامج وعن وحدة القيادة، هي أيضاً، إضافة إلى انعدام الخبرة والمشروع، ثمرة تدخّل مثابر من قبل قوى داخلية وخارجية لإبقاء حركة الاحتجاج قابلة للتوجيه والتوظيف في خدمة مصالح مشبوهة خارجية وداخلية.
لا يجوز أن تتجاهل القوى الوطنية، وهي قوى واسعة جداً، هذا الأمر. الحذر أكثر من ضروري، أوّله المراقبة اليقظة لحركة الأفراد والمجموعات التي تديرها قوى خارجية أو داخلية، لأهداف سياسية تتعارض مع المصلحة الشعبية والوطنية. الخروج من حالة التشتت والضعف، والتشكل في مشروع سياسي ذي أولويات وإطار وبنية قيادية، سيساعد في فضح الجهات التي تعمل بتوجيه القوى المتآمرة، وسيزيد من قدرة القوى الوطنية على ممارسة دورها الإنقاذي الوطني المنشود.
* كاتب وسياسي لبناني