فَرَضيّة سوريالية: ماذا لو أنّ وباء «كورونا» كان قد انتشر مطلع عام 2011، فهل كانت حشود ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي» ستستَظِلّ بشعارات ذاك الربيع؟ وتخوض غمار تجارب «الثورة»، «الحراك»، «الانتفاضات»، إلخ؟ فَرَضيّة واقعية: لماذا انكفأت حشود ما اصطُلح على تسميته بـ«الربيع العربي» على طريقة «الحجر المنزلي"، بعدما وقعت في تَخَبّطات بعيدة عن أهدافها المشروعة والشرعية والمُحِقّة، وأيضاً المُتأخّرة عن ضرورة قيامها بمسافات ضوئية؟ الأسئلة كثيرة، والتناقضات في الإجابة تفتقر إلى التعريفات المُقنِعَة، لكن الوقائع المُمتدّة على أعوامٍ تسعة من زمنيات هذا «الربيع»، هي الأكثر إقناعاً بما صاغته الأيادي الخفيّة التي بَعثَرَت ما حَلُمَت به أيادي المُتعبين المنهوبة حقوقهم، والمهدورة كراماتهم، بين محيط وخليج مائيّين.
أما السؤال الذي نوجّهه إلى الدكتور طلال عتريسي، مؤلّف كتاب «بين صحوتين... الإسلام السياسي في شرق أوسط متحوّل»، الصادر عن «مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي»، فهو: هل حقاً أنّ صحوة إسلامية تحقّقت في «الربيع العربي» وحقّقت نتائج مماثلة للصحوة الإسلامية في إيران، والتي تكلّلت بثورة وقيام جمهورية إسلامية، عام 1979؟
ثمة استنتاج «خفي» يُبرزه المؤلف من دون أن يُفصِح عنه، وهو ما قَادَنا إلى استنتاج السؤال السابق، وذلك باستعادته لوقائع وصول حركة «الإخوان المسلمين» إلى سدّة الحكم في مصر وتونس، و«سعيها» للوصول إلى بلدان عربية أخرى، والفشل السريع (والمريع) الذي حقّقته أثناء ممارستها الحكم، مروراً بفصولٍ تناولها المؤلف تؤكد نجاح صحوة حصلت في عام 1979 في إيران، وإخفاق صحوة في العقد الثاني من الألفية الثالثة في الوطن العربي. فاختصرها بجملة مكثّفة: «فلم تتحقّق فرصة التكامل، ولا حتى فرصة التلاقي بين الصحوتين» (ص15).
ثمانية فصول عالجها الكتاب، بدءاً من السؤال الجديد (القديم) تحت عنوان «أسئلة الثورة»، فيقول: «فلماذا يعصف التغيير بهذا البلد أو ذاك، ولا يُكمل طريقه إلى باقي بلدان الاستبداد وملوكه وأمرائه؟ (من منّا لم ولن يستغرب كيف أنّ «الإخوان المسلمين» تصدّروا الانتفاضات، يومذاك، في دول معيّنة، في حين صمتوا عن الحراك المطلبي في البحرين والمغرب والأردن، على سبيل المثال؟).
لماذا انكفأت حشود ما اصطُلح على تسميته بـ«الربيع العربي» على طريقة «الحجر المنزلي» بعدما وقعت في تَخَبّطات بعيدة عن أهدافها المشروعة والشرعية والمُحِقّة؟


يعرض المؤلّف في فصل «في رئاسة مصر ــــ أخطاء الإخوان الاستراتيجية»، لمسيرة «الإخوان» منذ مشاركتهم «المتأخّرة» في النزول إلى الشارع، ثم في وصولهم إلى سدّة الحكم. كما يستعرض ما أسماه أخطاءهم الاستراتيجية، «التي أودت بعدم ثقة الأطراف التي شاركتهم «الثورة» في مصر ومنها ــــ كما يعدّد ـــــ أنّهم: «انشغلوا بالصراع على السلطة»، «تبنّي الخطاب السلَفي الراديكالي والنهج التكفيري الجهادي»، «تجاهلوا ضرورات الوحدة الوطنية والمشاركة السياسية من الأطراف كافة»، «استراتيجية التطمين للتمكين»، و«رسائل التطمين للخارج، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، والسكوت عن اتفاقيات كامب دايفيد مع إسرائيل، واسترضاء السعودية، والتمنّع عن استعادة العلاقات مع إيران، والذروة كانت في قطع العلاقات مع سوريا واستمرارها مع إسرائيل...». ليخلص إلى أنّ «الإخوان تعرّضوا لواحدة من أكبر الأزمات في تاريخهم، وخسرت صحوتهم فرصة يصعب أن تتكرّر في المستقبل، وخسر معهم الإسلام السياسي السنّي فرصة الحكم والتمكّن، التي أتاحتها الثورات العربية. لقد خسرت دول أخرى في الإقليم أيضاً، الرهان على هذه العلاقة مع مصر الإخوان» (ص67). توصيف المؤلّف يجعلنا نطرح سؤالاً آخر: هل لو نجح هذا النموذج من الإسلام السياسي السنّي، كان ليكون «صحوة»؟ وماذا عن باقي مكوّنات قومية وإثنية وطائفية في المجتمع العربي؟
هل خسرت دول أخرى في الإقليم أيضاً الرهان؟ سؤال طرحه المؤلّف، وتتبدّى الإجابة عنه في الفصل الذي يخصّصه للعلاقة بين إيران وتركيا، بعنوان «التباعد التركي ـــــ الإيراني بعد الربيع العربي». نلاحظ أنّ خسارة وربح الطرفين المذكورَين تفاوتا في «الربيع العربي»، فحقّق كل طرف ما يوازي قوته وتحالفاته، لكنّنا لم نلحظ تباعداً عميقاً في التبادل المصلحي بينهما، بالرغم من التناقضات القصوى في المذهب والتحالفات التركية مع إسرائيل وأميركا، وعضويتها في «حلف شمال الأطلسي»، وعدائية إيران للقوى الثلاث المذكورة. كما أنّ المصالح الاقتصادية والتجارية بين الدولتين، كانت أساساً في استمرار قوة العلاقة، مع الإشارة إلى بروز التناقض في الموقف من الأزمة السورية. ومع ذلك، «لم ينزلق الطرفان بسبب هذا الخلاف حول مستقبل سوريا، إلى الصراع المذهبي أو إلى التوتّر، بقيت العلاقات هادئة والزيارات متبادلة على جميع المستويات» (ص202). الأمر الذي «يُطمئِنُنا» في جوهره، إلى لامذهبية الصراع في المنطقة؟!
ما طبّقته إيران الإسلامية من براغماتية سياسية في علاقاتها مع تركيا، طبّقته أيضاً مع حركة «حماس» (الإخوانية)، والتي يُفرِد لها المؤلّف من الصفحات ما يُوجِز ويؤكد الدعم الفعلي المادي والتسلّحي (النوعي) والمعنوي الذي قدمته إيران إلى الحركة، مع ما فاته أن «يشفي غليل» من تلقّى صدمة انتقال قادة «حماس» من محور إلى آخر، وبسرعة غير شفافة (مع الترحاب بعودتها). فلماذا لم يسأل المؤلف قادة «حماس»، كما في المقابلات الشخصية التي أجراها عام 2014 مع قيادات إخوانية في مصر؟ وهل يكفي ما ألمح إليه من تفسيرٍ لهذا الانتقال من محور إقليمي إلى آخر، بإشارته إلى أنّ «حماس استعادت أولوية انتمائها إلى تنظيم الإخوان المسلمين في فلسطين، الذي لم تُخفِ يوماً مرجعيته لها، قبل أن تعلن عن تحوّلها إلى حركة مقاومة إسلامية ضد الاحتلال»؟ (ص246).
قد يكون للإسلام السياسي في شرق أوسط متحوّل، وهو العنوان الفرعي للكتاب، ثوابته: تلاشي خلافة تنظيمات متطرّفة («داعش» و«النصرة» وأمثالهما)، «لأنّ هذا النوع من التفكير ومن الممارسات، لا يمكن أن تُكتَب له الحياة وهو مخالف لطبيعة المجتمعات التي عاشت دوماً على التنوّع» (ص161)، وأنّ فلسطين هي البوصلة، ولأنّ «دخول حزب الله للقتال في سوريا هو دفاع عن مشروع المقاومة في مواجهة المشروع الأميركي ـــــ الصهيوني المُعادي» (ص256).

*صحافية لبنانية